تنافست الصحف الإسرائيلية أول أمس في ما بينها في نشر تفاصيل قضايا أمنية ذات أهمية. وفيما كشفت «معاريف» النقاب عن بعض تفاصيل عملية اغتيال الشهيد أبو جهاد في تونس مع بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عمدت «يديعوت أحرونوت» إلى تخيير القارئ بين الإطلاع على ما تكشفه من إخفاق الموساد في التعاطي مع قضية «السجين إكس» العميل الأوسترالي بن زايغر، وبين قراءة تفاصيل قرار اغتيال مسؤول «كتائب عز الدين القسام» الجناح العسكري لحركة حماس الشهيد أحمد الجعبري، وإطلاق عدوان «عمود السحاب» على غزة في تشرين الأول العام 2012. نشرت صحيفة معاريف الاسرائيلية ، اليوم الجمعة تفاصيل تنشر لاول مرة عن اغتيال ابو جهاد من قبل جهاز الموساد، وجاءت كالتالي: الحدث الذي كان يفترض به أن يغير وجه الشرق الاوسط وقع قبل 25 سنة، في 16 أبريل 1988: مقاتلان من وحدة «سييرت متكال» الخاصة، احدهما يتخفى في زي امرأة، اقتربا من فيلا خليل الوزير (ابو جهاد)، نائب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، في مدينة تونس على شاطيء البحر المتوسط. وكان أحد «العاشقين» يحمل رزمة بدت كهدية، فيما أن المقاتل في زي امرأة كان يحمل خريطة للمنطقة. «الشابة» مع الخريطة اقتربت من الحارس كي تطلب منه زعما تفسيرا لكيفية الوصول الى عنوان ما في الحي. وفي نفس الوقت وجه الرجل الذي يحمل الرزمة بندقية مع كاتم صوت كان يخفيها في العلبة، نحو رأس الحارس. حارس ابو جهاد ما كان يمكنه أن يلاحظ العلامة الحمراء التي ارتسمت على جبينه. وفجأة انهار وسقط. رصاصة واحدة اصابته بدقة فتاكة. هذا الوصف لبداية حملة تصفية ابو جهاد، الذي يؤتى به هنا مع تفاصيل اخرى تكشف النقاب عنها لاول مرة بالنسبة للعملية، ما كان يمكنه أن ينشر حتى الان: حتى وقت أخير مضى لم تعترف اسرائيل بشكل رسمي بانها هي المسؤولة عن عملية تصفية أبو جهاد، والرقابة سمحت بنشر فقط تفاصيل انكشفت من قبل وسائل الاعلام العالمية. اما الان فيمكن الوصف بالتفصيل احدى العمليات موضع الخلاف الاشد في تاريخ الجيش الاسرائيلي. وستنشر القصة الكاملة الاسبوع القادم في العدد رقم 13 من مجلة «اسرائيل ديفنس». كان أبو جهاد ابن 53 عاما حين قتل بالرصاص في بيته. وقد اعتبر هدفا للاغتيال منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بعد أن قدرت الاستخبارات الاسرائيلية بانه يقف خلف عدة عمليات كبرى في اسرائيل نفذت بواسطة قوة بحرية أقامها. احدى تلك العمليات كان يفترض أن تنفذ في معسكر وزارة الحرب في تل أبيب، من قبل قوة كوماندو تنزل من البحر. لم يكن أبو جهاد واعيا لذلك، ولكن عدة خطط اغتيال لم تخرج الى حيز التنفيذ. وعندها، مع نهاية العام 1987، تلقت وحدة «سييرت متكال» مهمة الاستعداد لتصفية ابو جهاد. في تلك الفترة اشتعلت في المناطق الانتفاضة الاولى. وفي اسرائيل كان من اعتقد انه سيكون ممكنا تصفية الانتفاضة من خلال ضرب «الرأس» في م.ت.ف كما يسميه ، الذي كان في حينه في تونس. قاد الوحدة في حينه المقدم «موشيه بوغي يعلون»، ولاحقا رئيس الاركان واليوم وزير الحرب، والذي كان يعتبر «خارجيا» كونه نما في لواء المظليين وليس في الوحدة ذاتها. بعد أن كلفت القيادة السياسية «سييرت متكال» بمهمة اغتيال ابو جهاد تقرر أن تتم العملية على أرض تونس. وتضمنت احدى الامكانيات التعاون بين «سييرت متكال» و الكوماندو البحرية التي تنقل المقاتلين الى تونس عبر البحر وبشكل سري. خيار آخر كان اجتياحا صاخبا بواسطة مروحيات من