«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية . بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. لا شك أن عبد الناصر قد شعر بندم مُمض و مؤلم لكونه سلم سلطات كاملة للمشير عبد الحكيم عامر، صديق حياته. فهما ينحدران معا من مصر العليا، و ارتبطا بصداقة سنة 1940 في إحدى الثكنات بالسودان، في الوقت الذي كان فيه الأول يبلغ الثانية و العشرين من العمر كان الثاني يصغُره بسنة واحدة. و قد التقيا حينها في كُرههما لنظام الملك فاروق، الذي يعتبرانه متواطئا مع الاحتلال البريطاني، و اكتشفا ميلهما معا لهواية مشتركة هي لعبة الشطرنج، التي لم يكُفا عن ممارستها بانتظام لمدة عقود، قبل و بعد وصول «الضباط الأحرار» إلى السلطة سنة 1952 . و كان عامر هو الوحيد في الطغمة، الذي يُشاطر من سيصبح رئيسا للجمهورية، كافة أسراره. وكان باديا أنه هو الرجل الثاني في النظام. و بعد سنة واحدة على الثورة، تمت ترقية المقدم الشاب - كان في الرابعة و الثلاثين حينها - إلى رتبة جنرال، قبل أن يستلم عصا المارشالية بعد ذلك بخمس سنوات، رغم أن لا شيء كان يُهيئه للمسار العسكري باستثناء ثقة الريس، الذي كان يعتمد عليه للدفاع عن النظام من الأعداء الداخليين و الخارجيين. و قد بدا لي ذلك بديهيا منذ لقائنا الأول سنة 1965. فعلى عكس عبد الناصر، كان عامر نحيفا ،رقيقا، خجولا و ذا مظهر هش، و مثل مراهق كان منفتحا،كثير الكلام، بل لعوبا. و اكتشفت، مثل آخرين قبلي، أن مراكز اهتمامه كانت اقتصادية و اجتماعية أكثر منها عسكرية. زار باريس من أجل توثيق الروابط المصرية-الفرنسية، و هو الهدف الأولي لعبد الناصر الذي كان حذرا من الولاياتالمتحدة و راغبا في تفادي البقاء وجها لوجه مع الاتحاد السوفياتي. و قد ازداد التقارب بين الرجلين من خلال العلاقات العائلية التي نسجاها. فأطلق عبد الناصر إسم عبد الحكيم على أحد أبنائه، كما أن عامر منح إسم جمال لواحد من أبنائه الستة، فيما تزوجت كُبرى بنات المشير بالشقيق الأصغر للرئيس. و لأنه كان يعتبر نفسه مثيلا لعبد الناصر، فقد طالب عامر في يوم من الأيام بأن تكون له اليدُ العليا على القوات المسلحة، بعيدا عن أي تدخل مباشر أو غير مباشر لرئيس الجمهورية، و هذا بالرغم من مسؤوليته الواضحة في تفجير الوحدة المصرية-السورية سنة 1961 ، و سوء تدبيره لحرب اليمن، في السنة الموالية. و قد كان ضعف عبد الناصر أمام صديق شبابه قاضيا، لأن عبد الحكيم عامر شكل شلة خاصة به، متسامحا داخل القوات المسلحة مع الزبونية والمحاباة و الفساد و جميع أنواع المتاجرة. و هكذا شكل فئة من «الضباط السمان» في خدمته، على غرار الفئة التي قادت في السابق نظام الملك فاروق إلى خسارته. و على مضض، قرر عبد الناصر عزله بعد يومين على نهاية الحرب. لم يعد رئيس الدولة يثق فيه، خاصة بعد أن علم، في الأيام التالية، بأن مئات الضباط يتناوبون على زيارة المشير، و أن عددا منهم، ممن يبحث عنهم الأمن العسكري، قد لجأوا إلى فيلته الواسعة. فبالإضافة إلى عناصر من الشرطة العسكرية، كان عامر يحيط نفسه بحرس خاص مكون من ثلاثمائة من «الرجال الأشداء» الذين استقدمهم من ضيعة يملكها أحد إخوته، إضافة إلى ترسانة من الأسلحة الخفيفة في إقامته. و هكذا تمترس في حصن محاط بأكياس الرمل و السيارات المدرعة. لم يكن عامر يمنع نفسه من انتقاد الريس بحضور بعض ضيوفه، معتبرا أن مسؤولية عبد الناصر في هزيمة 5 يونيه أكبر من مسؤوليته هو، بما أنه رفض غير ما مرة، حسب قوله، شن الهجوم على إسرائيل قبل أن تمر هذه الأخيرة إلى الفعل. و لم يكن يشير إلى أن واشنطن و موسكو قد وجهتا لعبد الناصر تحذيرات مُلحة ضد أي مغامرة مماثلة.