«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية . بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. لماذا وافق الجنرال «موشي دايان» على استقبالي؟ كان هذا هو السؤال الذي يُحيرني و أنا متوجه إلى وزير الدفاع، سنة واحدة بعد حرب الأيام الستة. فور وصولي إلى تل أبيب، تم استدعائي لوزارة الشؤون الخارجية من طرف مدير الشؤون الأوربية، «جيرشون أفنير» كي يُبلغَني بجفاء بأني غير مرغوب فيَ بإسرائيل. فمقالاتي حول حرب 1967 - التي شكَكتُ في الطبيعة «الوقائية» لها- اعتُبرت صادمة. و أشار إلى أن كبار المسؤولين بوزارته، كانوا منقسمين حول العقوبة التي أستحق، فالذين أرادوا منعي من دخول إسرائيل (خوفا من أن أكون ضحية اعتداء من «مجنون») أصبحوا أقلية أمام من اقترحوا مقاطعتي و وضعي على اللائحة السوداء التي تمنع الوزراء و كبار الموظفين من استقبالي أو التعامل معي، مُضيفا : « و بهذا ستكف - في نظر قرائك- عن أن تكون صحفيا موضوعيا، بما أنك لن تتصل إلا بالمسؤولين العرب». عبرت له عن استغرابي من أن تسمح دولة دمقراطية كإسرائيل لنفسها بمعاقبة صحفي على جريمة رأي. فأجابني بحدة : «لا يتعلق الأمر بأي صحفي. لا تنس أنك يهودي» و هي «خيانة» بما أن هذا اليهودي يكتب للصحيفة الأكثر تأثيرا في فرنسا، و المُعترف عالميا بجدية أخبارها. و قدم «جيرشون أفنير» تنازلا كبيرا حين وافق في الغد على منحي الحوار الوحيد الذي لدي الحق فيه. و كانت لغته الخشبية تُثير حنق أقل الصحفيين تطلبا، لكن لم يكن بإمكانه القيام بأفضل من ذلك، بسبب الانقسامات التي تسود داخل الحكومة. و قد وجد الجنرال «دايان» الذي يعرف جيدا كيف يستثمر علاقاته مع الإعلام، و الذي لا يقتسم بداهة رأي الحكومة، الوسيلة لتجاوز المنع الذي يتعلق بي. فمن جهة أولى، استقبلني في إقامته الخاصة و ليس في مكتبه، و من جهة ثانية اقترح علي «حديثا مفتوحا» عوض حوار مضبوط كان من شأنه أن يسمح لي بالاستشهاد به و ذكره في مقالاتي. و قد لاءمني هذا الترتيب جيدا، بما أني أعرف أن دايان، منذ تعيينه على رأس وزارة الدفاع يطلب ثمن الحوارات، التي يمنحها لوسائل الإعلام الأجنبية و خصوصا للقنوات التلفزية الأمريكية، غاليا - و في بعض الأحيان غاليا جدا- كما أنه لا شك كان يعلم أن «لوموند» سترفض منحه أي مقابل. اكتشفت في هذا اليوم، إنسانا مختلفا عن ذاك الذي حاورته قبل أربع سنوات من الآن. كان يضع كالمعتاد «شعاره» ، عصابة سوداء على العين اليسرى، و كان يلبس بنفس الطريقة المعروفة: سروال كاكي و قميصا ذا ياقة مفتوحة و صندلا خفيفا، بيد أن مزاج و تصريحات بطل حرب 1967 قد تغير بشكل جذري. ففي 1965، كان يُعبر عن إحباطه من كل شيء: من الكنيست الذي تصيبه النقاشات داخله بالملل، من حزب العمال الذي غادره للانضمام لحزب «رافي»، و هو التنظيم المنشق الذي أسسه بن غوريون و الذي لم يكن، حسب رأيه، سوى «سفينة إنقاذ « ذات مستقبل هش. لم يكن