بينهم من ينشطون بتطوان والفنيدق.. تفكيك خلية إرهابية بالساحل في عملية أمنية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جمهورية بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع 'الجمهورية الصحراوية' الوهمية    الرئيس الصيني يؤكد خلال زيارة المغرب دعم بكين لأمن واستقرار الرباط        أمريكا تجدد الدعم للحكم الذاتي بالصحراء    تعيينات جديدة في المناصب الأمنية بعدد من المدن المغربية منها سلا وسيدي يحيى الغرب    شركة رومانية تفتح بطنجة مصنعا متخصصا في تصنيع المكونات البلاستيكية للسيارات    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    حكيمي في باريس سان جيرمان حتى 2029    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النُّخَبُ المغربية أمام إشكالية حرّية المُعتقد

نظمت مجموعة الديمقراطية والحداثة ندوة دولية بمدينة الدار البيضاء، خلال يومي 16 و17 مارس 2012 في موضوع «حرية المعتقد بالمغرب». شارك في هذه الندوة الهامة عدد من الباحثين من داخل المغرب وخارجه. وقد انصبّت المداخلات على مفهوم «حرية المعتقد» وما يتصل بها من حق المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات. ونظرا للقيمة العلمية والمعرفية لأغلب المداخلات، فإن «الملحق الثقافي» للاتحاد الاشتراكي يشرع في ترجمة أهمّها، وفي مقدمتها مداخلة الأستاذ الباحث محمد الصغير جنجار.
سيتناول حديثي هنا إشكالية «حرّية المعتقد»، في علاقتها بمواقف النّخب المغربية السّياسية والمدنية. وإذا كنتُ قد فهمت جيّدا طلب «مجموعة الديمقراطية والحداثة»، فإنّ الأمر يتعلق بمُساءلة هذه النخب عمّا تعنيه عبارة «حرّيّة المعتقد»، في استراتيجية اشتغالهم ومنطقهم الاستدلالي، وكذا عن المكانة التي تحتلّها هذه الحرية في منظورهم ورؤيتهم للحرّيات الأساسية، وللدّين والديمقراطية، ولدولة الحقّ والقانون.
يتعلق الأمر، بعبارة أخرى، بالنظر في السّياق الدقيق للفُصول الأخيرة من الدّستور الجديد الذي هو ثمرة، كما هو معلوم، النتائج المحلية ل»الرّبيع العربي»، إلى ما كان ينقصُ لكيْ لا تتحقّق القفزة النوْعية التي كان من شأنها إدْراج حرّية المعتقد في مشْروع إصْلاح الدّستور. وهذا يؤدي إلى طرْح السؤال التالي: ما الذي أدّى، في فكر النّخب السياسية وثقافتها، وفكر وثقافة المجتمع المدني المغربيّ، إلى أشْكال التردّد والانْحصار على عتبة حرّية يعتبرها الجميع أمّ جميع الحرّيات، وذلكَ بالنظر إلى التجربة التاريخية والسياسية للمجتمعات الغربية التي انتزعتْ هذه الحرّيّة مقابل مآسِ إنسانية كبيرة. وهي الحرية التي خوّلتْ لها الدخول عهد الإصلاحات الدينية وعهد التسامح والتعدّد الرّوحي والدّيمقراطية؟
يمكن للمرء أيضا أن يتساءل عن درَجة الانسجام والمُلاءمة في «الاختيار الذي لا رجْعة فيه بخُصوص بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون»، وفق ما تمّ التعبير عنه في «تصدير» الدستور المغربيّ الجديد، بعيدا عن الاعتراف بالحرّية الأساسية التي تنصّ عليها المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تعلن أنه « لكلّ شخص الحقّ في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرّاً أم مع الجماعة». هذا الإعلان الذي يحضر في الدستور المغربيّ كمرجعيّة أساسية؟ كما أنه من الضروريّ التساؤل عمّا إذا لم يكن المغرب قدْ أضاع فرصة تاريخية لاسْتباق التحدّيات الكبيرة التي يتعيّن عليه بالضّرورة مواجهتها، على المدى المتوسّط، بالنظر إلى ما يعرفه المجتمع المغربيّ من تطوّرات وديناميّات على خلفية عوْلمة لا ترحم، تفرض على كلّ المجتمعات المعاصرة، مهما كانت طبيعة ثقافتها، العمل على تدبير عادل وعقلانيّ للتنوع الرّوحي والدّيني؟
تلكمْ بعضٌ منَ الأسئلة التي أقترح فحصها في ضوْء السياق الاجتماعيّ والسياسي والمؤسسيّ المغربي.