و في كافة الأحوال فإن عبد الحكيم عامر لم يكن يخفي إرادته في استرجاع مهامه السابقة معتقدا أنه يحظى بالشعبية في الأوساط العليا للقوات المسلحة. و في 25 غشت، خلال مأدبة عشاء حميمية أقامها عبد الناصر في إقامته الخاصة، أُصيب عامر بالذهول حين علم فجأة على لسان مضيفه، في نهاية المأدبة، أنه منذ ذلك الوقت في حالة اعتقال. و قد اتهمه الرئيس بالتحضير للانقلاب عليه أثناء توجهه، بعد أربعة أيام، للسودان من أجل المشاركة في «قمة» عربية. و فيما كانت مأدبة العشاء تلك جارية، تمت مهاجمة فيلا المشير، بينما جرت موجة من الاعتقالات في صفوف القوات المسلحة و الأمن السياسي (المخابرات).و في غضون ثلاثة أشهر، تم عزل حوالي ألف من الضباط في سرية تامة.فيما اعتُقل عدد من الجنرالات و حوكموا بتهمة الخيانة العظمى. و بالرغم من أن ذلك كله كان يتم في سرية تامة، إلا أني تمكنت ? بفضل إشاعة أبلغني بها صديق صحفي ? من القيام بتحقيق قبل أن أصوغ مقالا حول اعتقال المشير عامر. و أمام النص الذي عرضته عليه، قال لي الرقيب بأن النبأ مُختلق تماما و منعني من إرساله إلى صحيفتي. كنت سأتعرض للطرد من البلاد، لكني و قد توقعت الرد السلبي للرقيب، حجزت مقعدا لي في الطائرة المتوجهة إلى الخرطوم فجر الغد،28 غشت. و انطلاقا من العاصمة السودانية، أبرقت نص المقال إلى «لوموند». و لم يتم تأكيد النبأ ، الذي كان مثيرا، بشكل رسمي إلا بعد عدة أيام على ذلك. خلال استنطاق أهانه إلى درجة اليأس، وضع المشير عامر حدا لحياته في 14 سبتمبر، بابتلاعه جرعة قوية من الزرنيخ. كان الأمر يتعلق بثالث محاولة انتحار يُقدم عليها منذ نهاية الحرب. و مع ذلك فقد خصصت له صحيفة «الأهرام» شبه الرسمية تأبينا يشيد به، متحدثة عن «الألم العميق» لجمال عبد الناصر الذي فقد فيه «رفيق سلاح الساعات الأولى، و فقد فيه صديقا و أخا». و انتهى مقال الصفحة الأولى بهذه الكلمات الغامضة : «كان عبد الحكيم عامر إبنا بارا لمصر، لا ينفصل عن تاريخها العظيم المشكل من النور و من الظلال أيضا». و بخصوص الظلال، لم يتم التطرق مطلقا إلى مسؤوليته عن الهزيمة، و لا عن المؤامرة التي يكون قد دبرها. و رغم القضاء على طائفة العسكريين و كبار المسؤولين عن الأمن، إلا أن الضغوطات المتناقضة التي يخضع لها عبد الناصر لم تخف وطأتها. فقد انتشر رأي يقول بأن الهزيمة العسكرية، في التحليل الأخير، لم تكن مسؤولية العسكريين بل هي مسؤولية نظام دولة فاسد. و تبلور حينها تياران متناقضان يقترحان تدابير لإصلاح الدولة. فقد أيد اليسار الناصري و الشيوعيون تشددا للنظام يتمثل في دعم هيمنة الدولة على الاقتصاد، بتدابير تضرب «البورجوازية الجديدة» المعادية للنظام، مع توسيع الإصلاح الزراعي لفائدة الفلاحين الذين لا أملاك لهم، و إبعاد الجيش عن السياسة، و إعادة بناء الحزب الوحيد و توسيع الحريات العامة لوضع حد ل «السلطة الشخصية»، و تقوية العلاقات مع الاتحاد السوفياتي و المعسكر الاشتراكي. بهذا الثمن - كانوا يقولون- ستزداد سلطة عبد الناصر مما يسمح له بوضع حد للنزاع مع إسرائيل