يحتل الباحث والناقد شرف الدين ماجدولين مكانة هامة في النقد المغربي و العربي. إذ منذ صدور كتابه «بيان شهرزاد» عن المركز الثقافي العربي، وتعاقب طبعاته، و الباحث يتابع مسيرته البحثية في مساءلة النص السردي العربي قديمه وحديثه. و قد كان آخر كتبه «فتنة الآخر، أنساق الغيرية في السرد العربي» وقفة نقدية عند موضوعة شغلت السرد العربي، متناولا إياها من زوايا مختلفة. للوقوف على عالم البحث لدى شرف الدين نجري معه الحوار الآتي. { ارتبط اسمك بالكتاب العربي الساحر «ألف ليلة وليلة» إذ أنت من الدارسين العرب الذين اشتغلوا على حكايات الليالي مبرزين مواطن الفتنة والجمالية في هذا الكتاب. ودراستك «بيان شهرزاد: التشكلات النوعية لصور الليالي» شاهدة على ذلك. ما الذي دفعك إلى الاهتمام بهذا الكتاب؟ كتاب ألف ليلة وليلة نص فريد في تاريخ الآداب العالمية، وتأثيره القائم أو المحتمل في مختلف أشكال التعبير الفني في العالم العربي، وفي الغرب، هو نتاج أصالته وصدقه وقدرته على التغلغل إلى أعماق الكيانات الفردية والجماعية. إنه من النصوص النادرة، إن لم يكن الوحيد، الذي استمرت عملية إبداعه على ألسنة الرواة ومخيلة النساخ أجيالا عديدة فامتزجت فيه التأثيرات الثقافية الفارسية بالهندية بالتركية بالعربية... ولذا فهو حصيلة تعدد ثقافي قبل أن يكون مولدا لهذا التعدد على مستوى التعبيرات الفنية في الثقافات المعاصرة، بل إنه بحكم وضعه ذاك بات مؤهلا أكثر من غيره لأن يستثير شتى أنواع المحاكيات النصية والمعالجات الدرامية والسينمائية والروائية والموسيقية والتشكيلية... كما هو حال عدد من روائع الفن والأدب التي لا يمكن إلا نستحضرها كلما ذكرنا ألف ليلة وليلة من قبيل: «الديكامرون» لبكاشيو، و«اسم الوردة» لأمبيرتو إيكو، وفيلم بيير باولو بازوليني «الف ليلة وليلة»، ولوحات كاندانسكي ودولاكروا ، وسانفونية ريمسكي كورساكوف: «شهرزاد»، وغيرها... لكل هذه التأثيرات وغيرها كان اهتمامي بهذا الكتاب وأعتقد أنه اختيار مكنني من ارتياد مجالات معرفية ما كنت لأرتادها مع نص غيره، فدراسته علمتني التعامل مع الأدب الشفوي والمكتوب معا، وولوج عوالم الطبعات الحجرية القديمة، وأن أتعرف الصعاب التي تعترص تحقيق الأدب الشعبي، هذا فضلا عن أنه ليس نصا عربيا خالصا أو حكرا على العارفين بالعربية ولكنه نص نقل إلى عدد لا حصر له من اللغات وله أصول بلغات شرقية أخرى غير العربية، ولا يتعلق الأمر هنا بترجمات، وهو التعدد اللغوي الذي استتبع عددا لا حصر له من الدراسات والقراءات والأطاريح النقدية التي يمكن أن تستنفذ عمر الباحث دون أن يلم باليسير منها. في المحصلة هو نص يعلم كل من تصدى لدراسته خصلة رفيعة ميدان المعرفة وهي خصلة التواضع. { إذا طلبنا منك تقييم الدراسات العربية وغير العربية التي قاربت كتاب الليالي ماذا تقول؟ أو ما هو رأيك في: سهير القلماوي، جمال الدين بن الشيخ، محسن جاسم الموسوي، عبد الفتاح كيليطو...؟ كتاب الرائدة سهير القلماوي عن ألف ليلة وليلة، شكل في سياقه عملا طليعيا في الالتفات إلى نصوص التعبير الشعبي التي ظلت لقرون طويلة من الزمن على هامش الانشغال النقدي، كما شكل اعترافا من قبل الوسط الأكاديمي بمشروعية الدراسات الشعبية، مما مهد السبيل لإنشاء أول كرسي لدراسات الأدب الشعبي في الجامعات العربية (في جامعة القاهرة تحديدا) تعاقب عليه تلامذة سهير القلماوي ممن أرسوا دعامات هذا النوع من الدراسات الأدبية، من مثل: عبد الحميد يونس، وأحمد مرسي، وأحمد شمس الدين الحجاجي، وعبد الحميد حواس، ونبيلة إبراهيم... لقد كان للقلماوي، إذن- فضل السبق والتأسيس، وإن صار كتابها اليوم لا يكتسي إلا قيمة تاريخية، فإنه كان في أوانه جهدا عظيما، لا تخفى أهميته في تتبع المسار التاريخي لكتاب الليالي، وتصنيف موضوعاته، وتعريف القارئ العربي بالجهود العلمية الرائدة التي بذلها المستشرفون في دراسة نصوصه الحكائية، والبحث في أصولها اللغوية والقومية والثقافية، ولذا فإنه من البديهي أن تفصل كتاب سهير القلماوي، عن كتب أخرى ك: «ألف ليلة وليلة أو القول الأسير» لجمال الدين بن الشيخ، أو «مجتمع ألف ليلة وليلة» و»الوقوع في دائرة السحر» لمحسن جاسم الموسوي، مسافة طويلة من الزمن الثقافي تعاقبت خلاله شتى أنواع المقاربات لنصوص الليالي ما بين التاريخية الكلاسيكية وسسيولوجيا الأدب، والتحليل النفسي، ومورفولوجيا الحكايات، والسيميائية، والدراسات النسائية، والبلاغية ودراسات الصور، ... فالكتاب بات إلى حد ما معيارا لرصد تطور أليات البحث في السرد الشعبي، والسرد التراثي عموما، وهو المنطلق الذي جعلني أعاود النظر في تشكلاته النوعية، بالرغم من وعيي بصعوبة مثل هذا المسعى بصدد كتاب تداولته مهارات نقدية تند عن الحصر، وشكل العديد منها محطات استثنائية في التحليل النقدي، كدراسات عبد الفتاح كليطو وكلود بريمون، وفريال جبوري غزول، ومحسن مهدي، وأندرياس هاموري وغيرهم كثير، ممن انصبت أعمالهم الأساسية على حكايات ألف ليلة وليلة. { كل دارس لنصوص التراث يواجه مباشرة مسألة المنهج. هل تواجه هذه القضية في دراساتك التي انطلقت من نصوص تراثية؟ لا أريد أن أكرر هنا ما يردده الكثيرون من كون النصوص هي التي تختار مناهجها، في الواقع أومن أن الاشتغال على التراث السردي، والتراث عموما، يطرح دوما أسئلة تتعلق بعدم مصادرة حق النصوص في الانتماء إلى مدار جمالي وسياق تعبيري، لا نعلم عنه نحن إلا ما نحاول أن نتخيله بناء على ما تمدنا به كتب التاريخ ومصنفات الأخبار والتراجم والطبقات، أي أن نهجنا في التعامل مع تلك النصوص هو مرتبط جدليا بقدرتنا على تمثل المؤثرات الجمالية وثقافية والتاريخية التي احتضنت ذلك النص، وهي قدرة تتعرض مع مرور الزمن إلى التشكيك والارتياب مما يجعل الباحثين في كل عصر يتقدمون بقراءات وتأويلات تختلف عن قراءات وتأويلات سابقيهم لنصوص بعينها. وما دمنا بصدد كتاب ألف ليلة وليلة، أستطيع القول إن مختلف القراءات الموجودة اليوم، والمتواترة عبر التاريخ الحديث، يمكن تناولها من حيث حي حكايات موازية للنص، لها متعتها وعمقها ومبرراتها النقدية والثقافية، لكن لا يمكن أن ننظر إليها عبر معايير الصواب والخطأ الدائمين. ما أريد قوله ?إذن- هو أني لم أكن أشغل ذهني كثيرا بقضايا المنهج، بقدر انشغلت دوما بأسئلة معينة، وأترك للوقت والقراءات المتعاقبة، مسألة ترتيب المداخل، وصياغة المفاهيم الإجرائية في تناول النصوص. { كما أنه لابد لكل دارس لنصوص التراث أن يواجه قضية الأجناس الأدبية في التراث العربي؟ قضية الأجناس في التراث العربي، ليست بالتعقيد الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن لأول وهلة؛ فما يضفي على الأمر بعض الغموض، ويجعله محفوفا بالصعوبات، هو النظر إلى الموروث وأجناسه الخطابية العامة بما فيها الأجناس الأدبية، من أفق ذهني وذوقي ومعرفي يغاير أفقه، إن لم يتعارض معه أحيانا، لذا فإن تجربة من هذا القبيل لا يمكن إلا أن تعترضها صعوبات ومزالق جمة، فالقارئ الذي هو أنا أو أنت أو أي إنسان آخر، يمتلك نسقا من القيم يتداخل فيها الجمالي بالإطار الثقافي الحاضن له، بحيث يتحول هذا الجمالي إلى مكون من ضمن مكونات ثقافية عديدة تؤلف فيما بينها نسق القيم الخاصة بمجتمعنا المعاصر، ويمكن في هذا المستوى من التحليل أن تقرّ معي بأن تذوقك وتقييمك لعمل روائي مغربي مثلا يتم عبر منظومتك القرائية التي تتألف في الأصل من مضمون خبراتك الأدبية في تلقي مختلف النصوص الروائية وغير الروائية، وكذا من خبراتك في تلقي كل أشكال التعبير الجمالي من سينما إلى مسرح إلى شعر حديث إلى تشكيل... بحيث تتحول ملكاتك الإدراكية والتمثيلية إلى إفراز من إفرازات نسق القيم ذاك، وهو نسق من القوة والفاعلية بحيث يعسر الابتعاد عنه بمسافة معينة من الوعي، فبالأحرى تخطيه، مع أن صفة الحياد أو التجاوز الذهني تبدو لنا ضرورية في التعامل مع الجماليات التعبيرية، وأجناس الخطاب التي لا تنتمي إلى عالم اليوم وإلى قيمه؛ أي التي تقع خارج ما أسميته بالإطار الثقافي الحاضن وقيمه الجمالية، وإلا فسنسيء إلى تلك الجماليات التراثية، ولا ننجز الوعي السليم بقيمها وإمكاناتها التعبيرية ووسائطها. { كتبت في كتابك النقدي الأخير «الفتنة و الآخر، أنساق الغيرية في السرد العربي» أن السرد العربي، بخلاف الشعر، مثل نسقا خطابيا غير ذي حظوة في تراث النظر النقدي العربي. و الآن انقلبت الصورة، حيث بدأ القص و الحكي و الرواية تحتل مكانا مركزيا في النظر النقدي الحديث. المسألة تتبع مكانة الجنس التعبيري في المجتمع ولدى جمهور القراء ومدى قوته كأداة تعبيرية ووسيط جمالي. في التراث العربي كان الشعر مركزيا في المجتمع وفي بلاطات الحكام، ولدى الفقهاء ورجال الدين، وعند المثقفين وعموم الناس، فشكل منظومة الثقافة المهيمنة، وبات المرجع في تشكيل قواعد النحو والبلاغة، لدرجة أن الإعجاز القرآني ذاته كان يفسر عبر موازنته بالقول الشعري، أي أن قوالب الكلام العربي باتت رهينة الخطاب الشعري، فكان طبيعيا أن يتشكل النظر النقدي، وبالأحرى البلاغي، عبر المرجعيات والأنساق والظواهر الشعرية، ... في العصر الحالي -وأتحدث عن السياق العربي تحديدا، بما أنني معني به أولا- بات السرد مهيمنا لشروط تاريخية وسسيوثقافية معقدة، وانحسر تأثير الشعر إلى أضيق الحدود، لدرجة عزوف الغالبية العظمى من الناشرين عنه، فقارئ اليوم يستهلك الروايات والأفلام والمسلسلات الدرامية والسير الذاتية والرحلات والبورتريهات وسير الفضاءات... وغيرها من السرود التي تتوالد أنواعها بكثافة، وتنتشر بقوة بين السواد الأعظم من الناس، لدرجة أضحى معها من البديهي أن ينصرف النقد إلى دراسة الأجناس السردية، سعيا منه إلى فهم جمالياتها التعبيرية، وهو المسعى الذي لا ينفصل في مضمونه عن غاية فهم ذهنية المجتمع المعاصر. { كل دراساتك عن السرد العربي، وكتابك الأخير يؤكد نفس المنحى، لكنه يخط مسافة مع اختياراتك المنهجية الأولى، ففي البداية كنت تنطلق من أرضية مشتركة مع عموم «السرديات» واليوم في كتاب «الفتنة والآخر» تنطلق من مفهوم «الغيرية»، هل هو إقرار بأن هذا النوع من البحث أي «السرديات» يسير إلى نهايته؟ أعتقد أنه يجب التفريق ، بداية- بين معنيين للتحليل النقدي المستند إلى قاعدة «السرد»، أولهما ?وهو المضمن في سؤالك- ينصرف إلى اعتبار التحليل السردي متماهيا بشكل كلي مع نهج «السرديات» الذي يولي الاهتمام الأكبر ل: «بنية الخطاب»؛ مع مايتصل بها، ويتفرع عنها، من عناصر بنائية لاشتغال السرد في جنس الرواية أساسا، من قبيل: «زاوية النظر»، و»الزمن» و»الوظائف»، و»الفضاءات»، وغيرها من آليات الخطاب السردي، التي اتخذت في التنظيرات والاجتهادات السردية ?خصوصا المنتمية منها للمدرسة الفرنسية- منحى شكليا صرفا. وهذا الاختيار قد ينطبق عليه إلى حد بعيدك تقيمك الذاهب إلى وصوله إلى مشارف نهايته. أما المعنى الثاني للاشتغال السردي، وهو الذي يعنيني، وأصدر عنه في مؤلفاتي حول السرد العربي، فينطلق من عالم الأسلوب، والبلاغة النوعية، وهو يولي الأهمية القصوى لأنساق التشكيل الجمالي، وأذكر في هذا السياق أن كتابي الأول عن ألف ليلة وليلة الذي حمل عنوان : «بيان شهرزاد: التشكلات النوعية لصور الليالي» يمثل اختيارا تحليليا يراهن على الطاقة الفنية للصور في أساليب السرد القديم، يتداخل في غماره الجانب العلمي المرتبط بالقواعد والمكونات البنائية للسرد بالجوانب الذاتية والذوقية المرتبطة بالرؤية الفنية لعوالم الصور وما تنضح بها من حقائق ومعان إنسانية. وهي القاعدة المعيارية ذاتها التي انطلقت منها في كتابي الأخير عن : «الفتنة والآخر»، وإن اختلفت المفاهيم المركزية المشغلة وانزاحت بحسب ما أتصور أنه تطور طبيعي في أي قراءة نقدية. إذن فهو منظور مختلف عن ذلك الذي ترمي إليه في سؤالك عن «السرد»، إذ بقدر ما يولي الاهتمام للعناصر والبنيات، يسعى إلى رصد تداخلها مع النسيج النوعي للأسلوب ومحموله الثقافي، في لحظة بذاتها، وبالنظر إلى جدلها مع ما أسميته ب: «النسق الثقافي الحاضن» الذي يفرز القيم القرائية والذوقية في محيط اجتماعي وفكري معين، سواء كان هذا المحيط هو «العصر العباسي» أو «عصر النهضة»، أو الزمن المعاصر. { ما هو تقييمك للنظر النقدي المغربي اليوم، على ضوء بعض الآراء التي ترى أنه فقد وهجه، ومكانته الثقافية؟ بخلاف ما ذهب إليه بعضهم من تأويل مبتسر يرى إلى واقع النقد المغربي من زاوية انحسار دوره في التوجيه والتقويم واستثارة السجال حول دور الأدب ووظيفة الأجناس التعبيرية المختلفة، وقدرته الاستشرافية التي ترسم معالم الطريق؛ وهو رأي ينطوي على قدر كبير من الغرور وقلة الذكاء في آن (حتى لا أقول الغباء)، أقول بخلاف ذلك أرى أن النقد المغربي يعيش مرحلة سكينة، ونضج، وعقلانية في الطموحات والمقاصد، حيث بات الناقد المغربي اليوم على وعي بأنه لن يغير العالم، ولن يجعل الروائي الضعيف يتحول بقدرة قادر إلى تولستوي مغربي، كما أنه أدرك أن وظيفته تحليلية بقدر ما هي تقييمية. وبما أن سياق زمننا الثقافي الراهن تحفف إلى أكبر حد من أحطاب الإيديولوجيا وأمراضها، فإن عددا كبيرا من النقاد المغاربة الجادين، آثروا ألا يضيعوا وقتهم في في تسقط فضائح النصوص المخالفة لعقائدكم وقناعاتهم الجمالية والثقافية، واقتصدوا زمنهم وزمن قرائهم وأعصابهم أيضا، بأن انكبوا فقط على النصوص التي ترضي ذوقهم، وهي طريقة قد يرى فيها البعض قلة حيلة نقدية، وضعفا وهروبا... ، بينما أرى أنها تمثل نوعا من العقلانية الحكيمة، فأن نصمت على العمل الضعيف أفضل من أن نضيع وقتا ومجهودا وورقا في تقليب سقطاته والترويج له بطريقة أخرى.