إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 17 - 07 - 2013

«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية .
بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو.
و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،.
في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس.
و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان.
لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير.
كانت علاقات عبد الناصر بالدين، معقدة. ففي الثامنة عشر من عمره، و بينما كان يُهيء للباكالوريا (شعبة الآداب) بثانوية النهضة بالقاهرة، نشر في مجلة ثانويته، مقالا تحت عنوان «فولتير و الحرية». و كان زعيم الثورة في الواقع علمانيا، حيث كان يضع فرقا واضحا بين الدولة و الدين. كما أنه كان يرفض التعصب الذي ينسبه للإخوان المسلمين الذين حاربهم منذ وصوله للسلطة. و حاكم أحد أعضاء مجلس الثورة بسبب روابطه الوثيقة مع جماعة الإخوان. و زج بمئات «الإخوان»، لا لأسباب دينية بل لاستغلالهم الإسلام من أجل أهداف سياسية، أو بسبب مؤامرات حاكوها من أجل الإطاحة بالنظام.
كان عبد الناصر مؤمنا بعمق دون أن يكون ممارسا مواظبا: فهو لم يكن يستهلك الكحول و كان يصوم رمضان و يؤدي صلاة الجمعة في المسجد، كما أنه أدى فريضة الحج التقليدية إلى مكة. و مع ذلك لم تكن تهُمه، كما اعترف بذلك يوما، «المظاهر الخارجية للتدين».
و بتؤدة و حذر، فرض إصلاحات لم تكن متطابقة مع التقاليد المُعتبرة إسلامية. و هكذا أعاد سريان فتوى غامضة مُختفية في أرشيفات الثلاثينات، تسمح بتحديد النسل، و منع ختان النساء (الخفاض) و تعدد الزوجات و كذا تطليق الزوجات دون علمهن أو رضاهن. و قد عمل خصوصا على تحديث الأزهر، و هو الجامعة الإسلامية العريقة ذات الألف عام، معقل المحافظة، و ذلك بتشجيع تغييرات جذرية و بإقحامها في السلطة السياسية. و بذلك فقدت هذه المؤسسة طابعها الديني الحصري، و أُحدثت بها كليات جديدة لتدريس العلوم الحقة و اللغات الأجنبية، و تم جلب أساتذة من الجامعات الغربية و لأول مرة تم تعيين علماني، أستاذ للطب تلقى تكوينه في المدارس الألمانية الكبرى عميد اللأزهر. و كانت الجرأة الكبرى هي فتح أبواب الجامعة أمام الطالبات، دون الوصول إلى التعليم المختلط.
و في الممارسة، عمل زعيم الثورة المصرية على التبسيط حين قال لأحد كتاب سيرته بأن «جميع الأديان متشابهة تماما». مع اعتباره أن الديانة الإسلامية تُعد إحدى المكونات الرئيسية للهوية المصرية. و لم يكن عبد الناصر مُعجبا بكمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية العلمانية، حيث كان يعتبر أساليبه «قاسية جدا» كما لم يكن معجبا بزعماء الثورة الفرنسية الذين كان ينتقد «سياستهم الدموية».
و في المنظور القومي لجمال عبد الناصر، فإن النزاع مع إسرائيل لم يكن ذا طبيعة دينية أو عنصرية. كما أن الريس لم يكن مهووسا كثيرا بالمشكلة قبل أن يتحمل، على مر السنوات، قضية الشعب الفلسطيني، الذي كان يتعاطف معه دون أن يتقاسم الأساليب و الأهداف المتطرفة لقادته. فقد ظلت المشكلة طويلا في المرتبة الثانية من قائمة اهتماماته، خاصة قبل وصوله للسلطة. فجيرانه اليهود الذين عرفوه مراهقا، يحكون أنه كان يحدثهم عن عدائه للاحتلال البريطاني و للنظام الملكي و للأحزاب السياسية التي كان يعتبرها خادمة للاحتلال ، لكنه لم يكن معاديا للمؤسسة الصهيونية.
و مع ذلك، شارك بقوة، لكن بدون حماس، في حرب 1948 ضد الدولة اليهودية الناشئة، و حسب كاتبي سيرته، فإنه قد تميز صحبة حوالي عشرين من جنوده بطرد الإسرائيليين ،بعد ثلاث ساعات من المعارك، من بلدة عراق المنشية. ومع ذلك فقد اضطر إلى الانسحاب إلى بلدة الفالوجة، حيث حوصرت حاميته العسكرية من طرف الجيش اليهودي.
