إن الأحداث التي عرفتها المرحلة الفاصلة ما بين سحب المقترح الأمريكي الذي تضمن لأول مرة توسيع مهام المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء والمظاهرات الاستفزازية التي اندلعت مؤخرا في الأقاليم الجنوبية والمشوبة بالعنف والتخريب المقصود الممارس من طرف المغاربة الصحراويين المغرر بهم الموالين لأطروحة مشروع الانفصال الذي تؤطره سياسيا وماديا الدولة الجزائرية، أبانت بالواضح أن جبهة البوليساريو ما هي إلا واجهة لا يمكن أن تتحرك إلا بأوامر المخابرات الجزائرية. كما أبانت أن هذا الصراع المفتعل، والذي بدأ باحتضان الجزائر للجبهة منذ تأسيسها، هو صراع بشعارات سياسية وحقوقية كاذبة لأن حقيقته في العمق وراءها أطماع النظام العسكري الجزائري. وعليه، وأنا أستحضر التطورات التي عرفتها قضيتنا الوطنية هذه المرة، والتي عاكست مسار مجريات التاريخ السياسي العالمي بأبعاده الاقتصادية والثقافية، وأنا أحاول التفكير في هذه القضية المصيرية مستحضرا الأجندات السياسية الممكنة وطنيا ودوليا وإقليميا وجدت نفسي في وضعية قلق وتوتر، الشيء الذي دفعتني إلى كتابة هذا المقال لأقدم وجهة نظري في مجموعة من النقط التي أعتبرها أساسية: أولا، لا بد من التذكير أن الشعب المغربي عندما يتشبث بمغربية صحرائه فهو يتشبث بتاريخه وحضارته. وهذا المعطى الراسخ الذي لا يمكن تجاهله هو الذي كان وراء إصدار الحكم القضائي للمحكمة الدولية الذي أقر لشعوب العالم أن الصحراء مغربية بامتياز بحكم التاريخ، الشيء الذي جعل من حدث المسيرة الخضراء حدثا بارزا في سجل المسيرات السلمية المعروفة وعلى رأسها مسيرة الملح الهندية التي قادها غاندي. ثانيا، إن الهدف الحقيقي للدعم المالي واللوجيستيكي الذي تقدمه المخابرات الجزائرية لجبهة البوليساريو، والذي يصلها عبر قنوات ترتدي عباءات حقوق الإنسان، هو إثارة الفتنة بتواطؤ مع بعض الجهات الأجنبية بدوافع جيوستراتيجية. فما تم نشره في الموقع العالمي ويكيليكس بشأن الوثيقة، بمثابة برقية دبلوماسية أرسلتها جهات جزائرية نافذة للجبهة، أكد أمرين أساسيين أولهما تأكيد الأطماع الجزائرية في الصحراء، وثانيهما إقرار كون أغلبية الصحراويين متشبثون بالحكم الذاتي ويرفضون نظام البوليساريو الكوبي. لقد تأكد من خلال هذه الوثيقة أن الجزائر لا تدخر جهدا من أجل جعل إعلانها العداء المباشر للمغرب والسعي إلى زعزعة استقراره إستراتيجية تمويهية لإبعاد الشعب الجزائري عن التفكير في النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وفي الرمزية السياسية «لليد المغربية الممدودة» لتقوية الاتحاد المغرب المغربي كأساس لتحقيق رفاهية شعوب دول شمال إفريقيا. ثالثا، إن الأسس الدامغة التي اعتمدها المغرب في الدفاع عن وحدته الترابية والتشبث باستكمالها رسميا مهما كان الثمن هي التي كانت وراء التراكمات الإيجابية التي حققها أمميا. لقد تمكن من كسب دعم عدد كبير من دول العالم لمشروع الحكم الذاتي الذي اقترح في العشرية الأولى من العهد الجديد، ومن إقناع دول أخرى من أجل سحب الاعتراف بالجمهورية الصحراوية الوهمية. رابعا، إن القضية الوطنية ليست قضية منعزلة عن تطورات موازين القوى في العالم وعن الرهانات الجيوستراتيجية. فالشرق الأوسط وشمال إفريقيا كانا دائما موضع اهتمام الدول العظمى في العالم. فالولايات المتحدة بقدر ما تسعى إلى التأثير في التطورات السياسية في المنطقة بقدر ما تركز مجهوداتها من أجل احتواء الصين من خلال التوجه بكل الإمكانيات إلى حظيرة المحيط الهادي وما تعرفه من بؤر التوتر مع كوريا الشمالية ومع اليابان، وفي نفس الوقت تعمل كل ما بوسعها لتحقيق التقارب ما بين تركيا