محمد الطالبي واحد من أبرز المفكرين التونسيين. أسْتاذ جامعي وعالم إسلامي ولد في تونس العاصمة سنة 1921. درس بالمدرسة الصادقية ثم بجامعة السوربون بباريس حيث حصل على شهادة الدكتوراه، وهو أوّل عميد لكلية الآداب في جامعة تونس في عام 1955، وقد التحق بالجامعة التونسية حيث درّس التاريخ الإسلامي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس، قبل أن يشغل منصب عميد لنفس الكلية في عام السبعينات. وتولى في الثمانينات رئاسة اللجنة الثقافية الوطنية. وانضم إلى المجلس الوطني للحريات في تونس (المنظمات غير الحكومية غير المعترف بها من قبل الحكومة) في عام 1995. في هذه الدراسة، التي ساهم بها المؤرخ وعالم الإسلاميات محمد الطالبي ضمن أشغال الندوة الدولية حول «حرية المعتقد بالمغرب»، مارس 2012، التي نظّمتها «مجموعة الديمقراطية والحداثة»، يدافع الطالبي عن دولة عصرية تؤمن بحرية المعتقد من خلال القناعات الفردية والجماعية للمواطنين، وليس عن طريق القهر والفرض. كما يميّز يدحض الفكرة القائمة على أنّ الدين تسامح، معوّضا إيّاه بمفهوم الواجب والحقّ. «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (سورة يونس، الآية 99). كثيرا ما نردّد عبارات: «الحرّيّة الدّينية»، «حرّية الإنسان»، فما السبب الذي يجعل للإنسان هذا الحقّ أو هذه الحقوق؟ وبأيّ حقّ يتعلق الأمْر؟ ولماذا لا نتحدث قبل ذلك بالأحرى عن حقوق الشعوب؟ ثم ألا نقوم، ونحن نتحدث عن باسم الشعوب بالحدّ من حقوق الإنسان إلى درجة إلغائها؟ أولئك الذين كانوا يبرّرون، وما يزالون، حكم الإعدام بدعوى الردّة، باعتبارها خيانة كبرى للأمة، ألا يقومون بذلك عموما باسم حقوق الشعوب في الحفاظ على مكتسباتها وتماسك بنيانها؟ تماما مثلما كان البعض يبرر الكولاكْ أو حماية الأطفال، من خلال بيداغوجية ملائمة، نابعة من التطيّر الديني. إن النقاش في هذا الأمر ليْس ضربا من الخيال. خلال الدورة 23 للمؤتمر العام لليونسكو، المنعقد بصوفيا ( 8 أكتوبر-12 نونبر 1985) نشب صراع قويّ بين الأنْصار المدافعين عنْ مفْهوم «حقوق الشعوب» وبين خصومهم. ومن ثمّ، فإنّ إيديولوجية تدفع أخرى، وما فتئت الصراعات والنزاعات حول الحريّة متواصلة. والحالُ أنه لا يمكنُ تصفية وتطهير العلاقات بين الناس، وبخاصة بين الورثة (اليهود والمسيحيّون والمسْلمون المنتسبون إلى إبراهيم) ما دامَ مشكل الحرية الدينية لم يعرف مخرجا وحلاّ يفضي إلى القناعة والانسجام الداخلي والحميميّ لكل مؤمن على حدة. ومن أجل تحقيق هذا، يتعيّن على كلّ مؤْمن أن يتجاوز في المقام الأوّل مخاوف النسبية والتفاهم التوافقي، ومنْ ثمّ الذهاب أبعد من التسامح الذي يمليه العجْز؟ هلْ تعتبر الحرّية الدّينية نسْبية؟ وهلْ تعني أنّ كل شيء يساوي كل شيء؟ هلْ معنى ذلك أن كل شيء نسبيّ؟ هل معناه أنه ينبغي قبول كل شيء على الصعيد الديني؟ إذا كان الأمْر كذلك، فإنّ كل واحد منا يمكنه اعتناق عقيدة معيّنة لا تلزمه في شيْء. يتعلق الأمر عمليّا بإفلاس مفهوم العقيدة نفسه. ذلك أنّ النسبية في مجال العقيدة معناه بكل بساطة اللاّ-عقيدة العقيدة لا يمكنها اقتسام نفس فراش السفسطة. إنّ الحرّية الدّينية ليستْ أبَدًا قَبولا أعمى أو لبقا ولطيفا لكلّ أطروحة ونقيضها. الحرّية الدينية ليست استقالة أمام الحقيقة، كما أنها ليستْ نسبية. فلا يمكن لأيّ مؤمن وفيّ ومخلص إذن أن يستسلم أمام إغراءات النسبية المسكّنة، لكنْ المخرّبة والمهدّمة، باعتبارها أساسا للحرية الدينية. هل الحرية الدينية عبارة عن توافق وتفاهم يصل إلى حدّ التلفيق، وخصوصا في أفق حوار الأديان؟ كلاّ! لأنه لا شيء أكثر تخْريبا بالنسبة لحقائق العقيدة والإيمان من النزعة التوفيقية المُضنية، ومن الخليط المتنافر للمعطيات المتباعدة والمتناقضة أحيانا. بحيث أن الأمر يصل إلى حدّ الجمع في سلّة واحدة، وعلى صعيد الممارسة، بين هرطقات جديدة تُضاف إلى الهرطقات القديمة، أما على صعيد التماسك المنطقي، فإنه يفضي إلى تقويض الفكر وإذابته داخل التوافقات. وهو ما يتعارض مع الالتزام العقائدي الذي يفترض بحثا صارما ضروريا للتوافق مع الحقيقة. ولا يمكن لأيّ مؤمن متديّن مستنير إلاّ أنْ يرتاب ويحتاط. وهذا هو الميدان الذي ينبغي أن نتناول داخله مسألة الحرية الدينية أو حرّية التّديّن. إنّ الحلّ العميق لمشكل الحرية الدينية ليس ذا طبيعة قانونية، بقدر ما يوجد في مستوى القناعات الفردية والجماعية للمواطنين، هذا هو المستوى الذي ينبغي أنْ نتدخّل فيه. وعليه، فهل الحرية الدينية هي، في نهاية المطاف، تسامح وتنازل وتكرّم؟ صحيح أنّ التسامح يمنح الإنسان المؤمن مزيدا من التماسك والصلابة المنطقية. من البَدهي أن نقول إن الإسلام دين متسامح. لقد قيل هذا الكلام وأعيد مرارا وتكرارا. إنّ التسامح، باعتباره حلاّ وأساسا من أسس الحرية الدينية، أعتبرها في المتناول ورهْن الإشارة في تراثي الدينيّ. فهلْ سأكتفي بما هو موجود في هذا التراث؟ هل سأقف عند هذا الحدّ؟ من المعروف أنّ التسامح مطبوع بطابع عقلية العصور الوسطى وفلسفتها. فقد ظهر هذا المصطلح في أوربا خلال القرون الوسطى، في مرحلة تميزت بالصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية، التي كان يطبع مواقفها التعصب والتطرف، في مواجهة الآراء والمواقف التي كانت تشكّك في سلطتها، وتنادي بحرية الاعتقاد، وإزالة الوساطة بين الله والإنسان (صكوك الغفران)، والحد من الهيمنة الدينية والسياسية للكنيسة، والتسامح مع الذين يختلفون معها، وعدم حرمانهم من حرية التعبير عن اجتهاداتهم وقناعاتهم المغايرة، وممارستهم للشعائر الدينية على النحو الذي يعتقدون أنه هو الصواب، وبالتالي فقد جاء مفهوم التسامح كتعبير عن الحاجة للاعتراف بالحق في الاختلاف، وإن كان دعاة التسامح أنفسهم لا يعتبرون هذا الحق مطلقا، وإنما يبقى محددا في نطاق المذهب السائد وفي الإطار الذي لا يضر بمصلحة الدولة التي ينتمون إليها، ويرتضون العيش في ظل نهجها، ويحرصون على تقويتها. يعرّف قاموس «روبير» التسامح بالعبارات التالية: «التسامح هو أنْ لا تمنع أو تفرض شيئا في الوقت الذي يكون بإمكانك فعل ذلك». وبناء على هذا، فإنّ التسامح، إذن، ليس حقّا. التسامح ليس حقا للحرية الدينية. التسامح فعل ينبع من موقع التفوّق والهيمنة والسيادة. فهو ضمنيا ازدراء وتصغير واتهام. ذلك أننا نسامح الخطأ، هذا في الوقت الذي يكون عندنا الحقّ في منعه باسم الحقيقة. تبدو مسامحة الخطأ كشرّ لا يمكن استئصاله إلاّ باسم شرّ أكبر منه. كلمة «التسامح» تعني السخاء من موقف استعلاء لا يلزم صاحبه، وإنما هو مجرد تكرّم من طرفه حيث يوجد المتسامح في مستوى أعلى والمتسامح معه في مستوى أسفل. إن كلمة تسامح لا تعبّر أبدا عن الاحترام الذي يجب أن يشمل الآراء التي لا تتفق معه، ذلك لأننا نتسامح مع ما لا نقدر على منعه والذي يتسامح ما