طاهر بكري، شاعر تونسي مغترب في الديار الفرنسية منذ 1976، يكتب الشعر باللغتين الفرنسية والعربية. نال شهادة الدكتوراه برسالة خصصها للأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، وهو حاليا أستاذ جامعي بباريس. «أنا شاعر أقيم في منزل له نافذتان: واحدة تطل على العالم العربي، والثانية على الثقافة الفرنسية، لأكون جسر تواصل بينهما»، هذا ما يكرره طاهر بكري، وقد أجرى معه ملحق الكتب ليومية «لوموند (7 يونيو 2013) حوارا حول التعدد اللغوي في الأدب المغاربي، وحول المحظور والمتاح في إبداع شمال إفريقيا والتحولات التي يعيشها المشهد الثقافي بلدان المغرب العربي. وهو الحوار الذي نقترح ترجمته على القراء. حاورته: كاثرين سيمون تتم الكتابة ونشر الكتب في بلدان المغرب العربي (المغرب والجزائروتونس) باللغتين العربية والفرنسية. هل هي ثنائية لغوية أم صراع بين اللسانين؟ إنه مزيج من الوضعين. من أجل استيعاب الأمر، لا بد من التذكير ببعض المعطيات التاريخية. خلافا لدول أخرى من القارة الإفريقية، فاللغة العربية هي اللغة الرسمية في المغرب العربي، وليس الفرنسية. وبصفتها مكونا من مكونات الفتح الإسلامي في القرن السابع، فإن انتشار اللغة العربية لعب دورا توحيديا أساسيا في إفريقيا الشمالية. كان «معلمون» مكلفين بتدريس القرآن، ومن ثمة العربية، لمعتنقي الإسلام الجدد، الأهالي الذين هم بربر في أغلبيتهم. ولذا يتم الحديث عن «تعريب وأسلمة» المنطقة. وفدت اللغة الفرنسية إلى المنطقة لاحقا، في نهاية القرن التاسع عشر مع قدوم المستوطنين، وفرضت نفسها بطريقة خاصة في كل بلد من البلدان الثلاثة. بما أن المغرب وتونس كانا خاضعين لنظام الحماية، فإن اللغة العربية قمعت وانتقص من قيمتها فيهما أقل مما حدث في الجزائر التي ظلت مستعمرة أكثر من مائة سنة. في المغرب، استمر الوجود الفرنسي 44 سنة، وفي تونس 75 سنة، علما أنه وجود تميز بخصوصيات في كل واحد من البلدين. في تونس، وقبل قيام نظام الحماية سنة 1881، تم إقرار التعليم المزدوج عام 1875 إلى جانب تعليم جامعة الزيتونة الديني، علما أن هذه الأخيرة كانت تعتبر دعامة للهوية العربية-الإسلامية، مثلها مثل نظيرتها المغربية، جامعة القرويين بفاس. في ثلاثينيات القرن الماضي، ورغم تكوين بعض النخب الحضرية باللغة الفرنسية، فإن كبار الكتاب المغاربيين كانوا يكتبون بالعربية: القاص علي دواجي والشاعر أبو القاسم الشابي في تونس مثلا. في الخمسينيات فقط، ستبرز الأسماء الأدبية المغاربية الكبرى المبدعة باللغة الفرنسية: كاتب ياسين ومحمد ديب وأسيا جبار وألبير ميمي وإدريس الشرايبي... لكن الفرنسية والعربية ليستا اللغتين الوحيدتين في المغرب العربي، فثمة أيضا الأمازيغية التي هي خميرة أدب شفوي قوي. كما أن هناك الدارجة بالطبع، وقد أصبح الروائيون يوظفونها أكثر فأكثر. إذا كان هناك من توتر، فهو قائم بين اللغات التي يتكلم بها الناس والأخرى المكتوبة. لم يتم الاحتفاء بالشابي (1909- 1934) في مسقط رأسه تونس، إلا بعد نشر كتاباته في مصر سنة 1950، أي حوالي عشرين سنة بعد وفاته... أما كتاب الفرنسية، فعليهم، إلى حدود الآن، انتظار نشر كتبهم في فرنسا والاحتفاء بها هناك إذا أرادوا كسب الاعتراف في بلدانهم. كيف تفسر هذه التبعية المستمرة إزاء الخارج؟ منذ مدة طويلة، يعتبر النشر في الشرق الأوسط عربون اعتراف بالنسبة للكتاب المغاربيين باللغة العربية. وبسبب الإيمان بالقومية العربية وباسم وحدة العالم العربي، فإن بعض الكتاب يفضلون نشر أعمالهم في الشرق. كما أن بيروت تتوفر على قيمة إضافية تتمثل في كونها مدينة أكثر ليبرالية ودينامكية في مجال النشر، مما يجعل الجزائرية أحلام مستغانمي أو التونسي حبيب السلمي يصدران كتبهما بها. لكن هذا لا يلغي نشر نصوص مهمة في دول المغرب العربي. ويبرز مثال رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، التي اشتهرت أولا بفعل ترجمتها إلى اللغة الفرنسية، أن الأمر لا يتعلق بلغة الكتابة بقدر ما يتعلق بحرية النشر، ونفس الحكم ينطبق على اختيار النشر في فرنسا. إن الرقابة المسلطة على بوعلام صنصال، وقبله رشيد ميموني وغيره من الكتاب، ووجود كتاب في المنفى، والبحث عن صدى أوسع، وصعوبات النشر، وغياب التوزيع وتداول الكتب بين الدول المغاربية، عوامل تدفع جميعها إلى النشر في فرنسا، وهو واقع سيستمر طويلا في المستقبل. أما بالنسبة للأدب المكتوب باللغة العربية، فإن بروز القنوات الفضائية لدول الخليج، وخلق هذه الدول لجوائز أدبية تمنح مبالغ مالية جد كبيرة، قد خلخل المشهد اللغوي المغاربي. ويكمن الخطر، مرة أخرى، في أن تصبح اللغات رهائن ومواضيع لصراعات إيديولوجية وسياسية تلهب المشاعر المفرطة. خلال مدة طويلة من الزمن، ظلت الكتابة باللغة الفرنسية تسمح للكتاب المغاربيين بالتعبير عن أفكار أو مقاربة تيمات كان من شأنها أن تخلق فضائح لو كتبت باللغة العربية. هل «تقسيم العمل» هذا لا يزال قائما؟ قبل عشرين سنة فقط، كان تناول بعض المواضيع، ومنها على وجه الخصوص المتعلقة بالجنس، شبه مستحيل باللغة العربية، على الأقل بالنسبة لكاتب يعيش وينشر في المغرب العربي، مع بعض الاستثناءات التي تعد على أصابع اليد، ومنها رواية «الكرسي الهزاز» للتونسية أمال مختار التي صدرت سنة 2002 في تونس عن دار النشر الخاصة «سيراس»، علما أن هذه الرواية التي تتناول موضوع زنا المحارم تعرضت للمنع ولم تسمح الرقابة بتداولها إلا بعد سقوط نظام الرئيس بن علي في يناير 2011، وهذا ما يؤشر بجلاء على شجاعة الكاتبة والناشر... وبصفة عامة، فإن المرور عبر الخارج كان إجباريا. وفي المدة الأخيرة، وبفضل العولمة والإنترنيت، برز جيل جديد من الكتاب الجريئين، وكذلك مجرة جديدة من الناشرين باللغة العربية المستقرين في بيروت والقاهرة، أو في ميونيخ ولندن. لقد زعزعت الحدود، لكنه ربيع هش... لقد أدى تقدم الإسلاميين في المغرب العربي إلى أن المواضيع المحظورة لم تبق هي المواضيع المتعلقة بالجنس فحسب، بل كذلك، وبشكل أقوى من السابق، تلك المتعلقة بالإسلام، ما جعل، مثلا، مفهوم «المس بالمقدس» ينتشر في تونس حاليا مثل النار في الهشيم. ومع تسجيل الملاحظة السابقة، فإن عدد الكتب باللغة العربية المنشورة والمبيعة في تونس والمغرب أصبح حاليا يتجاوز عدد الصادرة بالفرنسية، علما أن الجزائر تظل تشكل استثناء في هذا المجال. كما أن عدد الكتاب باللغة العربية يفوق اليوم عددهم بالفرنسية. وأتمنى أن يمثل هذا ضمانا للدفاع عن حرية الإبداع ومستقبلها...