فخورا بالنصر الذي أحرزه سنة 1956 خلال الغزو الثلاثي الفرنسي-الانجليزي- الإسرائيلي، معتبرا أنه لم يكن باهرا كما يتصور الإسرائيليون، إذ حدثت عدة اختلالات تسببت في خسائر ثقيلة و بلا جدوى في صفوف الجيش الإسرائيلي. و كان يُضيف بأن الخطأ الرئيسي المُقترف هو التحالف مع باريس و لندن على حساب مصالح إسرائيل، حيث كان للقوتين الغربيتين ، عكس القدس، أهداف واهمة تماما أي إسقاط النظام الناصري و رفع التأميم عن شركة قناة السويس.بينما كانت استراتيجيته، بوصفه قائد هيأة الأركان، تهدف فقط إلى احتلال سيناء لمنع تسلل المخربين و ضمان حرية الملاحة في مضيق العقبة. و بالعودة إلى مذكراتي حول لقاء 1965 هذا، لحظة كتابة هذه السطور، اكتشفت أنه توقع - عامين قبل حرب الأيام الستة- بأن إسرائيل ستشن هجوما شاملا ضد مصر إذا ما فرضت هذه الأخيرة الحصار من جديد. خلال زيارتي له في بداية 1969، بدأ موشي دايان، على سبيل الترحيب، بمرافقتي في جولة لإقامته. كانت «فيلته» في تساحالا، الضاحية الراقية الواقعة على بعد عشرة كيلومترات تقريبا من تل أبيب، و الخاصة بكبار الضباط، توحي بجو مقرف. اكتشفت شبها ب»كفر ناحوم» (قرية صيادين صغيرة على ضفة بحيرة طبريا تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد و يعتبرها اليهود واحدة من قراهم.م) مليئة بالأطلال و اللقى من مختلف الأنواع: توابيت، شواهد قبور، أجزاء من تماثيل منحوتة و بقايا طينية. بينما كانت الأشجار و الأزهار القليلة تظهر بالكاد. كان الوزير يجمع التحف الأثرية خلال الحفريات التي تتم تحت إشرافه، من طرف وحدات من الجيش في أغلب الأحيان. فليس بدون سبب إذن ، يعتبره الخبراء واحدا من أكبر جامعي التحف في العالم. بل إن بعض المنشورات النادرة اتهمته بتحويل أملاك وطنية لفائدته، و بسلب التحف الثمينة قبل وصولها لمتاحف البلاد. أما الصحافة الكبرى فإنها إما تلتزم الصمت أو تدافع عنه، بينما المعني الأول بالأمر يتمسك بصمت مُتكبر و مُحتقر. و قد شنت»هاعولام هازيه»، صحيفة «يوري أفنيري» حملة ضد جشع وزير الدفاع (أحد المليونيرات النادرين في البلاد)، و ضد مغامراته النسائية، إلى حد كشفها عن تفاصيل علاقاته ببعض النساء. و اعتقدت الصحيفة أنها أحدثت فضيحة بكشفها أن «موشي دايان» كان يغادر اجتماعات المجلس الوزاري بالهيليكوبتير، من القدس إلى تل أبيب، كي يلتقي واحدة من عشيقاته الكثيرات، قبل أن يعود بواسطة نفس الوسيلة ليواصل الاجتماع الجاري. و كانت إبنته «يائيل» و إبنه «آسي»، اللذين أعرفهما شخصيا، كانا يتحدثان عن سلوك والدهما بامتعاض. أما الإسرائيليون، المعروفون بعفتهم، فقد كانوا معجبين ب»بطلهم الوطني» الذين اكتشفوا فيه «دون خوان» فاتن، و هو سبب آخر في نظرهم، لكي يخُصوه بعبادة حقيقية، كما تؤكد ذلك العديد من استطلاعات الرأي. و تعود شعبيته أولا إلى نجاحاته العسكرية، واكتساحه ثم إدارته للأراضي المحتلة التي أصبح