بعدما تتبعت عددا من التقييمات الإيجابية للمسار السياسي والحقوقي بالمغرب وتراكماته منذ التسعينات، مقارنة مع التطورات السياسية التي عرفتها باقي الدول المغاربية والمشرقية، تأكد اليوم أن بلادنا في حاجة ملحة إلى جرعات إضافية قوية في مجال دعم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. إن التطورات الأخيرة التي عرفتها قضيتنا الوطنية والأحداث المرتبطة بالمرحلة الفاصلة ما بين سحب المقترح الأمريكي الذي تضمن لأول مرة توسيع مهام المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء والمظاهرات الاستفزازية التي اندلعت مؤخرا في الأقاليم الجنوبية والمشوبة بالعنف والتخريب المقصود, الممارس من طرف رواد الانفصال المؤطرين سياسيا وماديا من طرف الدولة الجزائرية، أبانت بالملموس أن تحصين التجربة السياسية المغربية والتقدم بخطى ثابتة في مجال حقنا المشروع في استكمال وحدتنا الترابية يتطلبا تقوية الوعي الوطني في التعامل مع المتغيرات الجيوستراتيجية المحتملة إقليميا وجهويا ودوليا، وبالتالي الوعي بتطورات موازين القوى في العالم والاستفادة منها. وعلية، نود من خلال هذا المقال أن نفتح النقاش بشأن التعاطي الدولي مع مجموعة من القضايا في منطقتنا العربية والمغاربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وقضية وحدتنا الترابية، وقضية الشعب السوري الجريح ومعاناته. فإذا كانت المسألة الأمنية عند الغرب في الشرق الأوسط مرتبطة بأمن إسرائيل، فإنها على مستوى العالم المغاربي تبقى مرهونة إلى حد بعيد بتحقيق حل سياسي في الصحراء في إطار السيادة المغربية. نقول هذا لأن رهان تنمية المنطقة، وترحيل مفعولها جنوبا، ومحاربة الإرهاب والتضييق على هامش تحركات التيارات المتطرفة، يبقى إلى حد بعيد مرتبطا بتقوية التعاون والتنسيق بين دول المنطقة خصوصا بين المغرب والجزائر. والحالة هذه، فإن الإسهام في التأثير على الرهانات الجيوستراتيجية في هذا المجال يتطلب اليوم فتح النقاش بشأن التطورات المتعلقة بالقضايا السالفة الذكر وطرح مجموعة من الحقائق والفرضيات التي تجعلنا قريبين من منطق تطورات الأحداث. في الحقيقة، إن الصراع المفتعل في منطقتنا الجنوبية ما هو إلا نتيجة لصراع سياسي تأجج بين المغرب والجزائر منذ حرب الرمال سنة 1963. فما تقدمه المخابرات الجزائرية من دعم مالي ولوجيستيكي لجبهة البوليساريو، والذي يصلها عبر قنوات ترتدي عباءات حقوق الإنسان، تهدف من ورائه عرقلة المسار الديمقراطي بالمغرب من خلال محاولات متكررة لإثارة الفتنة بدوافع مصلحية انتهازية. فما تم نشره في الموقع العالمي ويكيليكس بشأن الوثيقة، بمثابة برقية دبلوماسية أرسلتها جهات جزائرية نافذة للجبهة، أكد أمرين أساسيين أولهما تأكيد الأطماع الجزائرية في الصحراء، وثانيهما إقرار كون أغلبية الصحراويين متشبثين بالحكم الذاتي ويرفضون نظام البوليساريو. كما أصبح متداولا على المستوى الإقليمي والدولي أن كل القضايا المطروحة بالمنطقة تحتاج اليوم الحسم سلميا في كل المعضلات والنزاعات المطروحة، وبالتالي تنمية قدرة دول المنطقة وشعوبها على التأثير في الحسابات الجيوستراتيجية الدولية. فالشرق الأوسط وشمال إفريقيا كانا دائما موضع اهتمام الدول العظمى في العالم وخاصة الغرب الأمريكي والأوروبي والصين وروسيا. فكل جهة تسعى إلى تحقيق نوع من التحكم في موازين القوى وتحويلها لصالحها. فالولايات المتحدةالأمريكية، بقدر ما تسعى إلى التأثير في التطورات السياسية في المنطقة، فهي تركز كذلك على احتواء الصين من خلال التوجه بكل الإمكانيات إلى حظيرة المحيط الهادي وما تعرفه من بؤر التوتر مع كوريا الشمالية ومع اليابان، وفي نفس الوقت تعمل كل ما بوسعها لتحقيق التقارب ما بين تركيا وإسرائيل والتأثير على تطور الأحداث مشرقيا. إن التطورات الأخيرة التي ميزت العلاقات الدولية أبانت بالواضح إمكانية ميول القوى العظمى في العالم إلى التفاوض بأبعاد