سلاح الجو تهبط هناك على نحو مفاجىء. وطالب رجال سلاح البحرية في حينه اعتبار قائد الكوماندو القائد الاعلى للعملية. اما في «سييرت» فرفضوا ذلك. وفي النقاش الذي جرى لدى نائب رئيس الاركان في حينه، ايهود باراك، بمشاركة رئيس شعبة الاستخبارات أمنون ليبكين شاحك، قال بوغي لرجال سلاح البحرية انهم اذا لم يتخلوا عن طلبهم، فان «سييرت» ستختار الوصول الى الهدف للتعاون مع سلاح الجو وليس معهم. وبعد هذا التهديد تقرر ان يعتبر رجال الكوماندو البحرية كشركاء في عملية هيئة الاركان. وكان للموساد دور مركزي ايضا. فقد كان رجالها منتشرين جدا في مدينة تونس. وجمعت الموساد وشعبة الاستخبارات كل معلومة عما يجري في تونس وبالاساس عن الفيلا التي كان يسكن فيها ابو جهاد في قلب المدينة قرب العديد من كبار رجالات م.ت.ف . جاره القريب كان محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية حاليا. بين تونس ورمات هشارون «وأعد ايال المعلومات الاستخبارية الممتازة وعرف كل قطعة أرض في المكان. كان يعرف اين تعلق كل صورة، كم درجة هناك وغيرها من التفاصيل. كانت له معلومات دقيقة للغاية»، هكذا يتذكر مصدر يعرف جيدا ضابط الاستخبارات رجونيس. ويروي ذات المصدر بانه في مرحلة التدريبات، عندما كان يصل الى البيت مع رمال البحر على ملابسه وشعره كان يسأله ابناء عائلته: «يا ايال أين كنت؟ هل تذهب الى البحر في الليل؟» ولكنه ابقى على صمت صاخب. وعندما استدعى بوغي يعلون رجونيس للانضمام الى «سييرت متكال» كان خارج الجيش وعاد اليه برتبة رائد. وفي «السييرت» كانوا يتحدثون عن «الفترة حتى ايال والفترة من ايال». وكان التكيف في «السييرت» في البداية صعبا جدا على رجونيس. وفي مرحلة ما ذهب الى رئيس شعبة الاستخبارات في حينه أمنون ليبكن شاحك وطلب منه أن يترك المهمة وقال لشاحك انه في «السييرت» «يحطمون الناس»، ولكنه اقنع بالبقاء. وبعد أن فهم رجال «السييرت» قدراته، اعطوه يدا حرة وأصبح واحدا من الجماعة. وفي زمن الاستعدادات للعملية كان قائد «السييرت»، بوغي يعلون، يصل الى بيت رجونيس في السبوت وكان الرجلان يدرسان المادة معا. وكان ايال يقول لاخيه اون رجونيس (الذي كان لاحقا نائب رئيس شعبة القوى البشرية برتبة عميد وفي حينه كان برتبة عالية جدا في المظليين) أن يخرج من الغرفة ويغلق على نفسه عندها مع يعلون. وقبيل العملية عين ليف «استراتيجي» مهمته ليست فقط قيادة العملية في الميدان في الوقت الذي يوجد فيها قائد الوحدة في الخلفية بعض الشيء بل وايضا ان يعد خطة العملية وان يختار المشاركين فيها وفقا للمهام التي سيكلفهم بها. فترة التدريب على العملية في تونس اجترفت «سييرت متكال». فمدينة تونس تقع على خرائب كارتيغو القديمة، مدينة الفينيقيين الذين كانوا الاعداء الالداء للجمهورية الرومانية. والمسافة بين شاطيء تونس – كارتيغو وبين منزل ابو جهاد كانت 5 كم. ولهذا فقد تقرر اجراء تدريبات على العملية في الفيلل في رمات هشارون التي تقع على مسافة مشابهة عن شاطيء تل باروخ. ولغرض التدريب حصل أحد سكان البلدة على مفاتيح الفيلل التي سافر اصحابها الى خارج البلاد وكانوا مستعدين لتقديمها في صالح «السييرت». ومشكوك فيه أن يكون سكان الاحياء الفاخرة في رمات هشارون لاحظوا مقاتلي «السييرت» وهم يسترقون نحو الفيلل من الشاطيء المرة تلو الاخرى في اطار التدريبات. وحسب خطة العملية التي وضعها ناحوم ليف، كان يفترض أن يتخفى أحد المقاتلين في زي امرأة، وطلبوا منه على سبيل التجربة أن يتجول في