لا يمكننا إلا القلق والتوجس مما يجري في الآونة الأخيرة بين مثقفي ومبدعي مصر والقطاع الحكومي الوصي على الثقافة، من مماحكات متشنجة وصلت إلى حد العنف اللفظي والجسدي، بدلا عن فضيلة الحوار والنقاش الهادئ واللجوء إلى الآليات الديمقراطية والمؤسساتية في تدبير الخلاف. جوهر الخلاف، على ما يبدو، يعدو الاعتراض على شخص الوزير الجديد وإقدامه على استبدال قيادات ثقافية بأخرى، إلى خلفية ما تم اتخاذه من قرارات يُشتم منها ما يشبه تطبيق سياسة «عزل سياسي» في أوساط المثقفين والمبدعين، تمهيدا لتنزيل المشروع الثقافي الذي يحمله حكام ما بعد الثورة. وهو مشروع أجمعت هيئات الكتاب والفنانين والإعلاميين المصريين على كونه إجهازا على قيم الحرية والإبداع والتعدد التي انتظمت النموذج المصري التنويري وظلت منبع ريادته منذ نهضة نهاية القرن التاسع عشر. ومن المفارقات المثيرة للتأمل، في سياق شد الحبل هذا، أن الدستور المصري الجديد الذي قاطعته شرائح واسعة من المثقفين والفنانين، يقر في ديباجته بضرورة تثمين هوية مصر الفكرية والثقافية التي هي ( تجسيد لقواها الناعمة ونموذج عطاء بحرية مبدعيها ومفكريها، وجامعاتها، ومجامعها العلمية واللغوية ومراكزها البحثية، وصحافتها وفنونها وآدابها وإعلامها، وكنيستها الوطنية، وأزهرها الشريف... الذي كان على امتداد تاريخه منارة للفكر الوسطي المستنير). كما يرد ضمن الوثيقة الدستورية التنصيص على حق الأفراد في حرية الفكر والرأي والتعبير والإبداع بأشكاله المختلفة بالقول والكتابة والتصوير والنشر، فضلا عن واجبات الدولة للنهوض بالعلوم والفنون والآداب ورعاية المبدعين والمخترعين والحفاظ على التراث الثقافى الوطني ( المادتان: 45 و46). أكيد أن «عصيان» المثقفين المصريين يجعلهم الآن يستعيدون موقعهم الطبيعي في طليعة الحراك المتواصل طيلة السنتين الماضيتين داخل هذا البلد الذي يجد صعوبات، على غرار باقي دول الربيع، في استكمال ومأسسة قفزته الديمقراطية، في إطار موازنة صعبة تحافظ على ما تحقق من مكتسبات (اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا)، بقدر حرصها على الاستجابة لانتظارات شعبية علا سقف تطلعها إلى مزيد من الحريات والكرامة والعدالة في المنافع وتوزيع الثروات. طبعا، لا أحد سينوب عن الإخوة المصريين ومثقفيهم في معركتهم، التي لن تنتهي اليوم ولا غدا، لتحصين نموذجهم الثقافي والمجتمعي وحماية الأفق الديمقراطي الذي بشرت به رياح الثورة، في نصابه التعددي والتشاركي المفتوح بعيدا عن منطق الأغلبية والأقلية. ولكن حذار من عدوى النكوص التي أمست تختلط بآمال التغيير لدى شعوب «منطقة الربيع»، ولدى جواراتها الجنوبية والشمالية كذلك، وحذار أن نخصب بأيدينا التربة التي قد تستنبت جيلا جديدا من «الهويات القاتلة» التي ستقض طمأنينتنا وسلامنا.