حرّيّرة المُعتقد: عودة المكبوت
لنبدأ أوّلا بتوضيح المعطى التالي: إنّ النقاشَ العامّ حوْل قضيّة حرّية المعتقد لم يتمّ دون شكّ نظرا لانعدام الشّروط السياسية والفكرية اللازمة. فالبعضُ يريد إدراجَ مبدأ حرّية المعتقد في مقتضيات القانوني المغربي رغْبة منه في إصلاح سريع من شأنه تفادي نقاش فكريّ وسياسيّ صعب وغير متوازن. بينما يجد فيه البعض الآخر فرصة إضافية لتوظيف المشاعر الدينية من أجل تحقيق هدفيْن اثنيْن: من جهة، مضاعفة آيات الولاء والحصول على ثقة «أمير المؤمنين»، ومن جهة أخرى، توسيع مساحات حضورهم السّياسي في أفق الانْتخابات التشْريعية القادمة السّابقة لأوانها.
سأحاولُ أنْ أركّز حديثي حول اعتراضيْن اثنيْن كبيرين استعملهما الجانب الثاني لرفضه تبنّي حرية المعتقد والطابع المدني للدولة، وذلك خلال الأيّام الأخيرة التي تلتْ تقديم النسخة النهائية من الدستور.
الاعتراض الأوّل ذو طابع مؤّسّسي: وهو يستند على القول إنّ حرية المعتقد ليستْ ممكنة، ولا يمكن التفكير فيها إلاّ في إطار دوْلة مدنية، محايدة وعادلة ومنصفة في علاقاتها مع مختلف الدّيانات والفلسفات والتصوّرات الرّوحية التي يعتنقها مواطنوها. ومنْ ثمّ، فإنّه إذا تنازلت الدولة المغربية على صفتها الإسْلامية، فإنّ ذلك قدْ يقوّض بصورة آلية المبْدأ الذي تتأسّس عليه شرْعية إمارة المؤمنين.
ما هي المسلّمات المتحكّمة في هذه الحجّة التي تتكرّر بصورة مطّردة كلّما تعلّق الأمر بالتقدّم على طريق التحديث المؤسساتي؟ لنؤكد أوّلا أنّ هذه النظرة للأمور تعتمد على قراءة معيّنة للبيْعة يطلق عليها عبد الله العروي اسْم «القراءة الهوبزوية»1 ، التي تتعارض مع قراءة أخرى، موجودة بدوْرها في الثقافة السياسية المغْربية، والتي يمكن وصفها ب»القراءة الرّوسوية»2. وهكذا، فإنّ البيْعة، بالنسبة لأصحاب القراءة الأولى، معناها «احتفال استعاديّ لفعْل بدْئيّ وهبتْ الجماعة بواسطته نفسها جَسَدا وروحا مرّة واحدة إلى الأبد». ومن ثمّ فالتعاقدُ السياسي الذي تمثله البيعة يصبح نوعا من التكرار اللانهائيّ لفعل تأسيسيّ ضارب في القدم، فعْل لاتاريخيّ وغير مكتمل.