احدى الامسيات كامرأة في المجمع التجاري ايالون. وقد نجحت التجربة ولعب في دور العشيق ناحوم ليف نفسه. في بداية العام 1988 قررت القيادة السياسية تأخير العملية في تونس، ولكن ليس لزمن طويل. وجاء الضوء الاخضر أخيرا بعد العملية في «باص الامهات»، قرب ديمونا في 8 مارس 1988. مخربون تسللوا من مصر سيطروا على باص كان يقل عاملات من وزارة الدفاع الى بحث نووي وقتلوا ثلاثة من مسافريه. وفي الغداة جرى نقاش حسم مصير الزعيم الفلسطيني ابو جهاد. وشارك في النقاش رئيس الوزراء اسحق شمير، وزير الدفاع اسحق رابين، وزير الخارجية شمعون بيرس، رئيس الاركان دان شمرون، نائبه ايهود باراك، رئيس شعبة الاستخبارات امنون ليبكن شاحك، مستشار رئيس الوزراء لشؤون الارهاب يغئال بارسلر، رئيس الموساد ناحوم ادموني ونائب شبتاي شفيت. وتلقى رجال «سييرت متكال» والكوماندو البحرية الامر بالاستعداد من جديد للعملية، وهذه المرة أعادوا تنفيذ تدريبات النموذج ولكنهم لم يضطروا الى تكرار مراحل التخطيط. والطريق الى تونس كانت طويلة ولكن البحر كان هادئا. وخرجت الى الرحلة خمس سفن صواريخ، وتوقفت حيال تونس في منتهى السبت – المساء الذي تقرر كموعد للاغتيال. تصفية ضرب أربعة وحسب المنشورات الاجنبية على مدى السنين، بدأت العملية عمليا قبل وصول قوات الجيش الاسرائيلي الى الشاطيء، عندما استأجر اثنان من رجال الموساد وعميلة ثالثة سيارات من نوع «فولسفاجن ترانسبورتر» من ثلاث شركات تأجير مختلفة في تونس. ومكثوا في المدينة بهوية لبنانية زائفة ودفعوا نقدا على كل واحدة من السيارات. ورست سفن سلاح البحرية الاسرائيلي بعيدا عن الشاطيء التونسي كي لا تترك علامة مشبوهة على شاشات الرادار. وحامت طائرات قتالية في السماء على مسافة عالية، جاهزة للهجوم اذا ما تطلب الامر تدخلها. وعلى سفينة صغيرة وقريبة نسبيا من الشاطيء وقف قائد قوة الانقاذ التي انتظرت المقاتلين لعودتهم من العملية. وبدأت العملية نفسها بنزول رجال الكوماندو البحرية الى الشاطىء في قوارب مطاطية. وكان الشاطىء هادئا ومقفرا. وحسب اشارة متفق عليها نزلت الى الشاطىء القوارب المطاطية التي أقلت رجال «سييرت متكال». وفي الشاطىء كانت بانتظار المقاتلين سيارات الترانسبورتر التي يقودها عملاء الموساد. وكانوا يعرفون المدينة جيدا، ونقلوا رجال «السييرت» في رحلة استغرقت عدة دقائق مباشرة الى فيلا ابو جهاد. نائب رئيس م.ت.ف كان لا يزال مستيقظا في الساعة الثانية قبل الفجر، عندما انتشر مقاتلو السييرت خارج فيلته بصمت، في أربع خلايا مختلفة. ناحوم ليف والمقاتل في زي امرأة كانا اول من توجه الى بيت ابو جهاد. تصفية الحارس كان اشارة الهجوم على البيت. كل خلية عرفت جيدا ما هي المهمة المخصصة لها في الهجوم. احدى الخلايا صفت جنائني كان في ساحة البيت، بينما مجموعة غير كبيرة من المقاتلين دخلت الفيلا، بعد أن اقتحمت الباب بواسطة معدات آلية حملتها معها. حارس آخر لابو جهاد قتل في اشتباك مع رجال «السييرت» في قبو الفيلا. انتصار الوزير (ام جهاد) زوجة ابو جهاد، التي تعيش اليوم في رام الله، روت لاحقا بانه عند الاقتحام كان ابو جهاد يجلس على الطاولة وعندها دفعها، نهض بسرعة وتناول مسدسه من الخزانة. «سألته: ماذا حصل؟ ماذا حصل؟ سمعت صوت اقتحام الباب من الاسفل وصراخ الناس. وعلى الفور فهمت ماذا حصل. صرخت لابو جهاد... ولم يتمكن من اجابتي. توجه الى باب غرفة النوم وأنا وراءه. كل شيء حصل في غضون ثوانٍ. رأيت أناسا ملثمين، لا تظهر منهم سوى العيون والشعر. ابو جهاد دفعني الى داخل غرفة النوم. أحد الاسرائيليين اقترب اليّه واطلق النار عليه من مسافة قريبة. ابو جهاد سقط. ذهبت اليه، انحنيت عليه وعانقته. احد الاسرائيليين وجه مسدسا الى ظهري وأبعدني الى الحائط. وقفت مع وجهي الى الحائط. كنت واثقة بانه سيطلق النار عليّ. الرجل الذي أطلق النار على ابو جهاز تنحى جانبا. احد ما ثالث اطلق النار على ابو جهاد، وعندها احد رابع جاء واطلق النار على ابو جهاد، ولكن في واقع الامر الجندي الاول كان قد قتله». المقاتل الذي كان اول من أطلق النار على ابو جهاد كان في حينه في العشرينيات من عمره ستكون له بعد ذلك امور عظيمة في جهاز الامن، وان كان لم يصل أبدا الى قيادة «سييرت متكال». بعد عدة ثوانٍ من ذلك هدأت النار في فيلا ابو جهاد، وفي شبكة الاتصال سمع صوت القائد يبلغ غرفة القيادة البحرية: «المدير وعماله الثلاثة في طريقهم الى عالم كله خير». وكان المعنى واضحا من ناحيتهم ومثلما زعم في الماضي، فان قائد «السييرت» يعلون كان هو الرجل الذي أكد بكلتا يديه مقتل ابو جهاد، بعد عدة دقائق من اقتحام غرفته. وأدت العملية في تونس الى منح ثلاثة من رجال «سييرت متكال» أوسمة بطولة من رئيس الاركان بينهم كان أيضا ناحوم ليف. بعد اشهر من التصفية كان ايال رجونيس في فرنسا وحل ضيفا لدى عائلة يهودية في وليمة السبت. وتدحرج الحديث وتبين بان تلك العائلة هي في الاصل من تونس، كانت تعيش في منطقة قريبة من حي فيلا ابو جهاد. والقى ايال الى الهواء: «آه، يوجد هناك كشك فلافل ممتاز». وفوجيء ابناء العائلة جدا. فقد اعتقدوا أنه هو ايضا قد يكون من أصل تونسي وسألوه: «كيف تعرف المكان؟» فأمسك ايال نفسه وقال: «ببساطة رووا لي بان هناك فلافل طيب جدا». مشكوك ان يكونوا صدقوه. هل يستحق الثمن؟ تصفية ابو جهاد كانت المرة الاولى التي تحاول فيها اسرائيل تغيير سياق التاريخ من خلال قتل زعيم عربي بارز. بعد ثلاث سنوات من ذلك قاد ايهود باراك كرئيس أركان حملة التصفية الجوية، شبه العفوية، لزعيم حزب الله عباس موسوي – الذي في موته خلف لنا حسن نصرالله الاسوأ منه. في ولاية نتنياهو الاولى كرئيس وزراء نفذت على أرض الاردن محاولة اغتيال فاشلة لرئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل. والمحاولة عظمت فقط مشعل وعززت مكانته. ولكن كانت ايضا تصفيات ناجحة في نظرة الى الوراء: في 1995 صفي في مالطا زعيم الجهاد الاسلامي الفلسطيني فتحي الشقاقي في عملية نسبت الى اسرائيل. اغتيال احمد ياسين (2005) وجه ضربة قاسية لحماس، وكذا الاغتيالات الاخرى لكبار رجالات حماس ساهمت بدورها في وقف العمليات الانتحارية في العقد الماضي. وماذا بالنسبة لتصفية ابو جهاد؟ بعد 25 سنة من التصفية مشكوك جدا أن تكون فيها منفعة لاسرائيل. فالعملية لم تدخل ابدا في اطار العمليات البطولية ل «سييرت متكال» مثل عملية «ربيع الشباب» في بيروت (1973)، التي استعاد ذكراها المشاركون فيها بحماسة المرة تلو الاخرى. اما عن العملية في تونس فيكاد لا يتحدثون. وزير الدفاع حديث العهد هو الاخر رفض تناولها هذا الاسبوع. احد قادة ال «سييرت» يقول: «صعب جدا القول ان العملية أثرت في شيء على سياق التاريخ. فهي بالاساس أثارت المناطق وحمست الانتفاضة. في العام 1988 أخذ الفلسطينيون انطباعا كبيرا عن قدرة اسرائيل في اطلاق أول قمر صناعي الى الفضاء بواسطة صاروخ شفيت مما من العملية التي بدت لهم جبانة بالذات وتنبع من عدم قدرة الجيش الاسرائيلي على مواجهة الانتفاضة في المناطق