الحاكم العسكري لها. و قد حدثني «موشي دايان» مطولا عن التدابير التي اتخذها، ضد رأي نظرائه في الحكومة في أغلب الأحيان، كي يجعل الاحتلال «ليبراليا، إنسانيا و كريما». و قد التُقطت هذه الصيغة من طرف جزء كبير من الصحافة الدولية، و توقعت أن يتناول تحقيقي بالضبط هذا الحكم الذي بدا لي مشكوكا فيه. و أول ما أثار استغرابي هو تحدث الجنرال دايان عن «الشعب الفلسطيني»، و هما كلمتان ممجوجتان من معظم الإسرائيليين، الذين يصفون السكان الأصليين ب»العرب» و للتدقيق أكثر يطلقون عليهم إسم «عرب إريتز إسرائيل» (عرب أرض إسرائيل). و لم تكن الإشارة إلى الوطن التاريخي للشعب اليهودي بالبريئة، بما أنها تحوي ضمنيا ثلاث رسائل: السكان الأصليونهم من «الخارج» بما أنهم ينتمون إلى الأمة العربية، فليس لهم إذن أي حق في التملك على الأرض المقدسة، و بالتالي فإن على اللاجئين عقب حربي 1948 و 1967 أن يندمجوا داخل الدول العربية «الشقيقة». و قد كان هذا التحليل مفارقا و مضحكا في نفس الوقت: ف»القومية العربية» الكاذبة التي يتحدث عنها الزعماء الإسرائيليون تتجاوز ببعيد قومية عبد الناصر، الذي تخلى عن أوهامه، حول تماسك العالم العربي منذ بداية الستينات. و هو ما لم يمنع «غولدا مايير»، التي قادت الحكومة من 1969 حتى 1974 ، من ترديد جملتها الشهيرة : «الفلسطينيون لا يوجدون و لم يسبق لهم أن وُجدوا أبدا»، و هي الصيغة المصقولة التي تبناها جميع دعاة الضم من كافة المشارب. و قد احتاجت هذه المهاجرة من أوكرانيا، المواطنة الأمريكية قبل أن تنزل بفلسطين إلى جرعة كبيرة من الثقة بالنفس و رباطة الجأش كي تقول بأن اليهود المهاجرين مثلها أم لا، لهم حق اعتبار أنفسهم «فلسطينيين». أثناء اجتماع عمومي بإسرائيل، كنت حاضرا فيه، صرخ «شالوم كوهين» ،المناضل من أجل السلام و الذي سيتم انتخابه في الكنيست، بالعربية متوجها إلى مواطنيه الفلسطينيين : «من الغريب أن اليهود الذين يمنحون أنفسهم تاريخا انتهى منذ ألفي عام، يرفضون الاعتراف بالأمة الفلسطينية المتجذرة على هذه الأرض منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا». كان شالوم يعتبر جزءا من هؤلاء الذين أصبح يطلق عليهم لقب «الحالمين الهامشيين»، الذين كانوا يقاومون ضد التيار و بشجاعة الموجة الشوفينية القوية التي اجتاحت البلاد منذ نصر 1967. و قد لاحظت مدى حساسية الطبقة السياسية الإسرائيلية حُيال هذه المسألة المتعلقة بالهوية، بمناسبة افتتاحية كتبتها سنة 1968 غداة اغتيال «روبرت كينيدي» من طرف سرحان سرحان، الذي نعتتُه ب»الفلسطيني اللاجئ في الأردن»، و هو ما كان حقيقيا. فبعد نقله من طرف الصحافة الإسرائيلية، أثار المقال زوبعة، إلى درجة أن أبا إيبان، و هو وزير الشؤون الخارجية حينها، صعد إلى منصة الكنيست ليشجب بشدة «الموقف المنحاز» لصحيفة «لوموند»، التي اتهمها ضمنيا بأنها تتمنى زوال دولة إسرائيل. فبالنسبة له لم يكن القاتل