جيوستراتيجية جديدة، وأبانت كذلك أن الرهانات الجيوستراتيجية زمن العولمة أصبحت شديدة التحول. كما لا يمكن استبعاد خضوع سحب المقترح الأمريكي بشأن وحدتنا الترابية بدوره لحسابات جيوستراتيجية تتعلق بالأمن في جنوب الصحراء وفي الساحل وفي الواجهة الأطلسية. وعليه، وأمام تضارب الحسابات الجيوستراتيجية وتطورها إقليميا، ارتأينا تخصيص ما تبقى من هذا المقال لطرح مجموعة من الفرضيات بشأن المواقف المختلفة من القضايا الأساسية في المشرق والمغرب. الفرضية الأولى: الإعلان الأخير لجون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، ونظيره الروسي سيرغي لافروف، والذي جاء بعد مفاوضات ماراطونية طويلة، أبان تقاربا في المواقف بشأن القضية السورية. لقد تم الاتفاق على الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي حول الأزمة السورية تشارك فيه وفود من النظام ومن المعارضة من أجل التوصل إلى حل سياسي يرتكز على بيان جنيف. إنه تحول بارز في الموقف الأمريكي أعطى الانطباع وكأن الإدارة الأمريكية تنازلت على خطوطها الحمراء وتبنت صيغة الحل السياسي، وإبعاد خيار تسليح المعارضة بأسلحة حديثة متقدمة وتسريع الإطاحة بالنظام القائم. كما أبانت التطورات الأخيرة وكأن النظام السوري في تقدم ملموس ميدانيا، الشيء الذي عجل بجلوس أمريكا وروسيا على طاولة المفاوضات مجددا، وبروز إمكانية الوصول إلى تشكيل حكومة انتقالية مكونة من خليط من رجال النظام والمعارضة كحل يخدم مصالح القوتين الدوليتين. إن عودة الإدارة الأمريكية إلى «بيان جنيف»، كقاعدة لتسوية الأزمة السورية تم الإعلان عليها وكأنها نتيجة للتأكد الأمريكي من إرهاق النظام السوري وإضعاف قدراته إلى مستوى الاطمئنان على أمن دولة إسرائيل. إنه قرار يفترض (بضم الياء) أنه بني على اعتبار سوريا اليوم دولة ممزقة علاقاتها العربية متوترة يشوبها العداء والضغينة. الفرضية الثانية: إن العودة الأمريكية إلى التفاوض بشأن التسوية السياسية هي قبول بالسيناريو الأقل ضررا والمفروض بحكم الواقع. إنها وصفة جديدة بشعار ديمقراطي (الاعتماد على صناديق الاقتراع في بناء نظام جديد في سوريا) حلت محل سيناريو إسقاط نظام الأسد. إنها عودة اعتبرها المتتبعون مفاجئة جاءت بعدما قطعت أمريكا أشواطا بعيدة في تقديم الدعم اللوجستي والاستخباري للمعارضات الداخلية والخارجية مستبعدة الحل العسكري لأنها جربت ويلاته في كل من أفغانستان والعراق. فالقبول بالعودة إلى التسوية السياسية على أساسيات جنيف يفترض أنه جاء نتيجة ملامسة نوع من التفوق العسكري للنظام السوري المدعوم بشكل مباشر من طرف روسيا والصين وإيران وحزب الله ومن طرف التيارات الشيعية العراقية، والخوف من تقدمه في إحراز المزيد من الانتصار ميدانيا وشق طريق حسم المعركة لصالحه. إنه في العمق خوف من تعزيز موقف المحور الروسي-الصيني إقليميا ودوليا. كما يمكن افتراض كون السياسات التي اعتمدتها المعارضة السورية، وخاصة التنظيمين الرئيسيين «المجلس الوطني السوري» و»ائتلاف قوى الثورة والمعارضة» لم تفض إلى إقامة بيئة سياسية ونضالية في مستوى رهانات المرحلة. كما يمكن افتراض، أن إقرار اللجوء إلى حل سياسي جاء بعدما راهنت المعارضة على العنف وعلى تقليدية المجتمع الأهلي ونزعاته الطائفية والمذهبية عوض التشبث بالنضال المدني السلمي. الفرضية الثالثة: قبول العودة إلى التفاوض من أجل حل سياسي لا يعني إيقاف ضغوط أمريكا على النظام السوري، بل من المفترض أن يزداد مستقبلا لإضعاف موقع النظام في التفاوض. فسيناريو التلويح بالعودة إلى تسليح المعارضة، وتحريك ملف استخدام الأسلحة الكيماوية وقتل المدنيين الأبرياء... لا يمكن الجزم بإبعاده، بل يبقى سيناريو جد محتمل وخاضع لتفاعل موازين القوى. الفرضية الرابعة: التحول في الموقف الأمريكي شمل حتى منطق التعامل مع جل دول المنطقة. فالضربة الإسرائيلية لسوريا، والعملية الإرهابية وملف الأكراد في