عملان، وحقبتان. عند تشبيهه ب»طوف الميدوز» لتيودور جيريكو، يكشف الحمار فوق زورق بعدسة باولا بيفي بعض ميزات عالم اليوم: خامل، متشظّ، وراضخ. عالم يكتفي عددٌ من الفنانين بعكسه دون إدخال مسافة نقديّة معه. مجموعة «ايكونوتكست»، فنانون متحدون إلى أين يتّجه الاقتصاد في حيّز من المضاربات المالية؟ وإلى أين تسير الديموقراطية في دولةٍ تتنازل عن سلطتها على الاقتصاد؟ وإلى أين يسير هذا الحمار الموضوع فوق زورق هائم وسط البحار؟ إنه سرّ. أقلّه بالنسبة للحمار الذي وضعته الفنّانة ذات الشهرة العالمية، باولا بيفي، عام 2003 فوق زورق وصوّرته وراحت منذ سنوات تعرضه علينا دون أن نعرف أين يوجد حالياً. لكن ما أهمية حمار تائه فيما الزمن الذي نعيشه يقدّم لنا مواضيع أخرى تلفت اهتمامنا؟ ربما من إمعان النظر فيه سيتحسّن بصرنا وتطلّعنا، إلى مسائل الاهتمام الأخرى. لذا، لنضع جنباً إلى جنب، صورة بيفي الفوتوغرافية ورسم مركبٍ آخر، هو «طوف الميدوز» للفنان تيودور جيريكو. يصعب التصديق أن يركب الحمار زورقاً وينشر القلوع. ولا شكّ أن بيفي وضعته فوق الزورق وأبعدته عن الشاطئ وراحت تصوّره، صور حقيقية (وليست مركّبة) تُظهر عناصر حقيقية. وفي المقابل، يُحيل «طوف الميدوز» (1818 - 1819) إلى حدثٍ حقيقيّ، وهو غرق فرقاطة «الميدوز» قبالة شواطئ موريتانيا الحالية، في يوليوز من العام 1816. وهو يرسم اللحظة التي تلمح فيها جماعة الناجين فوق طوف مركب «أرغوس» في البعيد. تنفيذاً لعمله، جمع جيريكو العديد من الوثائق، وقام بالكثير من الرسوم، وبنى نموذجاً مصغّراً للطوف. تحاول لوحته من خلال استعادة خيالية، تجسيد حدثٍ حقيقيّ بينما تشكل صورة بيفي الفوتوغرافية تسجيلاً أميناً لواقعٍ خياليّ حيث أن الطواف فوق الماء ليس من أفعال الحمير المعتادة. الحمار الطافي واقعيّ، لكنه محيّر. إلى ما يرمز إذاً تركيب الصورة هذا؟ الأفق فارغ لدى بيفي بينما نرى مركباً في البعيد لدى جيريكو. ركّاب الطوف بالرغم من خوفهم ناشطون يتحرّكون، ويرسلون الإشارات، وينظرون إلى البعيد. الحمار سلبيّ، ونظرته باردة. الغرقى الهائمون يتابعون طريقاً يمكن أن يجنّبهم الخطر، فشراعهم مرفوع. على العكس، الزورق والحمار من دون قبطان، من دون وجهة ولا توجيه، تتقاذفهم الأمواج ولا مقصد لهم. يمثّل المفهوم الغريب للحمار على الزورق عقليّة الترحال: غياب الوجهة والتوجيه في عالمٍ من دون مشروعٍ وغاية، حمار ملموس في عالم يفترض أنّه مجرّد، بُعد ولامبالاة يميّزان ربما حكمة أوليّة. لكن ألا ينطبق هذا الترحال على الاقتصاد والاجتماع والمشاعر والتشغيل والبضائع؟ يصار إلى تقشير القريدس النرويجي في المغرب وبيعها في ألمانيا، والمياه المعدنية الإيرلندية توزّع في شتوتغارت في ألمانيا وتوزّع المياه الايطالية في سيدني، أوستراليا. أزرار البيجامات التي تصنع وتباع في سويسرا تجري حياكتها في البرتغال. نعم، إلى أين يسير هذا الحمار؟ إلى أين يذهب مركز عملنا المختفي في الأفق الغامض لشبكات الهجرة الصناعية؟ لقد فهم الحمار: يعرف فوق زورقه التائه أنّه من الوهم التحكّم بمصيره، وأن لا هدف أمامه. العقلانيّة كذبة: فلنطفو، نطفو، ونواكب اللا استقرار، الآتي، الغامض. لكن رسالة الحمار لم تكتمل. فالعمل يجمع المشهدية (artefact) مع صورة أصيلة. إنها إحدى ميزات ما بعد الحداثة: تجميع لأفكار ونشاطات متناثرة، تلقائية، مجزّأة كي يتمّ إخفاء خلف مظهر لطيف متواضع مسار نظريّ يهاجم «الإيديولوجيات» باعتبارها شموليّة. يتخلّى الفن عن مشروع «التصوير العام. فنسبية العبارة هي في أوجها»، كما يلخّص المنظّر بول أردين. منذ مطلع الثمانينات، نجد في الغاليريهات أجزاء من أجسام (انسيلم ستادلر)، وأغراض منتشرة (مايك كيلي)، وذكريات متناثرة (آنيت ميساجيه)، ومجموعات وهمية، وتراكمات مرجعيّة (انسيلم كيفر)، ومقاطع من نصّ، وبقايا: يتأكد التفكيك مقابل البحث عن الوحدة، عن الكلّ، عن المجموع المتماسك، الذي لا يصوّر سوى أداة سيطرة لقمع تبعثر النزعات الفردية. ألا علاقة لذلك بالعقيدة الليبرالية، المعترضة على التوجيه والمركزيّة لصالح الكوكبة المجزأة والمبعثرة من المؤسسات الماليّة الخاصة (مصارف، وكلاء عقاريين، مستثمرين محترفين، مضاربين مطّلعين، شركات تأمين، ومضاربين في البورصة، إلخ)؟ تدخل التفككيّة إلى الاقتصاد والحيّز الاجتماعي كمبدأ رئيسي: كلّ شيء يجب أن يكون مؤقّتاً ومجزءاً. فليحيا عدم التصنيف والمتحرّك واللا مركزيّ. لا طبقات اجتماعية، بل كثرة وقبائل وتجمّعات غريبة. وجزءٌ من الفن المعاصر يعظّم هذا التوجه الفكري كمبدأ شكليّ. «انتهت الأصناف، انتهت الفوارق بين المركز والأطراف، بين الحلم والكابوس، بين الطبيعة الصامتة والمشهد. مشاهد ما بعد الحداثة، أنواع متداخلة، مركّبة، مناظر مهلوسة ..» هكذا، يضع كلود ليفيك دولابَي جرّار كبيرين في مكاتب أحد المصارف. وجودها يكفي: عبثاً التساؤل حول السبب. فالأشياء تقول حقيقتها بمجرّد حضورها، ونحن في مواجهة بداهتها: لا حاجة للنظريّة، للسببيّة أو للتعميم. على هذا المستوى، قاطرة، شجرة، فنجان، لكن أيضاً مفهوم أو رغبة ولما لا تسعيرة في البورصة، تعبّر عن حقيقتها بمجرّد وجودها أمامنا، ومن غير المجدي التساؤل حول ملاءمتها، المهمّ هو مثولها أمامنا. نجد هذا المبدأ الخاص بتركيبات ليفيك، «جيوب المشاعر» ، مطبّقاً على نظام التشريعات الماليّة، لاسيّما في عمليات البورصة المسماة «ذاتية التحقيق»: كلّما ارتفع سعر السهم كلما طُلب للشراء، وكلما طُلب للشراء كلما ارتفع سعره. نؤمن بحقيقة ونشرّعها رغم ولادتها من توقّعاتنا التي لا علاقة لها بالقيمة الاقتصادية الفعليّة لما هو مستهدف. بالطبع لم تنتظر البورصة كلود ليفيك لتطوير إمكاناتها. لكن الجهاز العقائدي للفنّ المعاصر يسهّل ويثمّن ويجمّل نظام التفكير هذا. وبالمناسبة يصبح من المضحك الإصغاء إلى البلاغيّة الغنائية، الشائعة دائماً، حول الإبداع والفنّ المحرر. لا يساعد الفنّ في التحرير فقط، بل قد يساهم في الانسلاخ. فالعمل ليس فقط تعبير هذا الفنان أو ذاك. فكلّ تعبير فنيّ يتبلور ضمن ظروفٍ تاريخية، يؤشّر إلى إطارٍ مفهوميّ، ويؤمّن تفاصيل الوصف، يقدّم التأكيدات ويصيغ المقترحات. هكذا يمكن لإطار ما بعد الحداثة اقتراح أعمالٍ تعبّر بدقة عن رؤية الفنّانين للعالم وعن خلفيّتهم النظرية. لكن هذه الرؤية للعالم هي صدى للنظام القائم. عن « لوموند ديبلوماتيك»