إنعام كجه جي، روائية وإعلامية وكاتبة عراقية تقيم في فرنسا منذ عقود، تمارس الصحافة والترجمة. درست الصحافة والإعلام وعملت كإعلامية في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة قبل أن تنتقل إلى فرنسا عام 1979 لنيل درجة الدكتوراة من باريس، ولا تزال تعيش هناك حتى الآن، وتعمل كمراسلة صحفية لجريدتين ناطقتين باللغة العربية. وفي عام 2004 قامت بعمل وثائقي عن نزيهة الدليمي -أول امرأة تستلم منصب الوزارة في العالم العربي. كما نُشِر لها العديد من الأعمال الأدبية: - لورنا، سنواتها مع جواد سليم - 1998 - كلمات عراقية - 2003 - سواقي القلوب - 2005 - الحفيدة الأمريكية - 2008 وقد رشحت روايتها الثانية «الحفيدة الأمريكية» لجائزة البوكر العربية { أستاذة إنعام كجه جي، أنت كاتبة عراقية تقيمين في باريس، منذ متى و أنت في فرنسا، ما دواعي مغادرة بلادك العراق؟ غادرت العراق أواخر سبعينيات القرن الماضي لإكمال دراستي. ولعلها كانت حجة لاستكشاف آفاق أوسع. وكانت باريس، آنذاك، تحتضن مجلات لبنانية مهاجرة وذات بريق إعلامي، الأمر الذي يسّر لي الحصول على عمل فانتظمت حياتي وحياة أُسرتي الصغيرة هناك بينما كان وطني، للأسف، قد سار في طريق الحروب. { العالم العربي اليوم يعيش زلزالا حقيقا، شعوب تريد التغيير بعد أن ضاق ذرعا بالتحجر و التخلف و القمع، و أنظمة متخلفة تصر على بقائها في الحكم رغم فشل مشروعها. كيف تقرئين هذا الوضع؟ لست محللة سياسية ولا خبيرة استراتيجية يا عزيزي. أنا امرأة تراقب وتتوجع وتكتب خيبتها دون أن تتخلى عن جذوة الحياة. كلما ضاق الأُفق ارتفع منسوب التمرد في دمي. وأنا طبعاً لن أنزل إلى الميدان لأصرخ «إرحل»، لكنني أشعر أن المساهمة الوحيدة التي أُحسنها هي الكتابة لجيل تجتهد جهات، من أهلنا وأعدائنا، لمسح ذاكرته وتضليل بوصلته الوطنية وتخويفه من السماء وعزله وراء أسوار الجهل. إن فيضان الحديث في السياسة لا يعني أننا نتثقف بل هو إسهال لفظي وفكري متخلف ورهيب ولا حد لأخطاره. { بالضبط، إن الإسلام السياسي أيضا يعرقل اليوم كل تقدم و انعتاق، ما هو أفق هذا التيار السياسي؟ من كثرة ما تهاوت مطارق على الرؤوس بتّ أؤمن بأن «ما التقى سياسيان إلا وكان ثالثهما الشيطان». ولو كانت بيدي عصا سحرية لمنحت كل السياسيين وقادة الأحزاب إجازة وضع مفتوحة، لعلهم يعيدون ولادة أنفسهم بشكل طبيعي بعد أن جاءوا إلى الكراسي بعمليات قيصرية. وخلال غيابهم يجري تشكيل حكومات من التكنوقراط، لا يسار ولا يمين، لا شيوعية ولا قومية، لا دين مسيّساً ولا تقدمية، بل معسكرات عمل ننخرط فيها جميعاً لنعيد بناء ما ترهل من اقتصاد وحريات وثقافة وجامعات ومراكز علاجية. وإذا حدث و رفع أحدهم عقيرته بكلام السياسة فإن العقوبة هي وضعه بالمقلوب على صهوة حمار والدوران به في الأزقة ليكون مضحكة للناس. { سوريا اليوم في محك تاريخي صعب جدا، هل من مخرج من هذا الجحيم؟ قل لي أي بلد من أوطاننا السعيدة ليس في محك صعب أقل لك أين هو المخرج. لبنان؟ الجزائر؟ فلسطين؟ العراق؟ البحرين؟ السودان؟ تونس؟ الأردن؟ ومصر... آه يا مصر. نحن في متاهة وجودية وأنا لست زرقاء اليمامة ولا أنوي المشاركة في سؤال «من يربح المليون». { كيف تقرئين المشهد المصري بعد الإطاحة بمحمد مرسي؟ أنا لا أقرأ. أنا أكتب. وأكتب أدباً لا تنظيرات. لكنني أعرف من المصريين أصدقاء مثل عبدالمنعم رمضان وسلوى بكر وعزت القمحاوي وابراهيم عبدالمجيد وإقبال بركة وسعيد الكفراوي ورضوى عاشور ووديع فلسطين وفاروق شوشة وأحمد عبدالمعطي حجازي وجورج بهجوري وخيري بشارة وسهير فهمي وغيرهم ممن أعرفهم دون أن ألتقيهم وأعرف أن مصر ستكون المحروسة، دوماً، بهم وبرفاقهم. { هل ألهمك الوضع العربي اليوم لكتابة رواية؟ الحياة هي الملهمة. أو ما يسمونه ب «معترك الحياة»، فكيف إذا كان في الاحتدام الذي نعيش؟ { تكتبين أيضا النقد الفني، لك كتاب عن الرسام العراقي جواد سليم، في ماذا يفيد الفن الروائي؟ :كتابي عن «لورنا»، الفنانة البريطانية التي كانت زوجة لجواد سليم. وهو بمثابة سيرة روائية لهذه السيدة التي عاشت في بغداد عشرين عاماً واكتسبت الجنسية العراقية، نتعرف من خلالها على الجانب العاطفي والعائلي لزوجها الذي كان من أبرز رواد الرسم والنحت المعاصر في بلدي.{ هل الواقع العراقي، والعربي عموما، حاضر في روايتيك «سواقي القلوب» و «الحفيدة الامريكية»؟ نعم، وهل هناك ما هو أكثر ثراء للعمل الروائي من الأحداث الجارية في العراق؟ ومن يقرأ رواياتي الثلاث يجد بينها قاسماً مشتركاً هو الحضور الشخصية الطاغي، في كل مرة، للمرأة العراقية المسنّة التي عايشت أكثر من عهد وزمان. كما تجمع بين «عجائزي» العزيزات ثلاث صفات: التقدم في السن، ومسقط الرأس في مدينة الموصل، والانتماء إلى زمن عراقي كان مختلفاً في الرقيّ والتسامح والتفتح. وفي المقابل تفرّق بينهن حكاياتهن التي تسير كل منها في اتجاه. إن كاشانية، في «سواقي القلوب» سيدة أرمنية تزوجت فرنسياً دون أن تنجح في فك الاشتباك بينها وبين مسقط رأسها. ورحمة في «الحفيدة الأميركية» جدّة لم تتمسك بالجذور ويشقيها أن تعمل حفيدتها مترجمة مع الاحتلال الأميركي. أما وردية في «طشّاري» فقد عملت طبيبة في الديوانية لعدة عقود ثم اضطرت للهجرة إلا وهي في الثمانين. إنهن ثلاث عراقيات باسلات ومجهولات، نصفهن حقيقي ونصفهن خيالي، يحفظن في ذاكراتهن صورة وطن يتبدد. { ماذا يصلك من و عن العراق اليوم؟ هل زرت العراق بعيد سقوط نظام صدام حسين؟ يصلني كل شيء من العراق وعن العراق. من المنّ والسلوى وحتى نثار دماء ضحايا السيارات المفخخة. فأنا لم أنقطع عن التردد على بلدي ولم أكن منفية ولا لاجئة بل صحافية مهاجرة الحرية. وقد ذهبت إلى بغداد بعد الغزو الأميركي لكي أكون شاهدة عيان. ولم أحتمل أن أستمع إلى الأخبار من الإذاعات والفضائيات فحسب. ولعلها الزيارة التي أوحت لي بفكرة رواية «الحفيدة الأميركية». { نقرأ و نشاهد عن الأوضاع المزرية التي يعيشها