تركيا وانزلاق هذه الأخيرة في المستنقع السوري بشكل غير محسوب، وتعرض أردوغان لانتقادات كبيرة حملته مسؤولية التفجيرات ودعمه للمعارضة السورية المسلحة، وانتقال النظام السوري من منطق الدفاع إلى الهجوم وتحقيق تقدم ملموس في بعض جبهات القتال، وإحياء الملف النووي المصري في عهد الرئيس مرسي وانتقاده من طرف أمريكا، وتداعيات الحملة الإعلامية الشرسة التي شنتها أمريكا سنة 2012 على بوتين وحزبه (التشكيك في انتخابات الدوما والانتخابات الرئاسية) والطمع في تحقيق ربيع روسي، وقرار القمة العربية لتبادل الأراضي ما بين الضفة الغربية والقدس والدولة الإسرائيلية والتعهد رسميا بالاعتراف بهذه الأخيرة إذا ما انسحبت من الأراضي المحتلة في حرب يونيو 1967، وحدث المعاقبة الأمريكية لثمان عشرة موظفا روسيا واضطرار بوتين على الرد بالمثل، ارتفاع عدد القتلى في سوريا الذي تجاوز تسعين ألف شخص وعدد اللاجئين الذي تجاوز مليون ونصف لاجئ، وتعزيز قوة المليشيات الإسلامية والمخاطر المرتبطة بها (جبهة النصرة المتفرعة على القاعدة كنموذج)، والاستعمال الأخير لحق الفيتو الصيني الروسي في القضية السورية،...كلها اعتبارات حاضرة اليوم في الحسابات الجيوستراتيجية الدولية... حسابات تقابل حصيلة العلاقات الروسية-الصينية وتأثيراتها الدولية ومآل التقارب الأمريكي-الروسي. خلاصة مهما تعددت الحسابات الجيوستراتيجية للعالم الغربي بشقيه الأمريكي والأوروبي، فإن القيم والمبادئ المؤسسة للثورة الأمريكية والنهضة الأوروبية كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان (القضايا الإنسانية العادلة) لا زالت تحتل مكانة أساسية في سياسة الغرب عموما وعلاقاتها الخارجية. وعليه، فإن التطورات العالمية منذ التسعينات وما عرفه مسلسل العولمة من تحولات جعلت من الديمقراطية والحرية أساس استمرار الأنظمة السياسية ورقيها. كما أن عدم استيعاب الأنظمة في المشرق العربي وفي تونس, هذه الرهانات جعلها تسقط ضحية تعنتها. فالتحديات المطروحة على الدول زمن الانفتاح السياسي والاقتصادي تتجلى بالأساس في التقدم في تحقيق المكتسبات والتراكمات في مجالي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. إن المغرب، كأبرز الدول التي تقدمت نسبيا في التكيف مع التحولات الدولية منذ الاستقلال في مجال الديمقراطية والحرية، تحول على مستوى الخطاب دوليا إلى حالة استثنائية. فبفضل التاريخ النضالي لقواه السياسية وتفاعلها مع النظام الملكي، تمكن المغرب من القدرة على استباق الأحداث والتهديدات المحتملة. ففي إطار استمرارية النضال الديمقراطي، توج ظهور الربيع العربي مشرقيا وحركة 20 فبراير بالمغرب، بخطاب ملكي أعطى الانطلاقة لمرحلة سياسية جديدة بدستور جديد، وحكومة منبثقة عن انتخابات برلمانية اعتبرها المتتبعون نزيهة وشفافة. وأمام تطور التحولات الدولية، المطلوب اليوم بالنسبة للمغرب، من أجل تقوية مناعته السياسية وطنيا وإقليميا ودوليا، الانكباب باستعجال على استكمال مفعول الدستور وتأويل بنوده ديمقراطيا وحداثيا، بدءا من تحديد اختصاصات الحكومة، وإصلاح القضاء، وتفعيل الجهوية الموسعة. إنه السبيل الوحيد الذي سيمكن المغرب من تحقيق الاندماج المرغوب فيه في المنظومة الدولية، وتحقيق المزيد من الدعم الدولي لقضيته الوطنية، وفي مجال التنمية الترابية الديمقراطية. فالاعتبار الكبير الذي توليه مؤسسات الاتحاد الأوروبي للمغرب يحتاج إلى مبادرات سياسية جديدة تجسد الحرص الوطني على تحصين المكتسبات وتحقيق المزيد من التراكمات. إضافة إلى ذلك، إن التوظيف الدولي لمسألة حقوق الإنسان وربطه بأبعاد جيوستراتيجبية سريعة التقلب، يتطلب اليوم تحويل العمل الحكومي والبرلماني بالمغرب إلى «جسر» سميك يمكن البلاد من العبور إلى ضفة الدول الديمقراطية من خلال تسريع وثيرة إصدار القوانين والمراسيم المترجمة ميدانيا لدسترة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.