هذه المسلّمة القائمة على بيْعة رمزية باعتبارها محضَ استذكار واستعادة للفعل التأسيسيّ الأوّل، والمتمثّل في «بيعة الرّضوان»3، قدْ تكون منْسجمة إلى حدّ ما في سياق النّظرية الكلاسيكية للإمامة أو الخلافة، كما هو الحال في خُطب هيئات يُفترض فيها تمثيل رجال الدّين التقليديين ( حكومة ناتجة عن انتخابات، مجلس أعلى للعلماء). غير أنّ مثل هذه المسلّمة تفضي إلى الباب المسدود في خطاب الفاعلين السياسيين (أمثال حزْب العدالة والتنمية) الذين يطالبون، بدورهمْ، بتحقيق ديمقراطية سياسية، وبإعادة التوازُن إلى سلطات الملك.
إنّ توظيف السّجلّين، التقليدي والديمقراطي، تكذّبه الوقائع، كما اتّضح من الإصلاح الدّستوري الأخير. أَلَمْ يبرز هذا الإصلاحُ أنّ المَلكيّة، شأنها في ذلك شأن جميع المؤسسات السياسية، تتطوّر وتتكيّف بصورة فعليّة.
وعلى صعيد آخر، ينبغي التشديد على كوْن التجْربة التاريخية للعديد من الأنْظمة المَلكيّة في العالَم توضّح، بصورة لا غُبار عليها، كيف نجحتْ هذه الأنظمة في التلاؤم والتكيّف مع دول ديمقراطية تحترم التعددية الرّوحية وتنوّع الديانات، مع البقاء وفيّة لتقاليدها العريقة التي تسند للملك وظيفة القائد الدّيني الأعلى، المكلّف بتدبير الحقل الديني وتعيين الشخصيات الدينية العليا. تلك هي وضعية كلّ من بريطانيا والدانمارك والنرويج وإيسلاندا.
وبتعبير آخر، فإنّ التطوّر التاريخيّ للمؤسسات المغربية والتجربة السياسية للأنظمة الملكية عبْر العالم، كلاهما يدافع من أجل بناء دولة مدنية تحقّق درجة معينة من الحيادية إزاء الرؤيات المتعددة للخيْر الأسمى المُتنافَس عليه داخل المجتمع.
أمّا الاعتراض الثاني، فذو طابع ثقافية ودينية: وهو يزعم بأنّ الإصلاحيْن المشار إليهما سابقا (الدولة المدنية وحرية المعتقد) من شأنهما تمهيد الطريق نحو نزع صفة الإسلام عن المغاربة من اللحظة التي لا يصبح فيها الدّين محميا بقوّة القانون وبالسلطات العمومية. ومن ثمّ، فإنّ أعدادا كبيرة من المغاربة المسلمين سيستسلمون لغواية اللاأدرية، بل لإغراء الإلحاد، أو سيستجيبون للدّعوات التبشيرية التي تحملها جماعات مسيحيّة يهدف نشاطها الديني إلى خلْق أقلّيّات دينية فوق الأراضي الإسلامية بهدف استعمالها للوصول إلى أهداف سياسية.
وغالبا ما يجد هذا الاعتراض صدى له لدى فئات شعبية عادة ما يتمّ شحْنها، من طرف وسائل الإعلام العربية على وجْه الخصوص، بأفكار تتعلق بخطابات صراع الأديان وصراع الحضارات. وفضْلا عن أنّ مثل هذا الكلام ينطوي على ازدراء ظاهر للقناعات الدينية للمغاربة، الذين يُعتبرون ضمنيّا منافقين لا ينتمون إلى الإسلام إلا تحت الضغط والإكراه، فإنه يعبّر عن جهْل عميق بتاريخ وسوسيولوجية الدين في المغرب.
التبشير والدعوة:
وجها العملة الواحدة
أبرزت العديد من الأبحاث كيف أن الخطاب التخويفي حول التبشير المسيحي، أو الخطاب الذي راج حديثا عن التهديد التنْصيري بالمغرب العربي بصفة عامة، من جهة، والخطاب الذي ينادي بضرورة تكثيف نشر الدعوة، من جهة ثانية، يعملان كوجهيْ العملة الواحدة. إن الجدالات العرَضية حول مختلف تدخّلات الجماعات التبشيرية في الأراضي العربية، والتي لا ترقى إلى الأهمية التي تعطى لها ، تبدو بمثابة العنصر الذي تتجلى وظيفته الأولى في تبْرير النشاط الداخلي للدعوة. بتعبير آخر، إنّ الخطابَ حول التبشير الذي يقوم به المبشّرون المسيحيّون، يندرج أكثر في استراتيجيات بناء الهويّة أكثر مما يصف وقائع حقيقيّة.