لم يكن غضبه - حسب أقواله نفسه- موجها نحو العدو الذي يحاربه، بقدر ما كان موجها ضد نظام القاهرة، الذي اعتبره مسؤولا عن الهزيمة. كان يكره الملك و السياسيين و كبار الضباط، الذين يتهمهم بالاختلاسات و سوء التدبير، و بالإثراء خلال النزاع باقتنائهم أسلحة فاسدة للجيش المصري. و كان ينتقد مجموع الدول العربية المتحاربة بأنها دخلت الحرب باستخفاف و دون تحضير أو تنسيق، تدفعها في ذلك حسابات أنانية و أهداف خاصة أكثر من الرغبة في هزم الدولة اليهودية الوليدة.
خلال حصار الفالوجة، تلقى عبد الناصر زيارة ضابط إسرائيلي جاء يناقش معه بعض القضايا العملية المرتبطة باستسلامه المُحتمل. و أثناءها حصل نوع من التعاطف بين «يروهام كوهين»، و هو من أصول يمنية يتحدث اللغة العربية بشكل جيد، و بين الضابط المصري الشاب (كان في الثلاثين من عمره آنذاك) الذي يلتقي لأول مرة في حياته عسكريا إسرائيليا. خلال محادثات طويلة، سيتحدث عبد الناصر لكوهين عن الفساد المُستشري في الدوائر العليا للدولة المصرية. و سأله بإعجاب، عن النجاحات التي حققتها المقاومة الصهيونية للاحتلال البريطاني. و في نهاية الأمر، أخفق كوهين في مهمته، فقد رفض زعيم الثورة المقبل الاستسلام و بذلك استمر حصار حاميته لعدة أسابيع من طرف القوات اليهودية.
و قد استمرت الصداقة التي ربطت عبد الناصر بكوهين طويلا بعد الحرب.فبعد أن أصبح رئيسا للجمهورية، استضاف الريس عدة مرات الضابط الإسرائيلي للقاهرة، و هو المشروع الذي لم يتحقق بسبب رفض الحكومة الإسرائيلية. و قد تبادل الرجلان الرسائل و الهدايا خلال أعياد الميلاد. و علاوة على كوهين، فإن «إيغال ألون» الزعيم العمالي المقبل،الذي كان يقود القوات المُحاصرة للفالوجا، قد تبادل محادثات ودية مع عبد الناصر و ظل يتذكرها بشكل جيد، حسب التصريحات التي قام بها لصحيفة «يديعوت أحرونوت».
و بمتابعتي من باريس للأحداث التي حصلت أثناء الانقلاب الناصري في يوليوز 1952 ، أثارتني اللامبالاة الظاهرة للضباط الأحرار حُيال القضية الفلسطينية. فلم تكن أي من إعلاناتهم المبثوثة عقب استيلائهم على السلطة و طيلة عدة شهور تشير من بعيد أو قريب إلى النزاع. فالأهداف الستة للثورة تؤكد الطابع الوطني الحصري للعملية: مقاومة الامبريالية، القضاء على الإقطاع في البوادي، تحرير الاقتصاد من سيطرة الرأسمال الكبير، إنشاء جيش قوي و أخيرا، إقامة العدالة الاجتماعية و «الدمقراطية الصحيحة».
بعد أكثر من سنتين على ذلك، و في حوار مع المجلة النيويوركية العريقة «فورين أفيرز»، نشرته في عدد ديسمبر 1954، حدد عبد الناصر «الأعداء الثلاثة للشعب المصري» كالتالي: الشيوعيين، الإخوان المسلمين و سياسيي النظام السابق. و صرح أيضا لنفس المجلة بأن برنامجه يسعى لتحقيق ثلاثة أهداف : إتمام الإصلاح الزراعي، تحقيق انسحاب القوات البريطانية من منطقة قناة السويس، و إنشاء بنك صناعي. و كان على المجلة الأمريكية أن تُثير النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني كي يرد قائلا : «ليس للحرب مكان في سياستنا البناءة التي أعددناها لتحسين و ضعية شعبنا. لدينا الكثير للقيام به داخل مصر و في باقي العالم العربي، إن الحرب لن تعمل إلا على تضييع جزء كبير مما نسعى لإنجازه».
