«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية . بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. لدى عودتي للقاهرة سنة 1963، اكتشفت بأن النظام الناصري قد نجح، خلال بضع سنين، في إعادة «مصر للمصريين»، طبقا لشعار القوميين في بداية القرن العشرين. فبتجولي داخل مركز المدينة، اكتشفت بأن الأقليات المُتَأَوربة، أو الخَواجات، و كانوا الوحيدين تقريبا الذين يظهرون في الأحياء الراقية، قد اختفوا. و أصبحت الشوارع تغص بأهل البلد، المنحدرين من فئات اجتماعية فقيرة، يرتدون البذلة أو الجلابية، يتعممون أو يضعون الطربوش، و هم الذين لم يكونوا في عهد الملكية يُغامرون بولوج الأحياء الأوربية: إذ كان رجال الشرطة يوقفونهم للتحقق من هوياتهم. و قد فاجأتني التغيرات الكبرى، فاللافتات العربية حلت محل اللافتات باللغات الأجنبية، كما أن البائعات مُتعددات اللغات في المتاجر الكبرى قد تَرَكن المكان لشابات لا تتكلمن سوى لغة البلاد، أنيقات اللباس مع مساحيق قليلة في الوجه مُتحررات بشكل واضح. أما الزبونات، و النساء العابرات للشوارع أو اللواتي يسُقن سياراتهن فلم يكن يضعن الحجاب. فقد خفت وَطأَةُ التقاليد، و بدا عدة أزواج من الشبان و الشابات يتجولون على ضفاف النيل و هم يمسكون بحنان بأيدي بعضهم البعض. و على مدى عدة كيلومترات على الكورنيش تناثرت الفنادق الفخمة و قاعات الشاي و الكازينوهات و عُلب الليل. و هنا كما في أي مكان، في المقاهي كان لاعبو النرد يتواجهون بصَخَب و هم يدخنون النرجيلة في الغالب. شعرت ببعض التأثر و أنا أصل إلى ساحة الإسماعيلية الكبرى، و التي تغير إسمها فأصبحت تُسمى ميدان التحرير، حيث شهدتُ قبل عشرين سنة القمع الدموي لمظاهرة كبيرة طالبت بالاستقلال، و التي رأيتُ فيها شابا، كان يتظاهر إلى جانبي، يسقط تحت رصاص قوات النظام. أما الثكنات البريطانية، بحيطانها العالية و بواباتها الثقيلة و المدرعة، التي كانت تحيط بالساحة فقد تم تدميرها. و على مقربة من الساحة و حولها نبتت، مثل الفطر، عمارات هائلة. و في الأفق تظهر ناطحات سحاب من عشرين أو ثلاثين طابقا تُشرف على المدينة. كما تم تدمير بعض الأحياء الشعبية التي اعتُبرت غير صحية، و شُيدت محلها صفوف عمارات تقدم شققا بسومة كرائية رخيصة كان الرئيس المصري ينوي بيعها لساكنيها الراغبين في ذلك قبل أن يكتشف بأن هؤلاء لا يتوفرون على الإمكانيات الكافية لأداء الأقساط المطلوبة. كما أن دمقرطة الثقافة و العلم قد شاعت. فمجانية التعليم - من روض الأطفال حتى صفوف الجامعة - قد فتحت باب العلم أمام الطبقات الشعبية. و شرح لي أحد المسؤولين، بأنه كان يتم تشييد مدرسة جديدة كل يومين في المتوسط. و تضاعف عدد تلاميذ الثانويات و طلبة الجامعات مرتين خلال أقل من عشر سنوات.فيما كانت دروس مسائية تقدم للعمال معلومات عن الاقتصاد و التخطيط و التدبير و الاشتراكية و الفنون التشكيلية حتى. أما المتاحف و المسارح - التي تم تخفيض واجب الدخول إليها بشكل كبير - فلم يسبق أن شهدت هذا الكم الهائل من الرواد المنحدرين من الطبقات الشعبية. «ارفع رأسك يا أخي ، فقد انقضى عهد الذل» جملة عبد الناصر هاته التي أطلقها غداة الثورة، و التي فجرت دويا من التصفيقات و صيحات الفرح لدى الجماهير التي كانت تنصت له آنذاك، أصبحت شعارا مكتوبا على اللافتات في طول البلاد و عرضها. كانت خًطب الريس الحماسية تجذب - كما لاحظت ذلك في العديد من المرات- مئات الآلاف من الجماهير.