وقد سبق للمؤرّخ محمد قنبيبْ، الذي اشتغل على الأرشيفات المغربية من عشيّة الحماية إلى ما بعد الاستقلال، أنْ أشار إلى هذه المفارقة:»من جهة، عدم أهمّية الأعداد التي غيّرت ديانتها، ومن جهة أخرى، ثقل السياق السياسي والديبلوماسي والسوسيو-اقتصادي للمراحل التي شغلت فيها الظاهرة الساحة العمومية، وكذا ثقل الهيجان الذي أثاره الاهتمام الذي أوليَ ل»الذين يدفعون الناس إلى تغيير ديانتهم». علاوة على ذلك، أبرز محمد قنبيب تلك المفارقة الموجودة، من ناحية، بين العدد الضئيل للمغاربة (من مسلمين ويهود) الذين اعتنقوا الديانة المسيحية، ومن ناحية ثانية أهمّية العمل الذي قامت به البعثات في ميدان التّمدرس، وتقديم المساعدات الطبية للمرضى، واستقبال الأطفال المُتخلّى عنهم واليتامى، و في المجال الخيْريّ عموما.
العولمة ودنْيَوَة الهوّيّات
أبرزت أبحاث علمية أخرى أنّ فهم ظواهر اعتناق ديانة أخرى عموما، في عالم اشتمالي كعالمنا، لم يعدْ مفهوم «التبشير» كافيا للتعبير عنها. إن مثل هذه الظواهر باتت تلتقي مع معطى اجتماعيّ أوسع وأعمق يمكن أن نطلق عليه اسم «دنْيوَة الهوّيات». ومعنى هذا أنّ الهويات القوية من الناحية الاجتماعية، في المجتمعات الحديثة، كالهوّيّات الدينية، لم تعد تعمل باعتبارها نتيجة لإرْث مفروض على الأفراد، بقدر ما باتت تعتبر بصورة متزايدة ثمرة ديناميات متّصلة باختيارات فرديّة. إنّ حركيّة الأشخاص والأفكار، التي تطبع الأزمنة الحالية، والتعددية الملازمة للثقافة الحديثة، نتج عنهما أنّ أيّا من الديانات الكبرى لم تعدْ تعتبر ديانة أخرى أو خارجة بصفة كلّيّة. وهذا يساهم في فكرة أنّ حركيّة الهوّيات المتداخلة، أو تغيير الديانة، لم يعدْ ينطوي على بُعد القطيعة النهائية والشاذة، ولا على الطّابع الدّرامي كما كانَ الأمر في الماضي. إنّ اعْتناق ديانة الآخر، بتعبير آخر، في ضفّتيْ المتوّسط، لم يعدْ بالنسبة للعديد من المسيحيّين أو المسْلمين تغيْيرا للعالم الثقافيّ أو الرمزيّ.
ألَمْ تبيّن الأعمال المنجزة حول مسألة تديّن المغاربة المفعول العميق الذي تمارسه ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال على ظهور تعدّدية داخل الإسلام، وكذا على نشوء نزعة فردانية في الاختيارات الدينية، والتراجع المتنامي لدور المؤسسات التقليدية للتنشئة الدينية!
وفي مستوى آخر، من حقّ المرء أن يتساءل كيف باتت الأنظار تتجه، بشكل متزايد، إلى بلد مثل تركيا باعتباره نموذجا للدّمقرطة السياسية وللنجاح الاقتصادي والاجتماعي، وذلك دون الرغبة في التفكير بأنّ هذا البلد قد نمط تدبير لاّئكي في علاقات الدولة بالدّين. فهل أصبح الشعب التركيّ أقل إسلامية من سائر شعوب منطقة الشّرق الأوسط؟ وهل استسلم لإغراء «اللاّأسلمة» والتبشير؟ إنّ حيوية الإسلام في تركيا دليل على تبديد ودحض كلّ الأحكام المغلوطة، سواء أكانتْ صادرة عن حسْن نيّة أمْ بنيّة مبيّتة.