وإسرائيل والتأثير على تطور الأحداث مشرقيا. خامسا، إن التطورات الأخيرة التي ميزت العلاقات الدولية أبانت بالواضح إمكانية ميول القوى العظمى في العالم إلى التفاوض بأبعاد جيوستراتيجية جديدة، وأبانت كذلك أن الرهانات الجيوستراتيجية زمن العولمة أصبحت شديدة التحول. فالإعلان الأخير لجون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، ونظيره الروسي سيرغي لافروف، والذي جاء بعد مفاوضات ماراثونية طويلة، أبان تقاربا في المواقف بشأن القضية السورية. لقد تم الاتفاق على الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي حول الأزمة السورية تشارك فيه وفود من النظام ومن المعارضة من أجل التوصل إلى حل سياسي يرتكز على بيان جونيف. فتنازل الإدارة الأمريكية على خطوطها الحمراء وتبنيها صيغة الحل السياسي، يوضح بجلاء أن هذا التحول وراءه اعتبارات جديدة. لم يعد مطروحا على الأجندة الدولية خيار تسليح المعارضة بأسلحة حديثة متقدمة وتسريع الإطاحة بالنظام القائم. التفاوض اليوم أبان عن إمكانية الوصول إلى تشكيل حكومة انتقالية مكونة من خليط من رجال النظام والمعارضة. وفي نفس السياق، تتبعنا مشرقيا قبل ذلك كيف تغير الموقف الأمريكي إزاء الرئيس مرسي على إثر التوجه المصري المتزايد نحو إحياء البرنامج النووي بشراكة روسية لاستخدامات سلمية، معتبرة بلا شك أن هذا الإحياء يمكنه أن يغير من موازين القوى في المنطقة برمتها. سادسا، هناك تحول واضح في المواقف في شأن القضية الفلسطينية. فقرار القمة العربية لتبادل الأراضي ما بين الضفة الغربية والقدس والدولة الإسرائيلية والتعهد رسميا بالاعتراف بهذه الأخيرة إذا ما انسحبت من الأراضي المحتلة في حرب يونيو 1967، ينم كذلك بوجود اعتبارات جيوستراتيجية جديدة. سابعا، موضوعيا، إضافة إلى الثوابت التاريخية لمغربية الصحراء والتراكمات الأممية الإيجابية في شأنها، فإن التطورات التي عرفها العالم بعد سقوط حائط برلين، وما فرضته من إكراهات جديدة تستلزم تأسيس التكتلات الاقتصادية الإقليمية والجهوية، أضعف الشرعية السياسية للمشروع الانفصالي. ثامنا، قضية الوحدة الترابية لم تكن يوما ولن تكون خاضعة لحسابات حزبية ضيقة. فالوطن فوق الجميع والتضحية من أجله واجب شعبي. وهنا، لا بد من التذكير بموقف القيادة الاتحادية من الاستفتاء التأكيدي. إنه موقف واضح ضد منطق حرب العصابات الذي ابتدعته البوليساريو مباشرة بعد تأسيسها. فعبد الرحيم بوعبيد رحمه الله، في جوابه عن بعض الاستفسارات آنذاك، قال «إلا الأرض». وأضاف ما مفاده أن الأرض إذا ضاعت لا يمكن تعويضها، وأن المعركة من أجل الديمقراطية والحرية هي موقف نضالي قار ودائم وبعيد المدى، ولا يمكن أن تختلط علينا الأوراق عندما نكون أمام حق الشعب المغربي في استكمال وحدته الترابية. تاسعا، إن التطورات العالمية منذ التسعينات وما عرفه مسلسل العولمة من تحولات جعل من الديمقراطية والحرية أساس استمرار الأنظمة السياسية. كما أن عدم استيعاب الأنظمة في المشرق العربي وفي تونس خطورة هذه الرهانات جعلها تسقط ضحية تعنتها. فالتحديات المطروحة على الدول زمن الانفتاح السياسي والاقتصادي تتجلى بالأساس في التقدم في تحقيق المكتسبات والتراكمات في مجالي الديمقراطية وحقوق الإنسان. عاشرا، إن الاستثناء المغربي ليس شعارا ذا طبيعة «إشهارية»، بل هو قيمة تاريخية حقيقية، قيمة لعبت فيها القوى السياسية الوطنية دورا رياديا من أجل بنائها، وتمكين الدولة المغربية من القدرة على استباق الأحداث والتهديدات المحتملة. فرفع مذكرة الإصلاحات الدستورية من طرف الاتحاد الاشتراكي بمفرده سنة 2009، تلاه ظهور الربيع العربي مشرقيا وحركة 20 فبراير