نراوح في هذا العمل بين توجهين منهجيين اثنين، نعتني في الأول منهما بمفهوم العدالة وكيفيات تحوله في الفكر المعاصر. و نتجه في الثاني، للاقتراب من نتائج تجربة المغرب في باب العدالة الانتقالية. وذلك لاقتناعنا بأن التحولات التي لحقت مفهوم العدالة في الفكر المعاصر، ساهمت وتساهم بصورة أو بأخرى، في التأطير النظري لتجارب العدالة الانتقالية، كما تبلورت في العالم خلال عقود الثلث الأخير من القرن الماضي، حيث يتم عادة ربط هذه الأخيرة في تجارب العدالة الانتقالية، بالتدبير الحقوقي والسياسي الموصولين معا بالإصلاح الديمقراطي، في عالم تزداد فيه شرعية الأنظمة الديمقراطية صلابة، وذلك بالرغم من أزماتها وعوائقها. نتجه في هذه الورقة لبناء جملة من المعطيات والمواقف، في موضوع العدالة والعدالة الانتقالية. ونتوقف أساسا أمام كيفيات تمظهر المفهوم في تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية، وقد أكملت هذه السنة عقدها الأول، مُبلورةً في تقريرها الختامي مكاسبها ومنجزاتها، بل وأدوارها في التحول السياسي، الذي عرفه المغرب في العقد الأول من القرن 21. نراوح في عملية البناء بين توجهين منهجيين اثنين، نعتني في الأول منهما بمفهوم العدالة وكيفيات تحوله في الفكر المعاصر. و نتجه في الثاني، للاقتراب من نتائج تجربة المغرب في باب العدالة الانتقالية. وذلك لاقتناعنا بأن التحولات التي لحقت مفهوم العدالة في الفكر المعاصر، ساهمت وتساهم بصورة أو بأخرى، في التأطير النظري لتجارب العدالة الانتقالية، كما تبلورت في العالم خلال عقود الثلث الأخير من القرن الماضي، حيث يتم عادة ربط هذه الأخيرة في تجارب العدالة الانتقالية، بالتدبير الحقوقي والسياسي الموصولين معا بالإصلاح الديمقراطي، في عالم تزداد فيه شرعية الأنظمة الديمقراطية صلابة، وذلك بالرغم من أزماتها وعوائقها. نتوخى من خلال هذا العمل، الإجابة على أسئلة عديدة، أبرزها السؤال الذي يضعنا أمام كيفيات تبلور إجراءات العدالة الانتقالية في عالم متعولم، اختلطت فيه القيم وتقاطعت، حيث تنقلنا خطابات العدالة في الفكر المعاصر، من فضاء المفهوم النظري المجرد إلى مجال المقاربة السياسية المستوعبة لجملة من الإجراءات، في موضوع تدبير الصراع السياسي في زمن معين، وداخل مجتمع بعينه. نعتمد في عمليات مقاربتنا، على محصلة تجارب الانتقال الديمقراطي، كما تبلورت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، في كل من أوروبا وأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، لنرسم انطلاقا منها، الملامح الكبرى للمرجعيات النظرية والسياقات التاريخية والسياسية، التي حددت لمفهوم العدالة الانتقالية الدلالة والأفق. حيث تَرسمُ بروتوكولات عمل المركز الدولي للعدالة الانتقالية، المبادئ والموجهات الكبرى المستخلَصَة من تجارب بعينها، مُحددة الوسائل التي تُسعف ببلوغ أهداف العدالة الانتقالية. نتوقف بعد ذلك، لنركب في عملنا محورين اثنين، نقترب فيهما من حصيلة هيأة الإنصاف والمصالحة في التجربة المغربية، وذلك بالصورة التي تُمكننا من مُعاينة الإشكالات، التي اعترضت وتعترض الأهداف التي أنشئت الهيأة من أجلها، لعلنا نتمكن في النهاية، من وضع اليد على حدود ومحدودية التجربة، وذلك دون إغفال الآفاق التي رسمت في الطور الانتقالي، التي عرفه ويعرفه المشهد السياسي المغربي، في عالم ما يفتأ يتغير. إن الجمع في هذه المحاولة بين الاستماع إلى معاني ودلالات مفردة العدالة في التداول المعاصر، وقد أصبحت تُقرنُ بنعوتٍ متعددة، من قبيل الاجتماعية والانتقالية والمجالية والاقتصادية واللغوية إلخ..