النخب المغربية والمسألة الدينية
إن الثقافة السياسية للنخب المغربية مسؤولة، في جانب كبير منها، على غياب حوار مجتمعيّ واسع حوْل قضيّة حرّية المُعتقد، وحوْل مكانة الدين في الآلية الاجتماعية والسياسية بصفة عامّة.
وتبيّن العودة إلى التاريخ السياسيّ الحديث، بالفعْل، أنه بُعَيْدَ الاستقلال أصبحتْ الشؤون الدينية، أو السياسية الدينية، حكْرا في يد الشريحة التقليدية لنُخب مراقَبة ومُسيَّرة من طرف السلطة المركزيّة. لنذكر، على سبيل التمثيل، بعض اللحظات الأساسية والمفْصلية التي نُسجتْ خلالها خيوط السياسي والدّيني:
- في سنة 1957، وُضعت أوّل مدوّنة للأحوال الشخصية. وباستثناء بعض المقترحات التي قدّمها علال الفاسي، ولم تؤخذ في الاعتبار، وبخاصّة منها ما يتعلّق بتعدّد الزوجات والنفقة، فإنّ مختلف مكوّنات النّخبة الوطنية ظلّت غيْر مكترثة ولا مبالية بما كان يُهيَّأ داخل اللجنة المكلفة بتحرير المدوّنة. وممّا زاد في غرابة هذا الوضْع أنّ الجناح اليساري لحزب الاستقلال، والحزب الشيوعيّ، حَضَرَا في تلك الفترة بالذات مراسيم تطبيق قانون تحديثيّ بتونس بتأثير وإيعاز من الرئيس بورقيبة.
- في سنة 1962، قرّر محرّرو أوّل دستور مغربيّ تضمينه الفصل 19، المتعلق ب»أمير المؤمنين»، دون أدنى مقاومة، وذلك على الرّغم من التبعات السياسية المحتملة، والمشاكل التّيو-سياسية الكبيرة التي يخلقها هذا الفصل للتقليد السّنّي.
- في سنة 199، نُشرتْ نتائج أشغال اللجنة الخاصّة بالتربية والتكوين، التي أفضتْ إلى «الميثاق الوطني للتربية والتكوين». وقدْ تجنّب هذا الميثاق أنْ يحسم بشكل واضح وصريح في شأن القيم واللّغات أو المضامين الثقافية، وبالتالي لجأ إلى وضع اختيارات متضاربة إزاء بعضها البعض. ومرّة أخرى يتغلّب الإجماع الضبابيّ على الاختيارات السياسية والثقافية الواضحة. وبعد عقْد من الزّمان، اتّضح أنّ الطريق التي سلكناها لا تفضي إلى مخْرج، وبالتالي اضْطُررْنا إلى اعتماد مخطّط استعجاليّ.
ومن ثمّ، يمكن، في ضوْء التاريخ السياسي للمغرب المستقلّ، وفي سياق تحليلات عبد الله العروي، اعتبار أنّ المسألة الدينية ظلّتْ، منذ بداية الستينيات، الحقل الخصوصيّ للسلطة الملكية. إن المسألة الدينية، بالنسبة للنّخب المغربية، سواء أكانتْ في السلطة أمْ في المعارضة، ملتزمة داخل الأحزاب السياسية أم ناشطة في المجتمع المدنيّ، ظلّت لمدّة طويلة داخل المسكوت عنه واللاّمفكّر فيه، وداخل إطار المكبوت بعيدا عن أيّ نقاش أو تفكير سياسييْن. وأمام انعدام مواقف سياسية واضحة، يسود نوع من الإجماع الرّخْو، الذي يوظّف بلاغة جوفاء تتغنّى بخصوصية دينية مُتخيّلة، في اللحظة ذاتها التي يبدو فيها أنّ العولمة تنتج وتنشر فَوَرَانا دينيّا غير مسبوق، يتخطّى الحدود والتقاليد الثقافية القديمة في الآن ذاته.