سوى عربيا أردنيا لا غير. و في المقابل كان الفلسطينيون و «أشقاؤهم» العرب، يرفضون من جهتهم نعت الإسرائيليين سوى ب»اليهود» الذين يسكنون «دولة إسرائيل المزعومة». و كانوا يعتبرونهم غُزاة استولوا على بلد ليس لهم، و عليهم بالتالي أن يعودوا منطقيا إلى البلاد التي جاؤوا منها. و قد تطلب الأمر انتظار أربع و أربعين عاما كي يتحقق الاعتراف المتبادل بالشعبين تحت الرعاية المزدوجة لكل من إسحق رابين و ياسر عرفات، بتوقيعهما اتفاقيات أوسلو. كان «موشي دايان» معروفا بصراحته الكبيرة، التي تصل درجة خدش الأساطير المؤسسة للصهيونية. و قد قال لي في هذا الصدد: «سيكون من غير النزيه، التكتم عن الحقائق التاريخية، و الحفاظ على أساطير فقط من أجل مجاملة الرأي العام». لم يكن يحاول تكذيب طروحات الوطنيين الفلسطينيين، بل كان على العكس يستخدمها من أجل حث شعبه على المقاومة. و حديثه معي لم يكن مختلفا عن تصريحاته العمومية. فقد صرح، مثلا، في أبريل 1969 متوجها نحو الإسرائيليين : «إعلموا أن كل القُرى اليهودية قد شُيدت على أنقاض بلدات عربية تجهلون حتى أسماءها، و لا يلومنكم أحد، بما أن هذه الأسماء لا توجد على الخرائط الجغرافية... لا يوجد أي مكان في هذه البلاد لم يكن مأهولا بالعرب». و كان قد صرح سنة 1956 أمام قبر «روي روتنبرغ» الذي قتله كوماندو فلسطيني متسلل : من الضروري فهم «الحقد العميق» الذي يستشعره الفلسطينيون تجاه الإسرائيليين. و رغم إلحاده، فإن دايان، مثله مثل جميع القادة الصهاينة، مؤمنين أم لا، كان يستشهد بالتوراة لتبرير عودة الشعب العبراني إلى أرضه مضيفا في نفس الخطاب: «لنكف عن اتهام القتلة... نحن جيل من المستوطنين، و بدون خوذات و لا مدافع ، لن يكون بمقدورنا زرع شجرة واحدة أو بناء منزل، لن نعيش إلا و السيف في يدنا». و المفارقة الأخرى هي أن دايان، الذي كان يردد دوما أنه لا يشعر بأدنى صداقة أو إعجاب بأي كان - حتى لأستاذه بن غوريون-، كان يبدو و كأنه يشعر بنوع من التعاطف مع رعاياه الفلسطينيين ، الذين كان يزعم أنه يعرف بعمق دوافعهم النفسية. كان يُلقب ب»العربي» و يُزعم أنه كان يُفضل رفقتهم على مصاحبة مواطنيه اليهود. لهذا فقد كان يُذكرني بأولئك الضباط الفرنسيين أو بعض «الأقدام السوداء» الذين كانوا يُعبرون عن نفس المشاعر حيال السكان المحليين «للجزائر الفرنسية». كان دايان ال»صابرا» ( المولود في فلسطين) من أبوين أوكرانيين، يتحدث العربية بطلاقة بسبب احتكاكه الكبير في فترة شبابه مع مواطنيه الفلسطينيين. و بعد الاحتلال، اعتاد التواصل بانتظام مع الأعيان المحليين، و الإنصات لشكاويهم و محاولة إقناعهم بأن التعايش اليهودي-العربي أمر ممكن حسب القواعد التي أقامها. و قد أوضح لي أنه يريد أن «يشعر الفلسطينيون بأنهم في بلدهم»، لكن بالحفاظ أيضا على روابطهم مع الأراضي الخلفية العربية، و أن يتمكنوا من السفر بحرية و مواصلة علاقاتهم الاقتصادية و