، وبين تجربة في العدالة الانتقالية غير مسبوقة في المجتمعات العربية، تجربة نعتقد أن الحاجة إليها ملحة اليوم، بناء على التحولات التي عرفتها المجتمعات العربية سنة 2011، يتيح لنا معاينة جوانب من صعوبات وآفاق التحول السياسي الجارية في المغرب. وما يدفعنا للمزاوجة في عملنا بين المقاربتين، هو تقديرنا لتجارب الانتقال الديمقراطي التي وظفت مفهوم العدالة، واستخدمت في الآن نفسه، نعت الانتقالية لتنخرط في ممارسة بعض المساطر المُرتِّبة لقواعد معينة في تدبير موضوع الإصلاح السياسي الديمقراطي، كما جرى ويجري العمل بها اليوم، في كثير من البلدان التي اختارت الطريق نفسه لتجاوز أعطابها السياسية. لا يبنغي أن يفهم من التوضيحات السابقة، أننا نتوخى الإحاطة الشاملة بتحولات مفهوم العدالة في تجلياته الكبرى في الفكر الفلسفي المعاصر، ذلك أن مسعانا في هذا العمل، لا يتجاوز محاولة وضع اليد على التحولات الكبرى التي لحقت المفهوم، وخاصة في مستوى السعي للتقليص من كثافته النظرية، لحساب البعد السياسي الإجرائي، الموصولين بمبدأ النجاعة في التاريخ. الأمر الذي يضعنا بالذات أمام جيل من المفاهيم الجديدة، التي يتم توظيفها اليوم في المنتظم الدولي والمعاهد التابعة له، والتي تُعنى بتركيب وضبط مفاهيمه بحسابات متعددة، أبرزها الحرص على النجاعة والمردودية. أما اقترابنا من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، وما فتحته من آفاق في المشهد السياسي المغربي، فقد جعلنا نعاين جوانب من مشروع التحول السياسي الذي حصل في المغرب في مطالع التسعينيات، وما تلاه بعد ذلك من مبادرات إصلاحية، تُوِّجَت في نهاية القرن الماضي1998 بتجربة التناوب التوافقي. وضعتنا عنايتنا بالتجربة المغربية في مجال الإنصاف وجبر الضرر، أمام مجموع الشروط التاريخية والسياسية التي واكبتها، كما وضعتنا أمام التحولات، التي عرفها المغرب طيلة العقد الأول من الألفية الثالثة، وهي التحولات التي كان لها دور محوري في عبور تجربة الانفجارات، التي عمت أغلب البلدان العربية في سنة 2011. فقد تفاعل النظام السياسي في المغرب، بطريقة استوعبت كثيرا من المطالب التي تم التعبير عنها في الشعارات التي رفعت في المظاهرات التي ملأت الساحات العمومية، وهو الأمر الذي مَكَّنَ المغرب من عبور لحظات الانفجار بأقل ما يمكن من الخسائر، مقارنة مع أنظمة عربية أخرى. لا يمكن الفصل كلية بين منظومات فكر العدالة في الفكر السياسي المعاصر، ومضمون العدالة الانتقالية في صوره الجديدة، المتبلورة في سياق خطابات مفاهيم الإصلاح السياسي المتداولة اليوم في العالم. ولهذا سنحاول في هذا العمل، تقديم جوانب من المرجعية النظرية المؤطرة لخطابات العدالة الانتقالية. وسنتوقف في الحلقة القادمة أمام مساهمة كل من الفيلسوف الأمريكي راولز والاقتصادي الهندي أمارتيا صن، بحكم أننا نرى أن الجدل الحقوقي والسياسي، السائد في العالم اليوم في موضوع العدالة الانتقالية، يستند في جوانب عديدة منه إلى الجهود النظرية والإجرائية، التي تمََّ تطويرها في أبحاث العدالة والديمقراطية والتنمية الاقتصادية. كما يستند في مستويات أخرى منه إلى المعطيات التدبيرية والإجرائية، التي ركَّب المركز الدولي للعدالة الانتقالية، باعتباره فضاء مفتوحا للبحث في موضوع العدالة الانتقالية، بمختلف تجاربها المتعددة والمتنوعة. وسيمكننا هذا المحور من الاقتراب من الأفق النظري والسياسي الذي بلورته تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، وذلك بالاعتماد أساسا على مكاسبها ومنجزاتها.