على سبيل الختْم
في فجر القرن الواحد والعشرين، وتبعا للتحوّلات العميقة التي عرفها المجتمع المغربيّ، وللإصلاحات السياسية الكبرى التي تحققتْ، يجدر بالمرء أنْ يتساءل عمّا إذا لم يكن محكوم على النخب المغربية بالرّكون إلى السّبات الدوغمائي للتقليدانية. ذلك أن المسألة الدينية هي من الجدية دون شكّ حتى نتركها بين أيْدي إيديولوجييّن منشغلين بتوظيفها السياسيّ. لذلك، فإنّ النّخب والقوات الحيّة في البلاد ستربح الشيء الكثير حين تتولىّ، من خلال نقاش هادئ وعقلانيّ، إشكالية حرّيّة المعتقد. فهذه الأخيرة ليست على الإطلاق قضيّة مغلوطة، ولا هي مطلب لأقليّة علمانية متعصّبة ومنفصلة عن الواقع الثقافي والشعائريّ للمجتمع المغربيّ، كما تزعم بعض الدعوات المُغرضة.
بماذا يتعلق الأمر على وجه التحديد؟ وما هي الرهانات الحقيقية لمبدأ حرية المعتقد في السياق المغربيّ؟
إنّ المجتمع المغربيّ، على غرار باقي المجتمعات المعاصرة، يوجد تحت ضغط التأثيرات القويّة للعولمة، وهي التأثيرات تضع على المحكّ الصّعب الصيغ التقليدية للتنشئة الاجتماعية، ولإعادة الإنتاج الثقافية. فالانفتاح على العالم، وثورة وسائل الإعلام والاتصال، وحركيّة الأفراد والأفكار والمنتوجات وأساليب العيش، وارتفاع مستوى تعلّم المواطنين، كلّها عوامل تجعل اليوم من التنوّع الثقافي واحدا من المعطيات الأساسية للمجتمعات المعاصرة. ومن أجْل بناء أو تعزيز عيْشها الجماعي الديمقراطي، فإنّ المجتمعات الحديثة لمْ تعد تقتصر على تنظيم اللعبة الانتخابية والفعل السلمي المتمثل في المنافسة الانتخابية داخل هذه اللعبة. يتعيّن عليها، كذلك، خلْق وإنشاء الإطار القانونيّ والمؤسّسي الكفيل بإعطاء ضمانة للتدبير العادل للتنوّع الروحي الذي يطبعها.
إنّ الأمواج العاتية القادمة لمسار العولمة الذي لا يرحم سيحمل تحدّيات كبيرة. وليس من الضروريّ أنْ يكون المرء باحثا أنثروبولوجيّا لكيْ يلاحظ بأنّ التعبيرات التقليدية للإسلام المغربيّ (العالم أو الشعبيّ) لمْ تعدْ تغطّي شمولية ومجموع حقل التجربة الدينية للمغاربة. لقد ظهرت في محيطنا الثقافي تعبيرات جديدة (الصوفية الجديدة، السلفية، التشيّع الخ). ومن ثمّ فالمغاربة، مثلهم مثل معاصريهم عبر العالم، باتوا يميلون على نحو متزايد إلى تبنّي تمثلات متنوعة في العالم المعاصر، وتبنّي أنماط قيميّة مختلفة غير متوافقة أحيانا. إن حيوية مشرُوع المجتمع الحديث ستقاس بقدرة الديمقراطية المغربية على هيِْكلة هذا التنوّع، وذلك بالسّماح للمواطنين بتعلّم التعاون من أجل تسْوية اختلافاتهم ونزاعاتهم بوسائل سلميّة. بهذه الوسائل يقاس الطابع المدنيّ للدولة، وحياده النسبيّ إزاء مختلف التصوّرات حول الخيْر الأسمى، وحوْلَ احترام الحريات الأساسية، ومنها على وجه الخصوص حرّية المعتقد، والحرية الدينية، وإعادة مركزة الحياة السياسية حول المصالح المعقولة والمبادئ المُشتركة التي يتضمّنها القانون الأساسي (الدستور)، وذلكَ بعيدا عن أيّة حرْب للقيم.