التجارية مع مجموع الشرق الأوسط. و في هذا السياق دشن سياسة «الجسور المفتوحة» بين الضفة الغربيةالمحتلة و أردن الملك حسين، مما أثار الشك و القلق لدى مواطنيه، فربطت سيارات الأجرة بين القدس و عمان. و كان يؤكد بأن المبادلات التجارية مُربحة لإسرائيل، التي ستستفيد ليس فقط من خلال ترويج سلعها، بل و أيضا من أجل التزود بمنتوجات العالم العربي، مع ضمان مستوى عيش أكثر ارتفاعا للفلسطينيين، علما أن الدخل الفردي لهؤلاء ظل ست مرات أقل من دخل الفرد الإسرائيلي: 200 مُقابل 1200 دولار. و على نفس الروح، سمح دايان لعدة آلاف من عمال الضفة الغربية و قطاع غزة بالتوجه إلى إسرائيل للعمل، شرط أن يعودوا إلى بيوتهم مع هبوط الظلام. و بالرغم من أنهم كانوا يتقاضون أجورا أقل و لا يستفيدون من أية حماية اجتماعية، فإن هؤلاء العمال يتفادون بذلك بطالة مزمنة، فيما كان أرباب العمل الإسرائيليين فرحين بيد عاملة رخيصة. و على غرار الكثير من القادة قبله (الزعماء الفرنسيين بالجزائر خلال الجمهورية الرابعة، مثلا)، و القادة الذين خلفوه، حتى «بنيامين نتانياهو» في نهاية العشرية الأولى للقرن الحادي و العشرين، فإن دايان كان يعتقد بأن الرفاه هو القاعدة المتينة التي تستند إليها العلاقات المتناسقة بين قوة الاحتلال و المواطنين المحتلين، مما يجعل نزع الاستعمار أمرا لا ضرورة له. هؤلاء المتفائلون كانوا يستخفون بالمطالب الحيوية، بل البيولوجية للشعوب من أجل سيادتها بصرف النظر عن أي اعتبار آخر اقتصادي و اجتماعي. و في سياق التهدئة، قرر دايان أو «امبراطور الأراضي المحتلة» كما كان يُلقب، السماح ببعض الحريات. و بالنظرة الأولى لم يبدُ لي هذا التسامح خادعا. لكن فيما بعد سيتحول هذا «الاحتلال الليبرالي» بالتدريج إلى نظام قمعي سافر. ففي تلك الفترة لاحظت مثلا ، خلال تنقلاتي العديدة في الأراضي المحتلة ، أنه لا وجود لأي عسكري أو دورية إسرائيلية على الطرقات أو البلدات، فيما كان السكان يتوجهون لقضاء أغراضهم بشكل عادي. بل أكثر من هذا، فإنه كان بإمكان الفلسطينيين التنقل بحرية إلى داخل إسرائيل، و كثير منهم اغتنم تلك التنقلات لزيارة، لا تخلو من حزن و حنين، للأرض التي شهدت مسقط رأسهم ، حتى و قد ارتفعت الكيبوتزات على أنقاضها. و قد أكد لي مُحررو الصحف العربية التي تصدر بالقدس أنهم يمارسون بكل تأكيد الرقابة الذاتية، إلا أنهم لم يكونوا ممنوعين من التعبير عن المشاعر الوطنية للسكان. كانت رايموندا الطويل،التي ستصبح فيما بعد حماة ياسر عرفات، و التي تتحدث و تكتب العبرية بطلاقة، تُنظم بمنزلها بالضفة الغربية اجتماعات إخبارية، غالبا ما تتم على شكل مآدب غذاء لفائدة صحفيين أجانب عابرين. و كانت الشخصيات، من منتخبين محليين أو أعضاء في المجتمع المدني، التي ألتقيها في بيتها، لا تُخفي تعاطفها مع منظمة التحرير الفلسطينية، مع انتقادها لبعض أهدافها اللاواقعية و لبعض أساليبها التي تؤدي