إما باستئناف القتال أو من خلال تسوية سلمية. أما الجناح اليميني للنظام فقد كان يدعو على العكس إلى تصفية النزاع مع الولاياتالمتحدة، و قطع العلاقات المتميزة مع الاتحاد السوفياتي، مما يسهل تسوية سريعة للنزاع مع إسرائيل، إضافة إلى تحرير الاقتصاد على الطريقة الغربية و توسيع الحريات، التي من ضمنها حرية إنشاء تنظيمات سياسية تضع حدا لاحتكار الحزب الوحيد. و لأول مرة و في حدث غير مسبوق، يتم اتهام حسنين هيكل من طرف صحافة اليسار بالانهزامية بعد أن نشر في «الأهرام» مقالا يبرر التقارب مع الولاياتالمتحدة و يوصي الدولة بوضع حد للتأميمات ولمصادرة الثروات. لم تكن آراؤه تختلف عن تلك التي تروج في صالونات «المجتمع المخملي»، هذه البورجوازيةالناتجة عن نظام كان يعتبر نفسه، مع ذلك، اشتراكيا. كانت «الطبقة الجديدة» كما سُميت آنذاك، قد وُلدت بعد «العدوان الثلاثي» على السويس سنة 1956 ، التي صودرت نتيجة لها أملاك عدد من الفرنسيين و الانجليز و اليهود، ثم بيعت فيما بعد بثمن زهيد جدا. كما خلقت سلسلة التأميمات التي بدأت سنة 1960 ، فئة من التقنوقراط انضمت إلى المالكين الجدد، بفضل الفساد الذي انتشر داخل الإدارة. و كان أو ل المستفيدين من هذه المصادرات هم أفراد من الطبقة الوسطى، و قدماء الضباط المقربين من كبار المسؤولين، و الفاعلين الجدد في الساحة الاقتصادية، الذيم ما لبثوا أن بدأوا الضغط على السلطة التانفيذية. كانوا يطمحون إلى إلغاء قوانين «الاشتراكية العلمية» و إلى استقرار سياسي يساعد عليه تطبيع العلاقات مع الولاياتالمتحدة و إسرائيل، و إلى حريات جديدة تسمح لهم بالازدهار. و لم يكن من النادر الإنصات في هذه الصالونات المتميزة، إلى أن الهزيمة، رغم كل ذلك، فقد فتحت آفاقا جدية أما تحولات النظام الناصري. و كان كثير من المحتجين يهمسون بصراحة : «رُب ضارة نافعة». بعد فترة وجيزة على الحرب، أُتيحت لي فرصة زيارة منتجع ساحلي يرتاده الأثرياء، و يقع داخل محيط قصر المنتزه، قرب الاسكندرية، و قد كان من الإقامات المفضلة للملك فاروق. كان الدخول إليه بالأداء، و كان بالإمكان استئجار شاليهات فارهة بأثمنة خيالية، كانت عدة سيارات ثمينة تملأ المربض المحادي للشاطيء. لا شيء كان يدل على أن مصر خرجت لتوها من كارثة تسببت في عشرات الآلاف من القتلى و الجرحى. و بينما كان البسطاء من الشعب يعيشون حالة حداد، و الاشتباكات الدموية متواصلة على ضفتي القناة المحتلة من طرف الإسرائيليين، كانت فئة من الشباب الناعم تلهو بصخب. و في المقصف، كان مراهقون و مراهقات، في قمصان و سراويل ملونة و شعر هفهاف تحركه الريح، يشاركون في رقصات مجنونة أو يصفقون في إيقاع موزون حول حلبة الرقص. كانت محاولة النقاش مع أحدهم أو الآخر حول موضوع الحرب بدون جدوى، و كانت اللامبالاة و الجهل بارزين بشكل كبير. تبنى الأكبر سنا منهم - في مجال الأناقة على الأقل - نفس نمط و أسلوب عيش بورجوازية ما قبل الثورة: كانوا يفضلون التحدث بالانجليزية أو الفرنسية، عوض اللغة العربية،كانوا يسافرون غالبا إلى الخارج، فيما كانت نساؤهم تقتنين الملابس من كبار المصممين، و كانوا يرتادون علب الليل و يختارون التنقل على متن سيارات فخمة. ليس في هذا ما يُضير لولا أن بؤس الجزء الأكبر من الشعب قد ازداد استفحالا. استعدتُ ذهنيا خطابا ألقاه زعيم الثورة في 26 مارس 1964 أمام الجمعية