فقد كان عبد الناصر يتحدث بلغة شعبية مفهومة من طرف الجميع، متعلمين و أميين، قاطعا بذلك مع استعمال العربية الفصحى التي كان يستخدمها رجال السياسة في عهد الملكية. و كان صوت زعيم ثورة 23 يوليوز قويا و دافئا، سواء حين يتحدث بنبرة حميمية أو حين يرفع صوته بإيمان، مما يثير الحماس لدى الجماهير. و كان الخطيب المفوه قاصا بارعا، يتحكم في جمهوره بشكل يُعطي الانطباع بأنه يتوجه إلى كل واحد منهم شخصيا. كان يستشهد غالبا بأحداث من التاريخ المعاصر، التي يعرفها الجميع، ليذكرهم بنجاحات و إخفاقات نضال الشعوب ضد المستعمرين. و كانت كلمتان تتكرران دوما في خطبه و هما : «العزة» و «الكرامة» - و هما الكلمتان اللتان سنجدهما في قلب المظاهرات التي أطاحت بحسني مبارك - اللتان كانتا تُلهبان مواطنيه الذين عانوا من الإهانات التي كانت تُوجه لهم ، في العهد القديم، من طرف الاحتلال و الإقطاع و مالكي المقاولات. على عكس ما يعتقد الكثيرون في الخارج، فإن صدقه كان بديهيا إلى درجة أن المصريين لم يكونوا يعتبرونه دماغوجيا. فالحب الذي كان يُكنه له مواطنوه كان لأسباب متعددة هم وحدهم يعرفونها. فقد كان المصري الأصيل الأول الذي يحكمهم منذ قرون، و كان الأول الذي ينحدر من أصول متواضعة. فعائلة إبن ساعي البريد هذا تنتمي للفلاحين الفُقراء في مصر العليا. و كان من جهة أخرى أحد الضباط القلائل في الجيش الملكي الذي لا يدين بأي وساطة لنجاحاته في مختلف المباريات، و الترقيات المتتالية التي رفعته إلى رتبة عقيد، و تعيينه في سلك أساتذة أكاديمية هيأة الأركان العامة و هو لما يتجاوز الثلاثين من عمره. لا أحد كان يجهل تجربته العسكرية ضد دولة إسرائيل سنة 1948. و كان يحظى بالتقدير لكونه نجح في قلب الملكية دون إراقة دماء, كما عرف كيف يحرك الاعتزاز الوطني من خلال سلسلة من الإنجازات الكبيرة، و خاصة إجلاء قوات الاحتلال البريطاني و تأميم شركة قناة السويس الفرنسية-البريطانية و بناء السد العالي. و فوق هذا جميعه، كان الرجل يفرض الهيبة بمعارضته الشجاعة و الصلبة للقوى الكبرى التي كانت تحاول المس بالسيادة المصرية. و في بلاد كان الفساد فيها هو القاعدة، حظي الرئيس المصري بالاحترام لاستقامته، بالرغم من أن بعض المقربين منه، قد اغتنوا بصورة غير مشروعة طوال سنين. أما أسرته و هو نفسه فقد كانا يعيشان حياة البورجوازية المتوسطة التي كانا يتقاسمان معها الآداب والأخلاق. فقد كان معلوما لدى الجميع أنه لم يكن يقبل أبدا الهدايا الشخصية، إلا إذا تعلق الأمر بربطات العنق، التي كان يُحبها بشكل غريب و يملك منها، حسب الإشاعات، عددا كبيرا. يقول عنه أحد عملاء «السي آي إيه» الذي يزعم أنه يعرفه بشكل جيد : «المشكل مع عبد الناصر هو أنه لم يكن له نقطة ضعف، فلم يكن بالإمكان شراؤه و لا تهديده. كُنا نحقد عليه حقدا كبيرا، لكن لم يكن بمقدورنا عمل شيء ضده. لقد كان نظيفا أكثر من اللزوم...»