دام ضعيفا يحتمل جدا أن ينقلب إلى لا متسامح عندما يزداد قوة. فين حين أنّ الاحترام فهو، خلافا لذلك، حقّ. الاحترام يفترض المساواة الكاملة والمطلقة للشركاء. الاحترام وحده يضمن كرامة الجميع. في الاحترام، ليس ثمّة لا أدنى ولا أعلى. بينما في التسامح، ثمّة من يسامح، ويوجد في مرتبة أعلى، ومن يسامَح، ويوجد في مرتبة أدنى. هذا التفاوت لا وجود له في الاحترام. بناء على هذا، يمكنني، دون التفريط في ذرّة من التزامي العقائدي، أي من اختياراتي وقناعاتي، التوجّه نحو الآخر، باختياراته وقناعاته، وبالتالي إقامة علاقاتي معه على أساس مساواة كاملة. إنّ حريته هي حريتي، والعكس صحيح. الاحترام يجد أسسه في الطبيعة الإنسانية. كل الناس متساوون، وكلّ الناس أيضا معرّضون للخطأ. يترتّب على هذا أن كلّ إنسان هو «أنا» فريدة، وحيدة، تتوفر بطبيعتها على القدرة، وعلى الحقّ في الاختيار، واحتمالا في الخطأ، بكلّ حرية. بإمكانه، وينبغي له، أن يتحمل مصيره: القرآن إنّ حرية الاختيار، بعبارة أخرى، وباللغة الإسلامية، تنخرط في إطار «فطرة» الإنسان. يشير فعل «فَطَرَ»، الذي تنحدر منه لفظة «الفطرة»، إلى فكرة القطيعة والتمزّق والانشقاق والكسر الحادّ. وفي القرآن، يرتبطُ هذا الفعل le verbe بفعل l?acteالخالق الذي فَطَر، الذي أعطى معنى الخلق. وفي هذا السياق، فإنّ «الفطرة» ليستْ سوى الطبيعة الخاصة المميّزة للإنسان، الإنسان المنحدر من فعل الخالق الذي فطر أنواعا أخرى غير الطبيعة الحيوانية. إنه الفعل الذي كان، بإعطائه مميزاته الخاصة، احتمال بالقوة على الصعيد الأنطولوجي، حقيقة وجودية. تتحدد أساسا بقدرتها واستعدادها القبلي على ضبط واستقبال المطلق الإلهي، أيْ التفكير في الخالق وربط علاقة به، والتوجه نحوه بكل حرية. هكذا، إذن، كانتْ فطرة آدم، وكلّ إنسان هو آدم. كان آدم قد تلقّى، كمعيار شكليّ وثابت لحقيقة حريّته، القدرة على العصيان، وذلك بكلّ وعي وبكلّ قصدية، وبكلّ إصرار أيضا. إنّ العقيدة، إذا لم تكن في الحقيقة جوابا حرّا على نداء غير قاهر ولا مكره، لا معْنى لها. تلكمْ كانت طبيعته بدءا من المستوى الأونطولوجيّ. إنّ كلمة «بلى» الآدمية التي كانت بمثابة السؤال التأسيسيّ للشرط الإنسانيّ في الآية القرآنية: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (سورة الأعراف، الآية 72)،لا يمكن أن تكون إلاّ «بلى». وإلاّ، فلن يكون للسؤال وللجواب أيّ معنى. إن احترامي للآخر في اختيار طريقه يجد أسسه التيولوجيّ والديني، وفي أخلاقيات ممارسته، وفي احترامي لاحترام الله للإنسان. إنّ احترامي للآخر ليس سوى احترامي للرغبة الإلهية: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ. أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (سورة القصص آية 56). الله يعطيني على كل حال نموذج ومثال احترام حرية الفرد في اختيار مصيره وقدره. ومن ثمّ فهو يتوجّه إلى الرسول: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (سورة يونس، الآية 99). آيات أخرى كثيرة تمشي في الاتجاه نفسه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» ( سورة المائدة، الآية 105)، «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل» سورة يونس، الآية 108). لقد أبى الله، بصفة عامّة، أن يجبر الإنسان على الإيمان واعتناق العقيدة، وبالتالي منع على الرسول أنْ يكره الإنسان على الإيمان. لقد علّمنا