الوطنية صرح فيه : «من واجبنا ? مهما كان الثمن ? منع ظهور طبقة جديدة تحلم بأن ترث امتيازات الطبقة القديمة،علينا أن نقاومها ، بل و أن نثور ضدها، و حين تحين الفرصة علينا حرمان هذه الطبقة من السلاح الذي تطعن به تحالف القوى الشعبية». لم يكن يظن، دون شك، بأن الفرصة ستظهر بعد ثلاث سنوات، مع الهزيمة العسكرية و السياسية التي تعرضت لها مصر من طرف إسرائيل. و مع ذلك، و كمُحلل حذق لموازين القوى، ما لبث عبد الناصر أن اكتشف بأن عليه التعامل مع هذه الطبقة الجديدة التي امتدت جذورها إلى كافة دواليب الدولة. و بدا مثقفو و مناضلو اليسار، الذين ألتقيهم، في حيرة كاملة. فالبطل الاشتراكي و عدو الامبريالية الريس، قد أمر وسائل الإعلام بمنع انتقاد هذه «البورجوازية الجديدة» المدنية أو العسكرية، بل حتى الإشارة إليها. و نأى بنفسه عن اليسار و الشيوعيين الذين كان دائم الحذر منهم، و بدأ حوارا سريا مع مبعوثين أمريكيين، من خلال وسطاء، مع وضع حد لأي انتقاد للرئيس «دجونسون»، دون القطع مع الاتحاد السوفياتي، المزود الوحيد للقوات المصرية بالسلاح. كان للحكومة التي شكلها ما يُطَمئن الطبقة المهيمنة، فهي تجمع «تقنوقراطا» بدون انتماء سياسي، من أتباع الليبرالية الاقتصادية، و مؤيدي التطبيع مع الولاياتالمتحدة، على رأسهم زكريا محيي الدين. كان هذا الأخير هو النائب الأول لرئيس الحكومة، مكلف بمراقبة جميع الأجهزة الأمنية للجمهورية. و هكذا بدا الريس مضطرا إلى مراقبة معارضة التيار المنافس: فلم تكن الاحتجاجات و لا العرائض و لا مظاهرات الطلبة و العمال و النقابيين، و لا المعارضة الصامتة للجناح اليساري للحزب الوحيد - و هي الأحداث التي ستعيشها البلاد خلال شهور - هي من سيهدد النظام. و بحكم الضرورة أكثر منه اقتناعا، اصطف عبد الناصر إلى معسكر «الواقعيين»، دُعاة الحل السلمي للنزاع العربي-الإسرائيلي. و قد ذكر لي السفير صلاح بسيوني أن الريس قال للمقربين منه أن مؤيدي الكفاح المسلح «حالمون و لامسؤولون». لم يفهموا بأنه لا يمكن القضاء على إسرائيل، ليس فقط بسبب قوة جيشها - الذي ظل جيشا لا يُقهر لسنوات عديدة - و لكن لأنها تتمتع أيضا بحماية دولية كبرى. و قد شجعته الشخصيات السوفياتية التي جاءت لزيارته بعد أسبوعين على نهاية الحرب، على البحث عن تسوية ودية للنزاع. و ضرب له مثلا، رئيس مجلس السوفييت الأعلى «بودغورني» بأن لينين قد تنازل عن بعض الأراضي للمحتلين الألمان، كي يسمح للبولشفيك بإنقاذ الأساسي من إنجازاتهم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. فالأمر يتعلق - حسب الرئيس الروسي- بتسوية ثورية و ليس بخيانة. و تدريجيا، شرعت وسائل الإعلام المصرية في تغيير قاموسها و نبرتها، متحدثة عن إسرائيل دون نعتها ب»الدولة الوهمية»، و متوقفة عن التعبير عن أملها في زوالها، و لم تعد تدعو إلى «تحرير فلسطين». أما المذيع أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب، الدماغوجي الذي كان يدعو لتدمير الدولة الصهيونية، فقد تم إقصاؤه و حل محله على رأس الإذاعة مثقف مهتم أساسا بالقضايا الثقافية و العلمية أحمد بهاء الدين، و كان رئيس مجموعة صحفية كبيرة و كاتب افتتاحيات شهير. و قد قام أحمد بهاء الدين بإلغاء المحرمات بشجبه الدماغوجية السابقة، متهما المسؤولين العرب بالهمس بتصريحات مهادنة لا يستطيعون المجاهرة بها «كما لو تعلق الأمر ببذاءات». و كانت قمة الجرأة في ذلك الوقت، أن دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، في الضفة الغربية و قطاع غزة، مضيفا أن هذه الدولة الجديدة يمكنها استيعاب لاجئي 1948. و رغم أن بهاء الدين كان معروفا باستقلاليته الفكرية، فإنه لم يكن من المحتمل نشر مقال بهذا المعنى دون موافقة رئيس الجمهورية و لو بشكل ضمني. توجه عبد الناصر إلى الخرطوم، يوم 28 غشت، للمشاركة في «قمة» عربية حيوية بالنسبة لمستقبل المنطقة. و في كواليس المؤتمر طمأنني المقربون منه بأن لديه أمل - كان متفائلا كثيرا و هذا ما ستؤكده الوقائع- في إقناع الزعماء العرب ب»تسوية مشرفة» تضع حدا للنزاع العربي-الإسرائيلي. و كان يفكر في مقترحات المارشال تيتو و في الصيغة الأمريكية-السوفياتية التي تنص على إنهاء حالة الحرب مقابل إعادة الدولة العبرية للأراضي المحتلة، كمرحلة أولى نحو التطبيع الشامل، المستند هو أيضا على تسويات مضمونة من طرف القوتين الأعظم. كان مقتنعا بأنه ينبغي التخلي عن أسطورة الثأر العسكري الذي لا تستطيع الدول العربية تحقيقه. و كان أول إحباط مُنيَ به الريس هو الذي تم فور افتتاح القمة، حيث رفض ثلاثة أعضاء المشاركة في اجتماع مخصص، في نظرهم، للموافقة على «استسلام العالم العربي»، و يتعلق الأمر بأحمد الشقيري زعيم منظمة التحرير الفلسطينية و كذا رئيسي الجزائر و سوريا، الذين لا يرون حلا سوى مواصلة القتال. و قد قال لي أحد أعضاء الوفد المصري متنهدا : «هذا جزاؤنا لأننا انجررنا للحرب من أجل إنقاذ سوريا من عدوان إسرائيل...» قال عبد الناصر بأن الزمن يلعب لصالح إسرائيل، و أنه ينبغي التحرك بسرعة، على الأقل من أجل الحؤول دون استيطان الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، التي تعتبرها الدولة العبرية جزءا من «وطنها التاريخي». و لهذا ينبغي منح الملك حسين الصلاحية كاملة من أجل استرجاع هذه الأراضي، بفضل الوساطة الحميدة «لأصدقائه» الأمريكيين، «و لو اضطر العاهل الأردني إلى أداء الثمن المطلوب». إلا أن القادة العرب الآخرين، و خشية أن يُنعتوا بالاستسلاميين، حصلوا على قرار «اللاءات الثلاث»: لا للتفاوض مع إسرائيل، لا للاعتراف بالدولة الصهيونية، و لا للصلح ،عوض «لا للسلام» التي تم اقتراحها أولا. و بذلك ساد الاعتقاد بأن الباب سيظل مفتوحا أمام نهاية محتملة للنزاع، دون الوصول إلى التطبيع الرسمي للعلاقات مع إسرائيل. كما نجحوا أيضا في إلغاء كل التزام ب»تحرير فلسطين» بعد أن أقنعوا نظراءهم بالإعلان صراحة عن موقفهم لصالح حل سياسي، و بذلك تم استبعاد اللجوء إلى القوة في القرار الذي تم تبنيه في «قمة» الخرطوم. و بالرغم مما اتسمت به من دقة و تلطيف، ظاهريا، إلا أن هذه الجوانب الإيجابية نسبيا، لم تأخذها إسرائيل بعين الاعتبار، مثلها مثل معظم وسائل الإعلام الدولية التي لم تتذكر من القمة حتى يومنا هذا، سوى «اللاءات الثلاث». كما لم يحفلوا بتناقضات النص الذي صاغته جمعية منقسمة و ذاهلة بشكل جلي. و مع ذلك، فإن الصحفيين مثلي الذين كانوا يطلعون في الكواليس على بعض ما يجري في الداخل، علموا أن عبد الناصر و الملك حسين كانا غاضبين كثيرا على المآل الذي وصل إليه اجتماع القمة. و اتفقا سرا على تسوية النزاع بالحصول على استرجاع الأراضي المحتلة دون أخذ قرار القمة بالاعتبار، فنصح الرئيس