، بيد أن عدم تعلق الريس بالمنافع المادية كان يجد تعويضه في تعطشه الكبير للسلطة الشخصية. و رغم شرعيتها، فإن لسياسة التمصير جانبها الآخر، فهجرة مئات الآلاف من المنتمين ل»الأقليات» قد شوه مصر التي كُنت أعرفها في سنوات شبابي، متسامحة، غنية بتنوعها المبدع و تنوع طوائفها التي كانت تساهم بشكل واسع في الحياة الاقتصادية و الثقافية للبلاد. يونانيون و إيطاليون و إنجليز و فرنسيون أو يهود من كافة الجنسيات، و معظمهم يعيشون في شروط متواضعة، كانوا ضحية لتدابير تمييزية، في أعقاب تأميم معظم الشركات الكبيرة و المتوسطة، و باتوا بشكل عام يُعانون من عدم الإحساس بالأمان الذي كانت تثيره قومية متطرفة و حادة. فبحزن اكتشفت الإسكندرية، المدينة الكوسموبوليتية بامتياز، مَوئل كبار المثقفين و الكتاب ذوي الأصول الأجنبية، فوجدتها قد فقدت وهجها. فالأحياء السكنية، مثل أحياء القاهرة و ضواحيها، فقدت ساكنتها و حلت محلها بورجوازية محلية قليلة الاهتمام بالمظاهر الجمالية، كما تشهد بذلك العمارات المُهملة. و أخذتُ أحلم: لماذا لم يكن ممكنا «إعادة مصر للمصريين» دون التسبب في هذه الأضرار الجانبية الكبيرة؟ و بغير قليل من الحزن قُمتُ بزيارة قبور والدي، المتوفيين أثناء إقامتي في فرنسا. و كان باديا أن المقبرة لم تتلق أي عناية منذ سنوات طويلة. و قد صُدمت حين رأيت قبورَ جميع أقاربي التي تعرضت للتدنيس، في حالة متقدمة من التدهور. لقد حرمتني مصر الجديدة من مجموع أقاربي و من عدد من أصدقائي أو معارفي الذين أخذوا طريق المنافي. لقد غادروا بالتدريج مع ازدياد التوترات و المواجهات بين مصر و إسرائيل. و كانت الظاهرة بدون مثيل: فبينما غادر 4000 آلاف يهودي فقط وادي النيل خلال ثلاثين عاما (1917-1947) فإن حرب 1948 لم تتسبب سوى في رحيل حوالي عشرين ألفا من اليهود. أما الستون ألفا المتبقون، المرتبطون بشكل وثيق بالبلاد، فقد اعتقدوا واهمين بأن مستقبلهم كان مضمونا مع ذلك، طالما أن الصراع العربي-الإسرائيلي، سيتم حله دون تأخير كما كانوا يعتقدون. و جاء صعود «الضباط الأحرار» للحكم، في يوليوز 1952 ، فلم يُقلقهم كثيرا، خاصة و أن القادة الجدد طفقوا في طمأنتهم، مُرددين بأنهم يُميزون بين الصهاينة و اليهود، الذين هم مواطنون كاملو المواطنة. فقد توجه الجنرال نجيب، أول رئيس للدولة، مرفوقا ب»الرجل القوي» للنظام جمال عبد الناصر إلى الكنيس اليهودي الكبير في شارع عدلي باشا لتقديم تهانئهما، و كان هذا عملا غير مسبوق، حتى في عهد الملكية، حين كان اليهود يتمتعون بالاحترام من طرف الطبقة الحاكمة، بمن فيهم الملك نفسه. و من جهة أخرى، فرض النظام الجمهوري الجديد سلسلة من التدابير للمساهمة في إعادة بناء و إعادة فتح المتاجر اليهودية الكبرى التي تعرضت لإضرام النار خلال مظاهرات «السبت الأسود» (التي يُجهل لحد الآن مُدبروها) التي اندلعت في يناير 1952، أي ستة شهور قبل الانقلاب العسكري الناصري. لا شيء كان يُشير إلى أن الحكام الجدد كانوا يتمنون رحيل اليهود، حتى وقع حادث سيُلطخ سمعة الطائفة اليهودية. ففي أكتوبر 