بوسائل عسكرية. كان لتصفية ابو جهاد تأثير أمني سلبي فقط، وهذا حتى قبل فحص الضرر الذي الحقته العملية باسرائيل على المستوى الدولي وفي العلاقات بعيدة المدى مع الفلسطينيين». عمود السحاب من جهة أخرى أشارت «يديعوت» إلى قصة اغتيال الجعبري (عملية عمود السحاب) التي بدأت بإعلان رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال بني غانتس «بدأنا»، وبعد دقائق معدودة فقط من إحراز صورة النصر، أي اغتيال المطلوب رقم 1، القيادي القسامي احمد الجعبري من الجو، خرج غانتس من الغرفة. وبحسب الصحيفة، فإن الجعبري (52 عاماَ) كان على رأس قائمة الاغتيالات في الجيش الإسرائيلي. ونقلت عن الرائد «ط»، المسؤول عن قسم «الإرهاب الفلسطيني» في وحدة جمع المعلومات «8200» التابعة لشعبة الاستخبارات، قوله: «استُعملت حوله جميع القدرات، تعلمنا أن نعرفه وان نفهم ما يفعله، وان نخنقه استخبارياً ببساطة». عموماً كان الجعبري منذ حوالي عامين «الهدف ذو التفضيل الأعلى». أو بحسب غانتس، كما قال في المدة الأخيرة، إنه «من الخطأ الأساسي أن نقول إن اغتيال الجعبري تم في ال14 من نونبر العام 2012. ففي ذلك الوقت نُفذ الاغتيال الفعلي نفسه فقط، لكنه كان مستهدفاً قبل ذلك بزمن طويل. وقد انتظرنا فقط الوقت المناسب والمصادقة». ووفقاً لتحقيق «يديعوت» فإن الذي «حافظ» على الجعبري حياً ومنع اغتياله، هو الجندي الإسرائيلي لدى حماس جلعاد شاليت، فقد اعتبرت إسرائيل الجعبري المسؤول عن اختطاف شاليت في 25 يونيو العام 2006، واحتجازه طوال خمس سنوات. وخلال تلك الفترة، امتنع الجيش عن المس بالجعبري خشية على حياة شاليت، لكن كان واضحاً أن حصانة القيادي في حماس ستزول منذ لحظة الإفراج عن الجندي الإسرائيلي. وبحسب الصحيفة فإن الجعبري كان يعلم انه يعيش في وقت مستقطع وتصرف على هذا الأساس. ويقول الرائد ط، «نجا في الماضي من اغتيال، كان شكاكاً وكان يعلم جيداً بأن الجيش الإسرائيلي يتعقبه. وتصرف كمطلوب على نحو قاطع فسكن عدة بيوت. ولم يسافر وحده في سيارة بل مع أشخاص اعتمد عليهم فقط. ولم يخرج لتناول الطعام في المطاعم بل جلب الطعام إلى بيته. واعتمد حقاً على حلقة ضيقة فقط من المساعدين المقربين. وقد علمنا انه حين يفعل أحد أولئك المقربين شيئاً ما، فإن ذلك يتصل بالجعبري». وفي يوم الأربعاء 14 نونبر العام 2012، قبل الساعة الرابعة بعد الظهر بخمس دقائق بالضبط، بلغ سباق تملص الجعبري نهايته. فقد أطلقت طائرة إسرائيلية النار على السيارة التي كان يستقلها في مركز مدينة غزة. ولقي الجعبري وسائقه مصرعيهما، وانطلقت عملية «عمود السحاب» إلى وجهتها. وكشف «ملحق السبت» التابع ل«يديعوت» للمرة الأولى عن الشبكة التي حيكت في الجيش الإسرائيلي والأذرع الاستخبارية حول الجعبري، وما حدث في ال48 ساعة الحاسمة التي سبقت اغتياله. الجسم الذي ركّز وحلل في السنوات الأخيرة كميات من المواد الاستخبارية، التي جمعتها أجهزة جمع المعلومات المختلفة عن الجعبري، هي الدائرة الفلسطينية في قسم البحث التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية «أمان». ويشرح المقدم زيف من قسم البحث أنه «لم يكن الجعبري فقط رئيس أركان حماس، بل كان أكثر من ذلك، كان في المنتصف بين المستوى العسكري للمنظمة والمستوى السياسي لها. وقد سيطر بشكل جيد جداً على الذراع العسكرية، لكنه كان ذا صلة أيضاً بالقيادة السياسية، فهاتان الذراعان لا تنفصلان عن بعض». ويضيف زيف «بدأت حركة حماس بعد السيطرة على قطاع غزة فوراً تقوية