المثقف العراقي اليوم، كان آخرها الوضع الصحي للروائي جمعة اللامي و تنصل حكومة المالكي من التكلف بعلاجه. مثقفون عراقيون كثيرون مرضوا وغابوا ودفنوا في منافيهم. ومن المفارقات أن تحتفل بغداد بكونها عاصمة للثقافة العربية، وهي تستحق هذا وأكثر، في حين أن نسبة كبيرة من أُدبائها وفنانيها وأكاديمييها ما زالوا مشتتين في بلاد الله الواسعة، لا تشجعهم أوضاع البلد على العودة وينفرون من استشراء الطائفية ونظام المحاصصة الفئوية والمذهبية. إن هذه الأوضاع هي هموم ثقال تصيب مثقفينا بشتى الأمراض. ومن حافظ على عافية الجسد يعاني من وهن الروح وتقهقر المعنويات. أدعو بالشفاء لصديقي المبدع جمعة اللامي فهو مريض آخر من المبتلين بداء نقص الحرية المزمن. { لاحظت أنك تستخدمين بعض المفردات العراقية الدارجة في رواياتك، ألا تخشين أن يتسبب الأمر في سوء فهم للقارئ العربي؟ أُحاول ألا أستخدم من المفردات الدارجة إلا ما كان مفهوماً وقريباً من الفصحى. وهناك مواقف وحوارات لا يمكن لها أن تستقيم بدون اللجوء إلى هذا الحل. وأظن أن الاستعمالات الدارجة في بلداننا العربية قد تطورت بأسرع وأوسع مما تطورت به الفصحى. وفي اللغات العالمية هناك معاجم دورية للهجات المحلية وإضافات سنوية على القواميس لإدخال الألفاظ المستحدثة فيها. وعلى رغم رحابة لغتنا العربية وإعجازها البلاغي فإن للدارجة عبقريتها المتأتية من انبثاقها عن حاجة راهنة وتحررها من القيود. { كيف تسنى لك الاحتفاظ بكل هذه الكلمات العراقية الدارجة وأنت المغتربة عن العراق منذ أكثر من ربع قرن، ألا تعتقدين أن اللهجة تفقد مواصفاتها مع سنيّ الاغتراب؟ إسمح لي أن ألفت نظرك إلى أن المفردات الدارجة لا تشكل أكثر من واحد في المئة من لغة الرواية، وهي ترد في بعض الحوارات، لا كلها، وأغلبها يستند إلى أصل فصيح. أما احتفاظي بها فلأنني أستمع إليها وأستخدمها كل يوم في دندنتي للأُغنيات القديمة، وكذلك في حديثي مع الزوج والأولاد والأهل والأصدقاء، لاسيما مفردات الحب والتدليل أو القهر والغضب. ويبدو لي أن الواحد منا، مهما تعلم من لغات غريبة فإنه يبقى تحلم في المنام بلغته الأُم وبها يطلق الشتائم. { كتبت مقالة عنوانها 12 كلمة للديكتاتور، هل بقي العدد هو هو أم تقلص قاموس الديكتاتور؟ إن الديكتاتور الذي كتبت عنه ليس عربياً بل هو من اختراع الكاتب الفرنسي إريك أورسينا في آخر رواياته. وهو يحرم على شعبه استخدام المفردات الكثيرة ويفرض عليه 12 كلمة فقط. وأظن أن ديكتاتور أورسينا ظريف وعملي وواقعي لأنه يكره الثرثرة ويريد لشعبه أن يعمل بدل الكلام. لكن الناس تحب الحكايات وتريد التعبير عن النفس بكل ما في اللغة من تنوع ومرادفات. إن للحب كلمات، وللكره كلمات، وللشجن كلمات، وللغضب كلمات، وللجنون أيضاً كلمات، ولا يمكن قمع المجتمع وفرض 12 مفردة على ألسنة نسائه ورجاله. أما قواميس ديكتاتوريينا فأمر آخر. وأظنها تخلو من الأفعال الماضية والمضارعة وتكتفي بأفعال الأمر والنهي.