المصري العاهل الأردني بالتصال بالرئيس «دجونسون» و كذا مع محاوريه المألوفين في إسرائيل، كي يتوصل إلى تسوية مقبولة، و لو بإبرامه سلاما منفصلا. كان يأمل بذلك أن يفتح ثغرة يمكنه التسلل من خلالها بدوره. و كدليل على انفتاحه شن الملك حسين فورا حملة ضد الفدائيين الفلسطينيين، واصفا العمليات التي تنفذ ضد إسرائيل ب»الإجرامية». فلدى عودتي إلى باريس، كنت شاهدا لاإراديا على هذه التسوية السرية. إذ بعد بضعة أسابيع بالكاد على نهاية المؤتمر، طلب مني السفير الأردني بفرنسا السيد عبد الله صالح، و هو من أصل فلسطيني يحظى بالثقة الكاملة للملك حسين، أن أُبلغ السفير الإسرائيلي رسالة مفادها أن المملكة مستعدة لإبرام سلام منفصل إذا ما أعادت لها الدولة العبرية الضفة الغربية بما فيها الجزء العربي من القدس. و أوضَحَت الرسالة أن الملك يمكن أن يكون متساهلا في رسم الحدود لكنه، باعتباره حفيد الرسول، لن يتنازل عن القدس الشرقية المقدسة لدى المسلمين.و بعد بضعة أيام، أبلغني الدبلوماسي الإسرائيلي رد حكومته: لا مجال لإعادة القدس الشرقية، «التي تعد جزءا لا يتجزأ من عاصمة الدولة اليهودية». و بدأ حوار سري بين الملك حسين و أبا إيبان، وزير الشؤون الخارجية الإسرائيلي. كان هذا الأخير عاجزا عن إبلاغ العاهل الأردني بالحدود التي تريدها إسرائيل، لأن الحكومة الإسرائيلية - و هي تحالف من اليمين المتطرف حتى اليسار العمالي - كانت منقسمة بهذا الشأن. فقدم لها الملك حسين اقتراحا مغريا، يلتزم بمقتضاه بإدماج جميع لاجئي 1948 و 1967 الفلسطينيين (حوالي مليون لاجئ) إذا ما استرجع الأراضي الأردنية المحتلة. و وافق أيضا على أن تبقى القدس موحدة إذا ما ضمت بلديتين، واحدة يهودية و الأخرى تحت سيادة عربية.إلا أن أبا إيبان رفض المقترح فورا. بل إنه ظل رافضا حتى حين أبلغه الملك حسين بأن مشروعه هذا قد نال موافقة عبد الناصر. و بعد ثلاثة شهور على قمة الخرطوم، و في قطيعة مع التضامن العربي، وافق الرئيس المصري و العاهل الأردني على القرار 242 لمجلس الأمن الدولي.و هو القرار الذي يكرس الاعتراف الفعلي بدولة إسرائيل (ضامنا لها حدودا «آمنة و معترفا بها») و يغطي المشكل الأصلي بوصفه الفلسطينيين ب»اللاجئين» و ليس «شعبا» ذا حقوق وطنية، رغم ورود ذلك في عدة قرارات سابقة للأمم المتحدة . و في المقابل رفضت سوريا الانخراط في هذه «الخيانة». و بموافقته على القرار 242 ، مسح زعيم الثورة المصرية الإهانات التي تعرض لها في قمة الخرطوم، حيث اضطُر إلى الرضوخ لمطالب نظرائه، الذين كان يصفهم سابقا ب»الرجعيين» و ب «عملاء الامبريالية». و من جهة أخرى وعد الملك فيصل بن عبد العزيز بسحب قواته من اليمن و بوضع حد للاضطرابات في البلاد الخليجية الغنية بالبترول، و بقبول استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدول النفطية و حُماتها الأنجلوساكسونيين، و بالاعتراف بأنه قد أخطأ في اتهامه الولاياتالمتحدة و بريطانيا بأنهما شاركتا في الحرب إلى جانب إسرائيل. كما انضم إلى اقتراح رفع الحظر عن النفط الموجه إلى القوتين الغربيتين العظميتين، و تراجع عن المطالبة بسحب الأرصدة العربية من البنوك الأنجلو-أمريكية. خلاصة الأمر أنه تخلى عن ممارسة أي ضغط على واشنطن و لندن بهدف إجبار إسرائيل على تبني موقف أكثر مهادنة. الحلقة المقبلة: عبد الناصر يقوم بانقلاب على نظامه