هوامش
1. [نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي طوماس هوبز (1588-1679). يعتبر هوبزْ العقدَ الاجتماعيّ تعاقدا وهميّا نشأ عن اتفاق بين الأفراد أو بين البعض منهم. وبموجب هذا الاتفاق يتنازل الأفراد عن جميع حقوقهم لفرد واحد. وهذا الفرد هو حرّ التصرف في استخدام القوة. والأفراد يفعلون ما هو مطلوب منهم ومرغمون على عمل ذلك، لان الفرد الذي تنازلوا له عن حقوقهم يملك وسائل القوة والقهر، ومن يخرج عليه يقابل بالعقاب. وبذلك يستطيع فرض سلطته وتحقيق الاستقرار في المجتمع. وبهذا يصبح الفرد، الذي يملك القوة والقهر «ليفياثان»، أي الرئيس الأعلى للجماعة الذي يجمع بيديه جميع السلطات ويدين له الكل بالطاعة المطلقة، فهو الملك المستبد الذي «لا يمثل طرفا في العقد»، له الحق في أن يفعل ما يشاء دون حساب وليس لرعاياه الحق أن يسلبوه ما قد وهبوه آو نزع السلطة منه تحت أي ظرف من الظروف. (المترجم)].
2. [نسبة إلى جان جاكْ روسو الذي يعتبر الحق مصدره هو الحرية، وحيث أن النظام الاجتماعي ليس هبة الطبيعة للإنسان، لذلك فالحرية المنبثقة من الطبيعة البشرية لابد أن تصبح من سمات الحالة الاجتماعية. لذلك لا يمكن لأيّ حكم أنْ يقوم على حق الأقوى، إذ أن القوّة طاقة جسدية لا تؤدي إلى الحق. ومن ثمّ فالأساس الذي يقوم عليه الحق هو الاتفاق والميثاق. فعن هذا الاتفاق ينشا المجتمع. لذلك فان العقد الاجتماعي-بالنسبة لروسو-هو الشرط الأساسي لكل سلطة تريد أن تكون شرعية. وهذا يدل على انتقال التطور التاريخي من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني» إن ما يخسره الإنسان من جراء العقد الاجتماعي,هو الحرية التي كان يتمتع بها في الطبيعة والحق اللامحدود...وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية, فيكتسب بذلك الحرية الأخلاقية (المترجم).]
3. [بيعة الرضوان هي البيعة التي بايع فيها الصحابة النبي محمد عام الحديبية على قتال قريش، وألا يفروا حتى الموت، وسببها ما أشيع من أن عثمان قتلته قريش حين أرسله النبي إليهم للمفاوضة، لما منعتهم قريش من دخول مكة وكانوا قد قدموا للعمرة لا للقتال، وسميت بيعة الرضوان لأن الله رضي عنهم بها، وكان عددهم نحو ألف وأربعمائة صحابي، وهذه البيعة هي المذكورة في النصّ القرآني: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» «سورة الفتح:18» (المترجم)].
4. (فضّلتُ النحت اللغوي «دنْيوة»، كمقابل للمصطلح الفرنسي » sécularisation «، والذي يترجمه البعض خطأ ب»علمانية» أو «لائكية». ذلك أنّ المصطلح الفرنسي يشير إلى كل ما له علاقة بالزمان والوقت والدهر والدنيا/ ومن ثمّ يعني تلك العملية التي تجعل العالم والتاريخ والمؤسسات خاضعة لمنطق دنيوي بدون مرجعية دينية واحدة وموحّدة. (المترجم).
من كتاب La liberté de conscience au Maroc, p, p. 153, 159.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.