في يوم.. في شهر... في سنة.. تهدأ الجراح وتندمل... متأسفا يقول: »ظلم ذوي القربى أشد مضاضة... وكملوا من رووسكم...« أكثر من خمسين سنة في خدمة أب الفنون... فنان طبيعي أنيق متواضع ومتعدد المسؤوليات... أحسن الذكريات هي نجاحه الكبير في دوره بمسرحية »سيدي ياسين في الطريق«، وأسوأ الذكريات هي السنوات القليلة الماضية حيث طاله التهميش، وتناساه المخرجون، ليجعلون منه عرضة للجري وراء الخدمة العامة من المحافظة وغيرها.. السي أحمد الصعري: ذاكرة متنقلة اقتحمت عالم التمثيل قبل فجر الاستقلال بسنوات، ومازالت تتذكر جميع الأشياء بالتفاصيل والجزئيات... إذا سألته عن فريقه المفضل، أجاب: الرجاء... فلا تسله عن لونه المفضل، فإنه حتما هو الأخضر... وإذا انهزم فريقه المحبوب، يرفض البتة أن يحمل المسؤولية للحَكَم أو أحوال الطقس... فالفريق هو المسؤول عن هزيمته... و»المسؤولون أيضا هم السبب في تردي الوضع الذي آل إليه المسرح المغربي بعد ازدهاره... وسنوات الأضواء والأنوار خلال الستينيات والسبعينات«. يقول الحاج الصعري، و»الدعم المسرحي هو سلاح ذو حدين، واللي بغى يفهم، يفهم...« هل تعلمون أن السي أحمد الصعري الذي اشتغل لمدة عشرين سنة بين أحضان المسرح البلدي، هو الذي توصل من طرف البوليس بورقة مشؤومة تعلن عن إغلاق الفضاء وهدمه... وكانت طامة عظمى، ومصيبة شؤم.. تألم صاحبنا أيما ألم.. لكن أمواج الكراهية لا تحرك هدوءه... وهو ليس معنيا باليأس، إذ يحسب أن الإنسان لا يواصل الحياة إلا بسبب الصراعات والعراقل والمثبطات.. والفنان طموح دائما.. ومتفائل دوما.. يحب البحر والأنهار، ويعشق من الورود والزهور بلعمان وشقائق النعمان.. و»على شان الشوك اللي في الورد، بَحِبْ الورد...« إغلاق مسرح من هذا الحجم، وفي مدينة غول، لاتزال شوكة في حلقه... ثم من؟ من أعلن منع الأناشيد والأشعار، والأكسسوار عن الأبصار؟؟ نعم، في اختمار المسافات، ضاع الزمن في وطن كانت نيته مقاومة اليأس والبؤس بأب الفنون... ليالي وليالي كسرتها المسافات لتستنجد المدينة التي أغلقت فيها القنافذ المنافذ.. والسي أحمد يبكي بدون دموع وهو يخطو الخطوات السريعة من أجل إنقاذ المنافذ من القنافذ.. ... المسرح هو الحب، المسرح هو الحياة، فلا معنى للثاني بدون الأول.. تقمص دور شخص مظلوم في مسرحية »جنب البير« للراحل باطمة، ودور »المظلوم« من أجمل أدواره حسب تعبيره.. يحب نجيب محفوظ ويتعاطف مع سعيد مهران في اللص والكلاب... ويعشق أشعار نزار القباني للهروب من حرارة الانتظار... وأجمل أغنيته » الدار اللي هناك« لعبد الوهاب الدكالي. إن ذوي النفوس الصحيحة يستصغرون الصعاب مهما عظمت، في سبيل شيء أسمى وأجلى، اسمه الفن النبيل في الوطن الحبيب... الصعري يحب السينما والمسرح والموسيقى والرياضة والمشي طويلا على الأقدام، فهو إذن يحب الحياة بأوزارها وأثقالها وأشعارها وتناقضاتها ومفارقاتها العجيبة.. الصعري يحب الجميع ولا يحتقر أحدا.. كان دائما صاحب الأخلاق الحميدة والقلب الكبير والإحساس الصادق والتأمل العميق والغاضب البشوش والمناضل الصبور... كان هكذا.. وما تبدل تبديلا.. المسرح، في عينيه، كامرأة وسيمة، طال وجهها التشويه، ومازال يحبها... وسيظل يحبها ولو قتلته حبا... هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله؟ الواقع هنا والآن، والتمثيل لعبة يلعبها بالجسد والروح والوجدان.. هكذا هو الصعري.. إنسان متواضع إلى حد الإيحاء بالانعزال.. يعيش الفن طيلة رحلات الشتاء والصيف وما بينهما، ويعيشه في علاقته بالآخرين، وفي صلته بالعالم الخارجي.. وإن نسيت، لن أنسى المذكرة... أضخم مذكرة تحمل بين ثناياها أسماء الفنانين من كل حقل ومجال وميدان.. الصحافيون يسألون السي الحاج عن أي رقم هاتفي لأي فنان أو فنان، ويجدونه عند صاحبنا، وبالابتسامة من فضلكم! وجوه عديدة تسكن هذا الرجل الذي تهمه الأسئلة أكثر مما تهمه الأجوبة.. وهل من حقي أن أرى أن هذا الرجل يحمل في تجاعيد وجهه حزنا لا يريد البوح بأسبابه لكي لا يقلق أهل الفن والإبداع والطامحين للولوج خاصة.. وهل من الضروري أن نبوح بأسباب الأحزان الدفينة التي خلفتها آثار السنوات والأعوام من ذكريات أحداث تزدحم في الرأس؟ خمسون سنة من النضال من أجل مسرح نقي ونبيل... خمسون سنة لا يجمعها إلا الفم... ثم سؤال آخر، وغير أخير: لماذا يقترن الحب الإنساني بالمآسي غير المتوقعة... لماذا لا ترد المؤسسة المسرحية الاعتبار لأصحاب المسرح الحقيقيين، والصعرى واحد منهم، وهم قلائل على كل حال ونعت... غريب هذا السؤال.. ثم ما معنى المؤسسة المسرحية.. سؤال غريب غرابة واقع السؤال... ثم كيف ينام الحاج الصعري ملء جفونه، والآخرون منهم من ينعم في الجهالة.. ومنهم من يشقى في النعيم.. .أو العكس. وأنى لي أن أدري.. وأحمد الصعري، نفسه لايدري... وعلى غرار شهرزاد، يمكن للصعري أن يحكي ألف طرفة وطرفة في ألف ليلة وليلة. طرائف ونكت ومستملحات عاشها وعايشها مع الفن وأهل الفن قريبا من الفن. ولو قلنا الكثير عن أحمد الصعري فإننا لم نقل شيئا، لأن الموضوع - حياة الصعري أقصد - طويل عله يدون مستقبلا في كتاب حين يتلقى الدفعة الأولى من الامتيازات التي سرقت منه. وفي الأخير نترك الحاج الصعري يقول» الحمد لله أنني لم أشارك في التفاهات و الخزعبلات التي يقدمها تلفزيون رمضان في هذا الزمن الردئ..».