فالقضية الفلسطينية بالنسبة لعبد الناصر ، و حتى قيام بن غوريون في فبراير 1955 بحملته الدموية ضد غزة، لم تكن سوى مشكلة ضمن أُخريات، لا تكتسي طابعا استعجاليا. بيد أن شراسة الهجوم الإسرائيلي و العدد المرتفع للضحايا و عجز الجيش المصري عن حماية مواقعه زعزعه بقوة. متذكرا و لا شك درسا كان يقدمه لطلبته الضباط في المدرسة العليا لهيأة الأركان، و الذي كان يذكر فيه بأن مصر، منذ العهد الفرعوني، تتعرض للغزو من طرف جيوش قادمة دوما من الشرق (خاصة الأشوريين،البابليين و الفرس)، انتهى به الأمر بالاقتناع بأن دولة إسرائيل ليست مشكلا عاديا من مشاكل السياسة الخارجية، بقدر ما تمثل تهديدا عسكريا محتملا ذا بُعد استراتيجي.
ففقط في أعقاب الهجمة ضد غزة ، بدأ في السعي نحو تجهيز جيشه بالأسلحة الحديثة، أولا لدى الولايات المتحدة -التي رفضت طلبه -ثم لدى روسيا، من خلال تشيكوسلوفاكيا. و هكذا فتحت الغارة الإسرائيلية على غزة، الطريق أمام تعاون وثيق بين مصر و الاتحاد السوفياتي، الذي وافق على سياسة «الحياد الإيجابي» التي دشنها مؤتمر باندونغ.
ففي هذا المؤتمر الذي انعقد بعد بضعة أسابيع عقب الغارة على غزة، تُوجت المبادرة الأولى لعبد الناصر على الساحة الدولية بنجاح غير منتظر.فقد تمكن من إقناع الثلاثين رئيس دولة أو حكومة الحاضرين، و من بينهم عمالقة العالم الثالث مثل شوان لاي و نهرو و سوكارنو، بتبني قرار يدعو إسرائيل إلى احترام قرارات الأمم المتحدة: قرار نوفمبر 1947 الذي يقسم فلسطين إلى دولتين، واحدة يهودية و الأخرى عربية، و كذا القرار الذي يمنح الفلسطينيين الخيار بين العودة إلى موطنهم أو تلقي تعويضات مالية،و قد صادق المشاركون على هذا القرار، معتبرين أنه بالإمكان أن يشكل قاعدة للمفاوضات. بينما رأت فيه إسرائيل محاولة ل»تدميرها». و في كافة الأحوال فقد كان القرار تأكيدا لرغبة البلدان غير المنحازة في تقديم حل سلمي للنزاع.
و حين منحني الرئيس المصري أول حوار لي معه، ثماني سنوات بعد ذلك، كان قد مرن موقفه، مصرحا بأن على إسرائيل إعادة الأراضي المحتلة (دون تحديد لها) و استقبال اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم (دون أن يقدم أرقاما). و أضاف أنه لا ينوي حل المشكل بواسطة الحرب، مُلحا على أن إسرائيل هي التي تسعى لفرض سلام بشروطها فقط. لكن ما هو الحل الذي يقترحه هو نفسه؟ أجاب عبد الناصر بابتسامة واسعة: « إذا كان لديك حل تقدمه لي، فسأكون سعيدا لأخذه بعين الاعتبار...» و لذلك اغتنمت فرصة حوار أجريته، بعد فترة قصيرة، في تل أبيب مع الوزير الأول الإسرائيلي «ليفي أشكول»، كي أنقل له تصريحات عبد الناصر التي اعتبرتها مثل بالون اختبار أو دعوة للحوار.و لأني أعرف اعتدال الزعيم الإسرائيلي و ميله للتسويات، فقد كنت أتوقع كل شيء سوى رد فعله المفاجئ : «و لا شبر، و لا لاجئ « كانت هي الكلمات الوحيدة التي نطق بها بحدة. و طلب مني الانتقال إلى السؤال الموالي. تأكدت حينها بأن «ليفي أشكول» كان يعتنق، طوعا أو كرها، التوافق السياسي الذي كان يسود الساحة السياسية الإسرائيلية حينها و الذي ظل مهيمنا طيلة العقود التالية.