عناصر الحكم. وكان شعور حماس بأنها قادرة على القيام بالإدارة والإرهاب أيضاً. وحطمت عملية الرصاص المسكوب في العام 2008 هذا التصور، وبدأت الحركة تقوي المجال السياسي. ولاحظ الجعبري هذا التوجه، وبدأ يقترب من الجناح العسكري فبنى لنفسه تأثيراً كبيراً في الاتجاهين العسكري والسياسي». غير أن الزمن يفعل فعله، وأخذ الردع الإسرائيلي الذي حوفظ عليه منذ عملية «الرصاص المسكوب» يضعف. ويشرح أحد كبار المسؤولين في سلاح الجو «غدت جولات التصعيد في السنتين 2011 و2012 أكثر عنفاً من جهة كمية إطلاق الصواريخ ومداها والأهداف. أدركنا انه يجب علينا أن نحطم هذا الرسم البياني، وكان واضحاً أننا نتجه إلى عملية أساسها معركة جوية مهمة تضرب مخزونات القذائف الصاروخية ووسائل القتال. وعلمنا أيضاً أن إصابة محاور اتخاذ القرارات والقيادة تؤثر جداً في العدو، وعلى حسب ذلك تم التخطيط لعمود السحاب». ويشير هذا الضابط إلى أن «الجعبري كان مستهدفاً بشكل عام. وظهر اسمه في خطة أدراج عمود السحاب إلى جانب أسماء أخرى. وفي ال48 ساعة بين يوم الاثنين ويوم الأربعاء الذي بدأت فيه العملية، بُذلت جميع الجهود الاستخبارية للبحث عن فرصة اغتياله، أو اغتيال مسؤولين كبار آخرين»، والحديث كان يدور عن قادة ألوية في «كتائب القسام». ويقول المقدم زيف إنه «بحسب جولات التصعيد التي سبقت استقرار الرأي على عملية عمود السحاب، علمنا أن حماس تتجه إلى الإرهاب مرة أخرى، سألونا: كيف يمكن أن نفاجئ حماس؟ وكان اسم الجعبري منذ زمن على الطاولة». وفي تلك المرحلة عُرض على قسم البحث سؤالان وصل الجواب عنهما إلى طاولة رئيس الوزراء. السؤال الأول: كيف سترد حماس على اغتيال الجعبري؟ هل تطلق صواريخ على تل أبيب أم تستمر بالإطلاق إلى نفس المدى؟ والسؤال الثاني: كيف سيؤثر اغتيال الجعبري في حركة حماس على المدى البعيد؟ تكشف النقيب عدي، وهي أيضاً من قسم الأبحاث أنه «في الجواب عن السؤال الأول عرضنا عدة سيناريوهات رد محتملة من حماس شملت إطلاق صواريخ أيضاً على مركز الدولة. ومقابل تقدير قسم الأبحاث بأن اغتيال الجعبري قد يفضي إلى إطلاق الصواريخ على غوش دان، بحثوا في الجيش الإسرائيلي وفي المؤسسة الأمنية الكلفة في مقابل الفائدة. وكان الذي رجح كفة الاغتيال عملية القضاء على مخزونات القذائف الصاروخية بعيدة المدى لحماس التي خُطط لتنفيذها بعد اغتيال الجعبري فوراً، والاعتماد أيضاً على قدرات منظومة القبة الحديدية». ويقول المقدم زيف «إن جواب السؤال الثاني أكثر تعقيداً، صحيح أن الجعبري عامل مهم جداً في حركة حماس لكنها تستطيع تحمل غيابه. ومنذ اغتيال زعيم الحركة أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي الذي حل محله، أدركوا في حماس انه لا يمكن أن يكون كل شيء في يد إنسان واحد. وأصبحت البنية الحاكمة أشبه بهرم مقطوع الرأس ليس طرفه الأعلى شخصاً واحداً، بل أربعة أو خمسة من كبار المسؤولين. وكان الجعبري واحداً من أولئك الكبار إلى جانب أسماء مثل نزار عوض الله، ومحمود الزهار وخليل الحية. وبرغم ذلك، كان التقدير أن اغتياله سيسبب زعزعة شديدة في الحركة وشعوراً بالتغلغل الاستخباري، وتجديد الردع الذي ضاع بعد الرصاص المسكوب». ويوضح مسؤول كبير في هيئة الأركان، كان مطلعاً على سر التخطيط، أنه «لم نكن نفكر قبل الخروج إلى عمود السحاب ب48 ساعة، في أن خيار اغتيال الجعبري سيدخل اللعبة. حينما بدأ التداول في العملية، لم يظهر اسم الجعبري باعتباره هدفاً للعمليات. وقال رئيس الأركان: ثمة