نظمت المندوبية الجهوية لوزارة الثقافة بطنجة الأسبوع الماضي ندوة نقدية لمناقشة كتاب « الفتنة و الآخر، أنساق الغيرية في السرد العربي» للباحث شرف الدين ماجدولين، شارك فيها كل من محمود عبد الغني و محمد المسعودي و مؤلف الكتاب. بحضور مجموعة من مثقفي وكتاب و فناني المدينة الذين ساهموا في إغناء النقاش و الحوار حول كتاب من أهم الكتب النقدية الصادرة بالمغرب خلال السنة الجارية،والذي حظي بمنحة الصندوق العربي للثقافة والفنون برسم موسم سنة 2009. صبّ الباحث شرف الدين جهده الفكري والنقدي لمناقشة قضاياالآخر والغيرية، محددا في البداية الحدود المفهومية للمصطلح، موثرا استعمال «الغيرية» عوض «الآخرية». ويبرر هذا الاستعمال بأن العرب قديما تحدثوا عن الغير و ليس عن الآخر. وبذلك يكون الاشتقاق هو الغيرية و ليس الآخرية. وقد استعمل الباحث هذا المفهوم لدراسة السرد العربي قديمه وحديثه، في مختلف الأجناس الأدبية: الرواية، السرود الهامشية و الهزلية، الأخبار، السير الذاتية، كتب الحوارات، القصة القصيرة. ركز محمود عبد الغني في عرضه «الوعي بالمصطلحية في «الفتنة والآخر» على معجم المصطلحات التي وظفها الباحث شرف الدين في دراساته. ونبه إلى أن اكتفاء البحث الأدبي بنظرية الأدب ومناهجها هو انحراف عن الطريق، بل إنه خروج عن العادات. إذ لابد من الاقتران بين البحث الأدبي و المفاهيم الفلسفية و الإبستيمولوجية. و أضاف أن كتاب «الفتنة و الآخر» ينبهنا إلى غياب الفكر الفلسفي في جزء كبير من خطابنا النقدي. وهو أمر يعي خطورته من يدرك أن النظريات الأدبية في الغرب ظلت، منذ بدايتها، جزءا من نظريات فلسفية أعم و أشمل، أوأنها جاءت استثمارا لمنتوجات الفكر الفلسفي و العلمي في هذا المجال المعرفي الخاص. بعد هذا المدخل النظري، قام المتدخل بجرد للمصطلحية الأدبية المتجذرة في عالم الأدب والتخييل، وأكد أن الباحث استعملها بدراية و حنكة ووضوح منذ كتابه اللافت: «بيان شهرزاد». فهذه المصطلحية غزيرة و حسنة الاستعمال و التوظيف. ثم انتقل محمود إلى جرد للمصطلحية الفلسفية،أوالمنتمية إلى العلوم الإنسانية. وهي دلالة على حنكة الباحث في استعارة المصطلح من حقول أخرى و توظيفها لتأويل وتوسيع دلالة النص الأدبي. كما انتقل إلى الحديث عن ترجمة المصطلح في كتاب «الفتنة و الآخر»، واستخلص أن الباحث يعي أن الترجمة هي من أكبر المعضلات الفكرية التي تقض مضجع المصطلح. ففي الترجمة تتحول الذات إلى آخر، إلى غير. بل إنها اختبار لهذا الآخر و»مراقبة مستمرة» له، خصوصا في النقد الأدبي الحديث الذي يضطر إلى ممارسة اختبار واع لاستعمالات المصطلح. و أشار إلى أن شرف الدين في كتابه لم يستعمل إلا المصطلحية الضرورية للقيام بالتحليل و التأويل و استخلاص النتائج. مما أبعده عن مطب التضخم المصطلحي الذي أصبح يهدد تداول العديد من الدراسات النقدية و الفكرية. أما محمد المسعودي، فقد ناقش موضوع « أنساق الغيرية وأفق الكتابة الجمالية» في كتاب «الفتنة والآخر». مؤكدا أن الباحث طرح عدة أسئلة حول الغيرية كمفهوم فلسفي بالأساس،وحول فتنة السرد من خلال نصوص من السرد العربي. فكان اختباره لهذا المفهوم جادا و جديدا. فمرجعيات الغيرية و تجلياتها هي أفق جمالي أيضا، كما أنها المفتاح الرئيسي لولوج إلى جمالية الأفق السردي. و المقصود بالفتنة، حسب المتدخل، استنادا إلى الباحث، هو الجانب «الملتبس دوما بالآخرين» باعتبارها محصلة «لاغتياب الآخرين»، وفق أصول سردية معلومة، يختص بها جنس سردي ، و تتمثل في خصائص أسلوبية و قيم تعبيرية، تجعل للفتنة كنها جماليا يباعد بينها و بين الشقاق و المحنة، ويجريها مجرى الغواية و البيان. و من هنا، يضيف المسعودي، تتنوع تمظهرات الفتنة في السرد بحسب تجلي الآخر في الخطاب السردي. ثم انتقل المسعودي إلى البحث في تجليات مفهوم الغيرية و تجلياته السردية. ففي السرد يصبح هذا المفهوم دالا على كل ما هو خارج الذات الفردية و تمثلاتها عن الأنا، والجسد، و الجماعة، و الوطن، والعقيدة... وغيرها من أشكال تختلف الذات في النظر إليها، مما قد يشعرها بفقدان التواصل و الشعور بالنفي و انعدام الفهم و التفاهم. بعد المداخلتين، انتقل صاحب الكتاب، شرف الدين ماجدولين إلى الحديث عن أهم محاور كتابه «الفتنة و الآخر»، بادئا بالقول المأثور: « إنما كان القصص حين كانت الفتنة»، فلا حكي بدون تنازع، و لا مسوغ لرواية بغير ما «جدل» يولدها، و «غواية» تعقبها، فالسرد يحتمل الصدق و الكذب، و أن نروي يقتضي منا تهذيب النسيان، و ملء الثقوب التي تطرأ على الذاكرة، كما يشترط بالقدر نفسه نظم سياق حي، يستحضر غائبين كثرا، و توزيع الضمائر في مضمون القول، و في خضم هذه الاحتمالات يقع الزيغ عن مطلق الحقيقة، فتزدهر الفتنة. ثم أضاف أن الفتنة هي تنازع حول الخطاب و الدلالة، بين الذوات الناقلة و المؤولة، وبقدر غرابة المعنى، يضيف شرف الدين، وخرقه لسياقات الألفة، يكثر الشقاق في التفسير، فتكثر السرود و المرويات، و تتوالد القراءات و التآويل الواقعة في دائرة السحر. وعن السياق الذي يندرج فيه الكتاب، جوابا عن أسئلة المتدخلين، أضاف شرف الدين، أنه يندرج ضمن تقليد دراسي يتوخى الانطلاق من إشكال موحد و استقراء تجلياته عموديا عبر الأجناس المختلفة، و أفقيا عبر التطور و الامتداد الزمنيين. وبناء على ذلك، فإن الدراسات التي يحتوي عليها الكتاب، لم تختص بعصر محدد ولا بمرحلة مفردة، و لكن عملت على تحليل تطور أنساق الغيرية في أساليب التخييل السردي أينما كتب و متى كتب. يمكن اعتبار ندوة كتاب «الفتنة و الآخر» ندوة علمية ساهمت في تأطير أسئلة نوعية حول مفاهيم حديثة في النقد الأدبي و في البحث السردي الحديث. ندوة لا يمكن تجاهل مساهمة جمهور الحاضرين الذي أغلبهم ينتمي إلى عالم الفن (مسرح، سينما) و عالم النقد القصصي و الروائي، وعالم الشعر و الجماليات.