لنتائج عكسية. و كنا كثيرون ممن نعترف بالفضل لرايموندا الطويل، ليس لكرمها فقط بل لكونها توفر لنا تشكيلة واسعة من مصادر المعلومات و الآراء المختلفة حول الوضع المعيش. و بفضلها و بفضل ضيوفها اكتشفت الوجه الآخر للعملة التي أخفاها عني موشي دايان بعناية. و هكذا علمتُ بأن أحزابا و منظمات (شيوعية أو قومية) لم تخرج من السرية التي أجبرها عليها النظام الأردني قبل الاحتلال، و قد منع الجنرال دايان بدوره ،تحت طائلة السجن، أي نشاط سياسي. كما تم حظر أية إضرابات أو مظاهرات حتى السلمية منها. و نُصبت محاكم عسكرية قاسية، تُصدر عقوبات سجنية «رادعة» و «لضرب المثال». و بدت مهمة الأجهزة الأمنية مُيسرة جدا، بفضل جيش من المخبرين الذين يجوبون البلاد و بفضل شرطة سرية موروثة عن النظام الهاشمي. فكان يتم ترحيل أكثر الناشطين السياسيين تحركا نحو الأردن حيث تنتظرهم المعاملة التي يمكن تخيلها. و في خرق للقانون الدولي، تم سحب رخص عدة نواد و جمعيات بدعوى أن أعضاءها «تحدثوا في السياسة». كما أن الاعتقال «الإداري» للمشتبه فيهم يدوم إلى ما لانهاية، دون توجيه اتهام أو محاكمة. و قد بلغ عدد هؤلاء الموقوفين إداريا حوالي 3000 سنة 1969، فيما وصل عددهم سنة 2008 إلى أكثر من 11 ألفا. و في المحصلة - تقول صحيفة «ها ارتز»- فإن حوالي 700 ألف فلسطيني قد مروا بالسجن ما بين 1967 و 2008، أي خمس السكان الفلسطينيين. و قد أُصبت بقلق شديد جراء ما كشفه لي معتقل شيوعي سابق، خلال لقاء سري،حيث وصف لي بتفصيل دقيق أساليب التعذيب التي مورست عليه، خاصة بواسطة الكهرباء، كاشفا آثارها البادية على جسده. و المفارقة الغريبة هي نظرة الوطنيين السيئة لحزبه، لأنه ساند دوما مخطط تقسيم فلسطين و حق دولة إسرائيل في الوجود.و كان خطأه هو النضال لصالح دولتين، واحدة صهيونية و الأخرى فلسطينية تعيشان جنبا إلى جنب بسلام. و تلقيت عدة شهادات مماثلة لشهادته من طرف معتقلين سابقين عانوا أيضا من التعذيب. و لاحظت بأن التعذيب ليس عملا معزولا، في الوقت الذي تعمد فيه الصحافة إلى حمد هذا الاحتلال «اللطيف». و قد حثني الأطباء و المحامون الذين عززوا هذه الشهادات، و أغلبهم يهود إسرائيليون، على تنبيه الرأي العام. فذكرت الموضوع بحذر و اقتضاب في أحد مقالاتي المبعوثة لصحيفة «لوموند»، إلا أني فوجئتُ بشكل كبير حين اكتشفتُ أن كل الإحالات عن سوء المعاملة قد تم حذفها من طرف الصحيفة. و يبدو أن إدارة «لوموند» قد اعتبرت، لسبب حقيقي للأسف، أن قراءنا ليسوا مستعدين للاعتقاد و لو لوهلة واحدة، بأن ناجين من النازية يقومون بمثل هذه الممارسات. فالصحيفة قد تتعرض، كما حصل فعلا حين يتعلق الأمر بإسرائيل، لموجة من رسائل الاحتجاج و سحب الاشتراكات. خاصة و أن الحكومة الإسرائيلية كانت تُكذب بقوة الاتهامات التي وجهتها بهذا الخصوص بعض المنظمات الدولية لحقوق الإنسان. الحلقة المقبلة: القمع للفلسطينيين والمستوطنات لليهود