بالمغرب، ثم جاء على إثر ذلك الخطاب الملكي التاريخي الذي أعطى الانطلاقة لمرحلة سياسية جديدة بدستور جديد، وحكومة منبثقة عن انتخابات برلمانية نزيهة وشفافة نسبيا. وهنا أكاد أجزم، لو تحملت الحكومة الحالية مسؤوليتها السياسية في تفعيل الدستور بالوثيرة المطلوبة، وعلى رأسها كأولوية تفعيل القوانين المتعلقة باختصاصاتها، وإصلاح القضاء، والجهوية الموسعة، لتمكن المغرب من التقدم بخطى جد ملموسة في مجال حقوق الإنسان بشقيها السياسي والاقتصادي، ولكسب المزيد من الدعم الدولي في قضيته الوطنية، وفي مجال التنمية الترابية والديمقراطية. فالاعتبار الكبير الذي توليه مؤسسات الاتحاد الأوروبي للمغرب كان يجب أن يقابله أداء حكومي في مستوى انتظارات الشعب المغربي ومختلف المؤسسات والمنظمات الدولية. فالاتحاد الأوروبي، في تتبعه للشأن المغربي، أصر غير ما مرة على الإسراع بالإصلاحات الدستورية، وحماية حقوق الإنسان، وإعادة هيكلة القضاء. فأمام هذا الحرص، كان على الحكومة أن تعد العدة للتقدم في تحقيق المكاسب مستحضرة في ذلك كون المغرب له حلفاء كثر وله كذلك خصوم وأعداء داخل كل زوايا القرار داخل المجلس الأوربي والبرلمان والمفوضية الأوربية، خصوم لا يمكن التأثير عليهم وتغيير مواقفهم إلا بالتقدم الملموس في مجالي الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الترابية. خاتمة إذا كانت الجزائر تتباهى بثرواتها النفطية والغازية وأرصدتها الضخمة في البنوك الأوروبية (تفوق 2000 مليار دولار)، وتستغل كل هذه الإمكانيات ضد مصالح المغرب المشروعة بالضغط على الغرب الأوروبي، فإن الشرعية السياسية للمغرب مرتبطة بتاريخه السياسي وتراكماته في مجالي الديمقراطية والحرية. وهذا الامتياز المغربي المعروف هو الذي جعل الرئيس الأمريكي باراك أوباما يقر في المكالمة الهاتفية الأخيرة مع جلالة الملك أن المغرب يعتبر نموذجا بالنسبة للمنطقة برمتها. وهنا كذلك، لو عبرت حكومة ما بعد الدستور الجديد في ممارساتها على كفايات سياسية واضحة لتحاشينا حدث طرح مسألة توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل حقوق الإنسان في الصحراء. فالحكومة في الدستور الجديد لها ما يلزم من السلط لتوسيع المجال الديمقراطي والحقوقي والسير بالمجال التنموي إلى الأمام. وعليه، فمسؤولية الحكومة في تعثر مسار تنمية الديمقراطية وحقوق الإنسان ببلادنا ثابتة. فعوض أن تنكب على القضايا المصيرية للشعب المغربي، تتبع الجميع كيف تعمدت إشغال الرأي العام بقضايا لا علاقة لها بمستقبلهم ومستقبل بلادهم. لقد أعطت الانطباع وكأن الحزب الأغلبي في صراع ديني دائم من أجل حماية الإسلام والدفاع عنه، متعمدة تعميق الخلط بين الحقل السياسي والحقل الديني. إنها حكومة بالغت في كل شيء، بالغت في استغلال الدين، وفي الزيادات في الأسعار، وفي تجميد الأجور، وفي التعسف على المأجورين، وفي اللجوء إلى تشكيل اللجن الوطنية،...إلخ. وفي الأخير نقول أن التوظيف الدولي لمسألة حقوق الإنسان وربطه بأبعاد جيوستراتيجية سريعة التقلب، يتطلب اليوم تحويل العمل الحكومي والبرلماني بالمغرب إلى «جسر» سميك يمكن البلاد من العبور إلى ضفة الدول الديمقراطية من خلال تسريع وثيرة إصدار القوانين والمراسيم المترجمة ديمقراطيا لدسترة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. كما لا يمكن أن نختم هذا المقال بدون التنويه بالعمل الذي قامت به شبيبة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في لقاء «اليوزي» الدولي الأخير. لقد اقتنع شباب العالم بموقف الشبيبة الاتحادية حيث دعا البيان الختامي إلى حل سياسي سلمي وعادل ودائم لقضية الصحراء المغربية.