الله أن نحترم الإنسان. غير أنّ احترام الله للإنسان ليس لا استقالة وهجرانا ولا تجاهُلا. ليس لا قطيعة ولا رفضا للتواصل. ذلك أنّ الوحْي برمّته، منذ البدْء، ومنذ ظهور الحياة الوازنة على وجه الأرض، هو حوار متواصل ومستمرّ مع الإنْسان. وما فتئ الحوار متواصلا لا يتوقّف: الله في القرآن ينصح، يعد، ينذر، يبشّر، يدعو إلى التفكير والتأمّل في آياته-علاماته. وباختصار، فإنه يمنح نفسه، ويقدم مساعدته وهدايته، يجعل نفسه على الدّوام رهن الإشارة ولا يفرض نفسه أبدا. ومن ثمّ فإنّ الاحترام ليْس قطيعة، ولا غيابا للتواصل. إنه شرط التواصل الحقيقيّ. الاحترام هو احترام أخلاقيات نقْل وتوصيل العقيدة الدينية. والحال،من الواضح الجليّ اليوم، أنّ الحرية الدينية، مع تطوّر ذهنياتنا وعقلياتنا، لم يعدْ من المُمكن أنْ تعتبر بمثابة تسامح، وذلك لأنّ التسامح ليس حقّا، في حين أنّ الاحترام حقّ. في مفهوم «التسامح»، إذن، يوجد شيء يتنافى ويتناقض مع مفهوم الحرّية الدينيّة، لأنّ هذا الأخير حقّ من حقوق الإنسان يقوم في الوقت ذاته على العقْل وعلى العقيدة. الحرية الدينية لا تقوم على التسامح، بقدر ما تقوم على الواجب. أما على المستوى العمليّ، فإنّ الحرّيّة الدينية تجد حلّها في اللاّئكيّة، حيث الدّولة تُعتبر محايدة ولا دخْل لها في الحقل الدّيني. وقد سبق لابن خلدون أن سجّل وحلّل انزلاق-توجه الدولة نحْو المُلْك، أيْ نحو الدنونة، إلاّ أنّ هذا المسار لم يصل إلى تطوّره الكامل في الإسلام، وذلك بكلّ تأكيد بسبب تراكب والتباس العلاقة بين مفهوميْ «الأمّة» و»الدولة»، حيث اعتُبرتْ «الدولة» بمثابة تحقّق وتطبيق لمفهوم «الأمّة». واليوم، لا زالت اللائكيّة، المتحقّقة فعليّا وعمليّا، إلى حدّ ما، في العديد من البلدان الإسلامية، غير مقبولة في غالب الأحيان فوق أرْض الإسلام، باستثناء تركيا. غير أنّ تأسيس الحرية الدينية على عدم تدخل الدولة في مسائل العقيدة لا يحلّ المشكل الأساسيّ، بحيث يظل هذا الأخير مشكلا كاملا. والحلّ المؤسساتي في حدّ ذاته لا يعمل سوى على تأخير المشكل وليس حلّه وتسويته. صحيح أنّ السلطة السياسية بإمكانها، انطلاقا من مبدأ انعدام التدخل، ألّا تتدخّل في الشؤون الدينية لمواطنيها، غير أن المواطنين، أو الجماعات المنظّمة والمُهيْكلة من المواطنين، يمكنهم أن يشعروا بأن هذا الامتناع بمثابة استقالة غير مقبولة أخلاقيّا من طرف الدولة، بل يمكنهم أن يعتبروها خيانة للأمّة. ومن ثمّ، فإنّ شرعيّة الدولة تغدو مهدّدة من الناحية الهيكلية. وبعبارة أخرى، فإنّ الحل المؤسساتي والقانوني للحرية الدينية، المتمثّل في عدم تدخّل الدولة في الشأن الديني، لا يمكنه أن يضمن اسْتتباب الأمن إلاّ كان هذا الحلّ مبنيّا على القناعة والانخراط والدعامة الفعلية والحقيقيّة للمواطنين. الدولة بنفْسها وفي حدّ ذاتها ليستْ حلاّ. لأنها ليستْ أساسا للحرية الدينية، بقدر ما هي فقط ترجمة قانونية لهذه الحرية انطلاقا من قاعدة إيتيقيّة وميتافيزيقية توجد في مكان آخر، في القناعات الحميميّة والخاصة للمواطنين، ومن ثمّ في إرادتهم المشتركة في الاتفاق المشترك والمتبادل حول الحقّ في اختياراتهم الدينية والعقائدية التي تتمّ بكيفيّة حرّة. إنّ معركة الحرية الدينية، في مجتمعنا الإسلامي اليوم، هي أمْ المعارك كلّها، إذ بدون الانتصار فيها، يستحيل حل المشاكل الأخرى المرتبطة بها دائما من قريب أو من بعيد.