1954، تم اعتقال 13 شخصا، معظمهم يهود مصريون، أعضاء في شبكة سرية، متهمين بالتجسس و بأعمال إرهابية. فقد قاموا، بتعليمات من المخابرات الإسرائيلية، بتفجير قنابل بالقاهرة و الإسكندرية، و خاصة في مؤسسات أمريكية. و كان الهدف السياسي منها هو إلصاق مسؤولية العمليات بالحكومة المصرية و بالتالي وقف تطور العلاقات الجيدة بين مصر و الولاياتالمتحدة، التي كانت تُقلق الدولة العبرية. و قد انتحر أحد أعضاء الشبكة، الضابط الإسرائيلي «ماكس بينيت» خبير التجسس، في سجنه، بينما تم الحكم على اثنين من رفاقه - و هما يهوديان مصريان - بالإعدام و نُفذ فيهما. كانت العقوبة قاسية بشكل خاص، فعملية التخريب لم تُؤد إلى سقوط أي ضحايا و لا إلى خسائر كبرى. إلا أن عبد الناصر رفض العفو عن المحكوم عليهما، مُعتبرا أنه لا يمكنه السماح بأي تسامح بعد أن شنق، قبل بضعة أيام، خمسة من الإخوان المسلمين خططوا لاغتياله. كما كان عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الغضب المتصاعد لدى الرأي العام. و من البديهي أن تورط يهود مصريين، لأول مرة في النزاع لحساب إسرائيل، قد ألحق الضرر بصورة جميع أعضاء الطائفة، الذين لم يشك أحد من قبل في ولائهم للوطن. و قد استغل المعادون للسامية و القوميون الشوفينيون هذه الحادثة لكي يشنوا حملة ضد هذا «الطابور الخامس» العامل لفائدة الأجنبي. و اتهمت الصحف الإسرائيلية، يمينية كانت أو يسارية، باستثناء صحيفتين كبيرتين هما «ها إرتز» و «ألهامشمار» (لسان حال الحزب الصهيوني اليساري مابام)، القاهرة بتبني أساليب النازية، و أنها اختلقت القضية لتبرير قمع اليهود. بينما لم تر منظمات يهودية أمريكية في القضية سوى مقدمة ل»هولوكوست» جديد. و وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» عبد الناصر باعتباره «هتلر النيل». و بغض النظر عن التطرف اللفظي، فإن الإدانة التي تسبب فيها الحادث كانت مفهومة، لأن قليلين من كانوا يعتقدون بتورط إسرائيل في المؤامرة. فباستثناء كمشة من كبار موظفي وزارة الدفاع، لم يكن باقي المسؤولين الإسرائيليين يعرفون شيئا عن الدور الذي لعبته مخابرات الدولة اليهودية. و لأن الوزير الأول الإسرائيلي «موشي شاريت» أُبقي أيضا خارج الموضوع، فقد شَجَب بشكل كبير، في خطاب له أمام الكنيست، «الأكاذيب الخيالية» للحكومة المصرية، و أشاد بالمتهمين، الذين لا ذنب لهم ، حسب ما يعتقد، سوى أنهم صهاينة. و الواقع أن المؤامرة قد دُبرت من طرف النجوم المُقبلة للساحة السياسية الإسرائيلية، خصوصا منهم الجنرال «موشي دايان»، رئيس الأركان حينها و «شيمون بيريس» المدير العام لوزارة الدفاع، و «بنيامين جيبلي» رئيس المخابرات العسكرية، و قد عملوا سرا و بدون موافقة الوزير الوصي «بنحاس لافون». و قد قدم هذا الأخير استقالته بعد أن حصل على الموافقة القبلية لدافيد بن غوريون، الذي اعتبر حكومة «شاريت» متسامحة أكثر مما ينبغي مع عبد الناصر، و الذي كان يرغب في العودة إلى الحكم من جديد. و خلف بالفعل «بنحاس لافون» على رأس وزارة الدفاع و شرع فورا في سياسة عدوانية - «نشيطة» كما كانوا يسمونها - حُيال «الدكتاتور المصري». و رغم أن هذا لم يتم إثباته، إلا أنه يبدو أن «الأسد الهرم» و مجموعة «الصقور» المحيطة به كانوا يريدون نسف الحوار الذي بدأ سرا بين شاريت و عبد الناصر من أجل وضع حد للنزاع، و لو بتنازلات من جانب الدولة اليهودية. أَ من أجل أن تكون القطيعة نهائية اختاروا توريط يهود مصريين - واضعين بذلك الطائفة برمتها في خطر- بينما كان بإمكانهم تكليف إسرائيليين حصرا بهذه المهمة؟ لقد تحققت آمالهم، مُفترضة كانت أم حقيقية: فقد تفاقمت التوترات بين القاهرة و القدس، كي تصل ذروتها في 28 فبراير 1955 بالهجوم الكاسح الذي شنه بن غوريون على بلدة محاذية لغزة. حيث قُتل فيها حوالي أربعين جنديا مصريا و أصيب عدة عشرات بجروح. و كان مبرر هذه «الغارة الانتقامية» غير المتناسبة هو قيام عدد من الفدائيين الفلسطينيين بالتسلل داخل إسرائيل. و الأمر الاستثنائي هو قيام عبد الناصر بإشادة عَلَنية بموشي شاريت حين تصريحه أن هذا الأخير «قد حاول تسوية المشكل بوسائل سلمية، فيما يسعى بن غوريون إلى أن يفرض علينا حلا بواسطة الحرب و العنف والإرهاب». و أضاف الريس، و هو يشجب احتلال سيناء من طرف الجيش الإسرائيلي خلال «العدوان الثلاثي»، في نفس هذا الحوار المنشور في صحيفة الأهرام شبه الرسمية، يوم عاشر مارس 1957، أن إسرائيل «دولة توسعية، تحركها قوى عظمى». و كان لا بد من انتظار حوالي عشرين عاما - بالضبط سنة 1975 - كي تظهر تقريبا كل خبايا «قضية لافون» إلى العلن. فلأول مرة، تتحمل الحكومة الإسرائيلية مسؤوليتها كاملة عن العمليات التي جرت بالقاهرة في 1954. بعد أن نجح بن غوريون و رفاقه في وضع غطاء رصاصي كامل على «اللطخة» كما دأبوا على تسميتها تلطيفا. فقد فُرضت رقابة صارمة طيلة عقدين من الزمن على القضية حفاظا على سمعة وزارة الدفاع، فيما كانت في الواقع حماية للمُذنبين. كما أنه لم يعد من الممكن الحفاظ على السر بعد الإفراج ، غداة حرب 1967 العربية الإسرائيلية، عن أعضاء الشبكة الصهيونية الذين قضوا سنوات طويلة في السجن. فقد تحدوا الرقابة و كشفوا للإعلام الإسرائيلي روايتهم للأحداث. و هكذا عُلم أن السلطات المصرية كانت مستعدة لتسليم هؤلاء المساجين للدولة العبرية منذ انتهاء حرب 1956، في إطار اتفاق تم إبرامه من أجل مبادلتهم. إلا أن القاهرة فوجئت بعدم مطالبة المسؤولين الإسرائيليين بإطلاق سراحهم إلا في 1967 .و قد اتهم بعض أعضاء الشبكة علنا بن غوريون و موشي دايان بأنهما تعمدا تركهما في السجن أحد عشر عاما كي يحميا المسؤولين عن العملية. أما اليهود المصريون، فقد تدهورت وضعيتهم، بالرغم من التصريحات الرسمية التي تُشيد بوطنيتهم. فالتصريحات المتكررة لقادة تل أبيب بأن إسرائيل هي «وطن كل يهود العالم» و بالتالي مواطني الدولة العبرية، جعلت وضع اليهود المصريين عسيرا بشكل خاص. و هكذا تم إعفاء هؤلاء من المناصب «الحساسة» في الإدارة، و تعرضوا لتدابير بغيضة، لكنهم على العموم، واصلوا أنشطتهم في القطاع الخاص، محتفظين بالرغم من كل شيء، على بعض التأثير على الاقتصاد، الذي لم يكن قد تم تأميمه حينها بعدُ. و على عكس ما ادعته السلطات الإسرائيلية، فإن عبد الناصر لم يكن معاديا للسامية، كما