حاجة إلى ضربة افتتاحية»، في إشارة إلى عدد من كبار المسؤولين في الرتب الميدانية، وبمقدار ضئيل أي اثنين وثلاثة من كبار المسؤولين. واعتقدنا انه ستكون جولة تصعيد قوية كما في الماضي، وكان المنطق أن جميع رؤساء المنظمة سيكونون متحصنين عميقاً تحت الأرض. وحينذاك أُتيحت الفرصة الاستخبارية للوصول إلى الجعبري. وأعلن كل من أمان والشباك، أنهما قادران على فعل ذلك وانه يمكن حصد ثمرات عمل مجهد جداً استمر سنتين». وأوصى «الشاباك» بأن تكون ضربة بدء عملية عمود السحاب هي اغتيال الجعبري، والتزم بأن يقدم جميع المعلومات المطلوبة لإنشاء صورة استخبارية دقيقة كاملة تفضي إلى اغتياله الناجح مع أقل عدد من الإصابات، ومعلومات جُمعت لمدة سنين وأخرى تم الحصول عليها في وقتها الحقيقي. في المداولات المغلقة التي ظهر فيها للمرة الأولى اسم الجعبري في سياق عملية «عمود السحاب»، كان يجلس مع غانتس أيضاً رئيس «أمان» الجنرال أفيف كوخافي، ورئيس شعبة التخطيط الجنرال نمرود شيفر، ورئيس شعبة العمليات الجنرال يوآف هار إيفن، ورئيس فريق الجو في سلاح الجو العميد عميكام نوركين، ومتحدث الجيش الإسرائيلي العميد يوآف (بولي) مردخاي، ورئيس مكتب رئيس هيئة الأركان المقدم ييكي غولف. وكان قائد سلاح الجو، الجنرال أمير إيشل، في رحلة عمل إلى الولاياتالمتحدة. ويتذكر ذلك المسؤول الكبير، الذي شارك في المداولات، أنه «حينما وضع اسم الجعبري على الطاولة كان رد الفعل الغريزي لرئيس الأركان يقول بأن خطوة متقدمة إلى الأمام ولا يصح قتله. وقال وقتها: إن بداية كهذه لن تفضي إلى جولة (أخرى)، بل ستقودنا إلى مكان آخر». ويضيف المسؤول «لكنه برغم ذلك لم يُسرع إلى رفض هذا الاحتمال رفضاً باتاً. وكان واضحاً لجميع حضور المداولات أن الكلمة الأخيرة في هذا الشأن لم تُقل بعد». وخرج رئيس الأركان من المداولات ليتشاور على انفراد مع رئيس «الشباك» يورام كوهين، ومع قائد الجبهة الجنوبية تال روسو، ومع الجنرال أفيف كوخافي، آملا الحصول على أجوبة عن الأسئلة التالية، فهو «أراد أن يعلم ما هي النار التي سيشعلها هذا الاغتيال: هل سيقف الأمر عند العملية أم يفضي إلى احتلال غزة من جديد. وأجرى بعد ذلك مشاورات بهذا الشأن أيضاً مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع آنذاك إيهود باراك»، وفقاً للمسؤول. كان الضغط على رئيس الأركان من أجل العمل كبيراً جداً. وفي الأسبوعين الأخيرين انفجرت ثلاثة ألغام عند الأسلاك الشائكة الحدودية، وكان واضحاً انه لا يمكن الامتناع عن الخروج في عملية تعيد للجيش الإسرائيلي قدرة الردع. وقبل ذلك بأسبوع عرض رئيس الأركان على المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر خطة عملية اشتملت على إنجاز كبير في المرحلة الأولى، وعلى هجوم جوي بعد ذلك. وعُرض الإنجاز المخطط له في بدء العملية على المجلس الوزاري المصغر بصفة اغتيال، ولكن من دون ذكر اسم ما، فقد قيل في العرض على المجلس الوزاري المصغر إنهم «مسؤولون كبار من حماس». في فراش الجعبري في نهاية المشاورات، وبعد تلقي تقدير قسم البحث من «أمان» عن التأثيرات المحتملة للعملية، أصدر نتنياهو وباراك موافقة مبدئية على اغتيال الجعبري. أما قرار تنفيذ الاغتيال بالفعل، كما تقرر، فاتخذه رئيس الأركان فقط، وهو الذي يملك الصورة كاملة، أي استعداد القوات واستعداد بطاريات «القبة الحديدية»، واستعداد الجبهة الداخلية، ومعطيات حالة الجو وغير ذلك. واتخذ غانتس قراراً، وقال «سننتظر الجعبري يومين، إلى ظهر