بالعودة إلى الرأي الذي كان شائعا حينذاك، كنت مقتنعا بأن عبد الناصر لم يكن يريد -أو لم يكن يستطيع - تسوية القضية الفلسطينية بالقوة. فجميع تصريحاته منذ استلامه السلطة، ولو أنه من الضروري أخذها بحذر، كانت تدعو إلى الحل السلمي. ففي استقباله لصحفيين أمريكيين في يناير 1958، شجب «القصص المبثوثة في الخارج» حول اعتزامه تدمير إسرائيل و «رمي اليهود إلى البحر». و أضاف قائلا أنه «يفهم الهدف الإنساني» المتمثل في توفير «موطن قومي» لضحايا النازية، لكنه لا يستطيع قبول سياسة دولة توسعية.
فمواقفه المتعددة ضد مبدأ الحرب كانت قابلة للتصديق، لأنها كانت واقعية، صادرة عن عسكري عاش أهوال نزاع مسلح و فقد خلاله عددا من رفاقه خلال المواجهة العربية-الإسرائيلية لسنة 1948 .و لم يكن له أي ثأر يسعى لأخذه، لأنه اعتبر أن الهزيمة كانت هزيمة نظام فاسد، و ليست هزيمة للأمة المصرية. و صرح مرة أخرى لمراسلين أمريكيين «أنا ضد الحرب من أجل حل المشاكل الدولية». و كان أكثر وضوحا و صراحة مع الصحفية الأمريكية «دوروثي ثومبسون» في يناير 1957: «لا أومن بالحرب، لأنه من النادر - أو أن هذا لا يقع أبدا- أن تفيد أحد المتحاربين أو الآخر، خاصة في وقتنا هذا....». و هنا أيضا، و كوطني حقيقي، كان يفكر في مصلحة مصر. هذه التصريحات و أخرى غيرها، تسببت له ، من طرف أعدائه داخل العالم العربي (و كانوا كثيرين) في حملة من التشهير بهدف حرمانه من السمعة التي كان يحظى بها لدى الرأي العام.
فخوفا من العدوى الناصرية، قام الأردن الهاشمي، و سوريا البعثية و العربية السعودية، ضمن آخرين، باستهداف ما اعتبروه كعب أشيل الريس أو نقطة ضعفه. فبدأت بعض وسائل الإعلام في وصفه ب»الانهزامي» بل ب»العميل الصهيوني». و تمت مؤاخذته بأنه لم يهدد أبدا بتدمير إسرائيل و بأنه لم يدعُ أبدا إلى «تحرير كامل فلسطين»، و بالاعتراف الواقعي بالدولة الصهيونية، لأنه لم يدعُ إلا إلى احترام قرارات الأمم المتحدة، فاتحا بذلك الطريق أمام سلام متفاوض عليه. و في نهاية 1963، شرعت عدة صحف معادية للناصرية في التشهير به بسبب سلبيته حُيال قيام إسرائيل بتحويل مياه نهر الأردن، مما حرم عددا من الدول العربية المجاورة من حصتها من السائل الثمين. لماذا لم تتدخل مصر القوية، عسكريا ضد «الكيان الصهيوني»؟ هكذا كان يتساءل في جوقة واحدة جميع المُعادين لعبد الناصر؟
و انعكاسا لرأي عبد الناصر الذي كان واحدا من المقربين إليه، كتب رئيس تحرير مجلة «روز اليوسف» إحسان عبد القدوس متهما الدول العربية «التي تدفع الجمهورية العربية المتحدة لمهاجمة إسرائيل بأنها تريد الإطاحة بالنظام الناصري لا الإطاحة بحكومة بن غوريون». و بعد بضعة أيام، في 21 ديسمبر 1963 ، رد عبد الناصر بدوره مستنكرا: «إذا لم نكن نملك الوسائل لخوض الحرب، فإن واجبنا هو الإعلان عن ذلك بصوت مرتفع، و ألا نغش الرأي العام العربي». و ظل السجال بدون فائدة و استمرت الحملة بدون هوادة.