أكد ذلك جيرانه القدامى من اليهود. تماما كما لم يكن الرئيس الأمريكي روزفلت عنصريا حين أمر باحتجاز المواطنين الأمريكيين من أصل ياباني بعد تعرض بيرل هاربور للهجوم سنة 1941 . فوالد الرئيس المصري كانت له علاقات ودية مع «توفيا هالفي بابوفيتش» حاخام الطائفة اليهودية. كما أن جمال عبد الناصر ترعرع صحبة جيران يهود، -حسب أعضاء عائلة يعقوب شموئيل التي نزحت إلى إسرائيل، و نقلت عنها صحيفة يديعوت أحرونوت- و ارتبط بصداقات متينة مع جيرانه اليهود، محتفظا بالاتصال بهم حتى أكتوبر 1956. إذ في هذا التاريخ، قامت القوات الإسرائيلية، و باتفاق مشترك مع باريس و لندن، بغزو سيناء قبل أن يتم إنزال القوات البحرية البريطانية و الفرنسية على السواحل المصرية. فهذا «العدوان الثلاثي» هو الذي أتى بالضربة القاضية على الطائفة اليهودية بمصر.إذ بُذلت كل المجهودات لدفع هذه الطائفة إلى الرحيل: تأميم المؤسسات إذا كان أصحابها «رعايا أعداء» من جنسية انجليزية أو فرنسية (و كانوا كثيرين)، مصادرة أملاك الذين لا جنسية لهم ( و هم في الواقع مصريون من زمن بعيد غير مُجنسين)، الطرد الانتقائي إضافة إلى تأشيرات «ذهاب بدون إياب» للراغبين في السفر إلى الخارج لأسباب مهنية أو عائلية. و هكذا هاجر معظم اليهود طوعا أو كرها، بعد أن فهموا بأن النزاع الإسرائيلي-العربي بتفاقُمه قد يستمر إلى ما لا نهاية.تلبدت أجواء العداء للأجانب لدرجة أن كثيرا من الأقليات غير اليهودية غادرت البلاد بكثافة: وصلت إلى أكثر من 200 ألف، حسب بعض التقديرات، أي ما يعادل أربع إلى خمس مرات عدد المهاجرين اليهود. و باعتبار أن أكثر من نصف الرساميل المستثمرة في الشركات المجهولة الإسم كانت مملوكة لأجانب أو يهود، فإن أكبر المستفيدين من هذا النزوح كانوا مسلمين حصلوا بأثمان بخسة على الأملاك المتخلى عنها، قبل أن يتم ضربهم هم بدورهم بموجة التأميمات، بضع سنوات بعد ذلك. فالطائفة اليهودية التي كانت تعد 50 ألف نسمة سنة 1954 ، انخفضت كي تصل خلال أول عودة لي إلى مصر سنة 1963 إلى ما بين خمسة و سبعة آلاف شخص، كما أن العديد من المعابد و الجمعيات الخيرية قد اختفت تماما. و حسب تقدير غير مؤكد، فإن ما بين ثلث و نصف الطائفة قد استقر نهائيا بإسرائيل، لأسباب اقتصادية أكثر منها أيديولوجية، أما الباقون فقد وجدوا في أوربا و الأمريكتين ملاذا. بينما الذين مكثوا في مصر - و هم شيوخ و بعضهم شباب- فقد رفضوا بإصرار مغادرة البلاد. و من ضمنهم شيوعيون، بعضهم عرب إسمه و اعتنق الإسلام كي يتمكن من مواصلة أنشطته السياسية. إلا أن السلطات نجحت في إضفاء المصداقية على المزاعم التي كانت رائجة في عهد النظام السابق، و مفادها أن الشيوعيين هم صهاينة مُقَنعون. و هناك شخصية استثنائية، هي المحامي شحاته هارون، الذي أعرفه جيدا و الذي لم يكن يخشى الصدع، بما في ذلك في تصريحاته للصحافة: «أنا يهودي، و أنا شيوعي مصري مائة بالمائة». كان هذا الرجل الشجاع يوجه رسائل إلى عبد الناصر يُضمنها ملاحظاته و انتقاداته لطريقة تسيير شؤون البلاد. و لم يكن الريس، الذي يحترم هارون لصدق قناعاته، يتوانى في الرد على رسائله بلباقة مماثلة.