يوم الأربعاء، فإذا لم نجده حتى ذلك الحين فإن الأمر سيطول كثيراً. وفي هذه الحال سنبدأ العملية باغتيال اثنين أو ثلاثة من كبار المسؤولين برتب ميدانية». وفي مقر قيادة سلاح الجو في الكرياه في تل أبيب، كان يجلس رئيس فريق جوي هو العميد نوركين وهو الشخص الذي أدار في واقع الأمر عملية الاغتيال. وقد مكث في المقر 48 ساعة متصلة منذ تمت الموافقة على اغتيال الجعبري، وكان سيبقى هناك أيضاً في ال24 ساعة الأولى من «عمود السحاب». وفي مقر «الشاباك» فتحت غرفة عمليات خاصة للعملية مشغولة بالعاملين ل24 ساعة يومياً. ووجهت إلى غرفة العمليات كل المعلومات حيث نُقحت وحُللت هناك قبل أن تُنقل إلى متخذي القرارات. وتابع رئيس الأركان ما يجري من مكتبه في الطابق 14 في الكرياه مشغولاً بالموافقة على الخطط لاستمرار عملية «عمود السحاب» التي لم تبدأ بعد. وأضاء رئيس مكتبه المقدم دولف من أجله شاشتين بُثت عليهما الصور التي أُرسلت من الطائرة الاستخبارية، وهكذا كان باستطاعة غانتس رؤية البيت الذي يتواجد فيه الجعبري في الوقت المناسب، بحسب المعلومات الاستخبارية. وفي ذلك الوقت، كان نتنياهو وباراك في جولة على الحدود الشمالية وفي منطقة هضبة الجولان، كانت قد تقررت مسبقاً للوقوف من قريب على التطورات في الساحتين السورية واللبنانية. وتقرر في إطار صرف الانتباه، عدم إلغاء الجولة، ولم يتوجه الرجلان إلى البئر في تل أبيب، بل استمرا في جدول عملهما المعتاد. وبقي قائد سلاح الجو، الذي كان يفترض أن يدير عملية الاغتيال في الولاياتالمتحدة، بعدما طلب منه غانتس ذلك حتى لا تثير عودته العاجلة تساؤلات. بلغ التوتر ذروته في مقر قيادة سلاح الجو. «هدوء، وصمت، إن عيون الجميع مركزة على العميد نوركين»، قال أحد الحضور. وبحسب المسؤول الكبير، فإنه في حوالي الساعة الثالثة ظهراً كانت جميع الدلائل تُبين أننا بدأنا نصل إلى الهدف. وانحصرت المعلومات في البيت الذي تحلق فوقه الطائرة الاستخبارية والسيارة التي يفترض أن يدخلها الجعبري. وتمر الدقائق ولا ذكر للجعبري. وبدأت الأعصاب تتوتر أيضاً في مكتب رئيس الأركان. وقبل الساعة الرابعة ظهراً بخمس دقائق ظهر أشخاص على الشاشتين. كان الجعبري يخرج من المبنى ويدخل السيارة، وصادق الشاباك والعاملون في الوحدة 8200 على ذلك بقولهم: «هذا الجعبري. يوجد أدلة دامغة». ومن ثم أبلغ المقدم دولف رئيس هيئة الأركان والمسؤولين الكبار قربه في المكتب، قائلاً «خرج، لنُطبق عليه». ولم يتردد العميد نوركين في مقر القيادة الجوية فأمر بالعملية، قائلاً «نفذ». يُطلق الصاروخ وتصاب السيارة. وما يزال في مقر القيادة الجوية هدوء متوتر والعيون جميعاً مصوبة باتجاه الشاشات، من دون حتى صيحات ابتهاج، فالجميع ينتظر معلومات استخبارية عن الأرض. هل أصيب الجعبري حقا؟ وهل كانت تلك هي السيارة الصحيحة؟ وإن لم تكن كذلك، فهل هو موجود في سيارة أخرى ويجب اتخاذ قرار مهاجمتها أيضاً؟، بحسب ما يشرح المسؤول. وفي غضون دقائق معدودة سُلم الجواب، تم اغتيال رئيس أركان حماس أحمد الجعبري. وفي مقر قيادة سلاح الجو، وبعد الاغتيال بدقائق، لم يكن لدى العميد نوركين أي وقت للاحتفال، فهو يدرك أن إسرائيل ستتعرض بعد وقت قصير إلى هجوم صاروخي، وستفتح الملاجئ، وستُمتحن منظومات الدفاع الجوي أشد امتحان لها. فما كان منه إلا أن قال للطائرات الحربية، التي كانت أصلاً تنتظر في الجو، «دخلنا عمود السحاب. أخرجوا للقضاء على مخزونات صواريخ فجر بعيدة المدى»، بحسب ما ينقل المسؤول الكبير.