و في تلك اللحظة قام عبد الناصر بعملية أسكتت (موقتا على الأقل) كل المنتقدين، مؤكدا في المناسبة نفسها، مهارته في فن المناورة. فقد دعا رؤساء الدول الثلاث عشر الأعضاء في الجامعة العربية إلى القاهرة، في يناير 1964، لتدارس إمكانية تدخل عسكري ردا على قرار إسرائيل تحويل مياه نهر الأردن لصالحها. و شكلت المبادرة الإسرائيلية فعلا خرقا للقانون الدولي ، لأنها حرمت الدول العربية المُشاطئة، من المياه التي تنبع من أراضيها، كما كانت تكتنف هذه المبادرة خطورة حالة، خاصة أن ري الصحراء من شأنه الزيادة في قدرة إسرائيل على استيعاب مهاجرين جدد، و بالتالي دعم الدولة العبرية عسكريا.
دام الاجتماع العربي خمسة أيام لامتناهية، تأكدتُ خلالها، بمساءلة بعض الدبلوماسيين الأصدقاء المشاركين، في الكواليس، كم كانت المظاهر خداعة. فما وصفته وسائل الإعلام الإسرائيلية ب «الاجتماع الحربي» انتهى في الواقع بقرارات تهدف إلى تفادي أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل.
فقد تلقى عبد الناصر تنبيها من الرئيس كنيدي بأن الولايات المتحدة ستُساند إسرائيل إذا ما تعرضت لهجوم عربي، فيما نصحه الاتحاد السوفياتي بعدم اللجوء للقوة. و بذلك ضم زملاءه الرؤساء العرب إلى موقفه. فأمام هذا الوضع تأكد الرؤساء العرب -باستثناء الرئيس السوري أمين الحافظ العدو اللدود لعبد الناصر- بأنهم ليسوا في مستوى مقارعة السلاح مع الدولة اليهودية. فيما مكنتهم القرارات المتخذة من إنقاذ ماء الوجه : «فالقيادة العسكرية الموحدة» التي أنشأوها للتنسيق بين الجيوش العربية أُقبرت في مهدها، إذ أن الحذر المتبادل قضى على المصلحة المشتركة، كما أن لبنان و سوريا و الأردن المكلفين بالقيام بأشغال موازية لما قامت به إسرائيل، لشفط مياه نهر الأردن لم تبدأ حتى توقفت عن ذلك بدعوى أنها لا تملك الوسائل الدفاعية أمام الدولة اليهودية. و حتى الرئيس السوري الذي شجب «ذهان الخوف» الذي يشل القادة العرب، اكتفى بطلب المدد من أجل دعم قوات جيشه.
و السبب هو أن «ليفي أشكول» الوزير الأول الإسرائيلي وجه تحذيرا قويا إلى الدول العربية المعنية: فقد أعلن أن كل محاولة لتطبيق قرار «قمة» القاهرة سيعتبر إعلانا للحرب، باعتبار أن مسألة المياه ليست سوى « مبرر لإنكار حق دولة إسرائيل في الحياة». و قد كان هذا - كما كتب ذلك الجنرال «أرييل شارون» في مذكراته- هو البداية (غير المعلنة) لحرب 5 يونيه 1967 العربية-الإسرائيلية.
و بالفعل،و حتى قبيل النزاع، فإن الحوادث الحدودية بين إسرائيل من جهة و بين سوريا و الأردن من جهة ثانية، تضاعفت، في الوقت الذي كان البلدان العربيان خلاله يحاولان، سُدى، القيام بأشغال لتحويل مياه نهر الأردن. فالمشكل المائي للبلدان المجاورة لإسرائيل لم يتوقف عن الهيمنة على «القمم» العربية المتوالية حتى هزيمة يونيه 1967 .
المبادرة الأخرى التي أثارت التأويلات التهويلية في إسرائيل و الخارج كانت هي الإعلان عن «منظمة» فلسطينية -أسست في ماي 1964 بالقدس تحت إسم «منظمة التحرير الفلسطينية»- مهمتها الوحيدة هي «تحرير فلسطين». هنا أيضا سمحت لي التصريحات التي استقيتها في كواليس المؤتمر باكتشاف خلفيات تفكير عبد الناصر و زملائه الحكام العرب.
الحلقة المقبلة:
التوراة التي لا غنى عنها (1)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.