كلامه كلام عارف.. لأن كلامه كلام من يتحدث من داخل، أي من داخل ما يصنعه الواقع من حقيقة. وواصف منصور (الفلسطيني المغربي / المغربي الفلسطيني)، خبر الواقعين الفلسطيني والمغربي، مثلما لم يتحقق للكثيرين من أبناء المشرق العربي كله بجغرافياتنا المغربية، كون الرجل قد كانت له الإمكانية الذاتية والموضوعية (جرأته وكذا ما منحته طبيعة مسؤولياته الرسمية في السفارة الفلسطينية) لأن يلم بالواقع المغربي في كافة أبعاده، المجتمعية والسياسية والثقافية والفنية. بل وحتى أن يكون واحدا من أكثر العرب اليوم معرفة بجغرافية المغرب الطبيعية، اعتبارا لسفرياته الكثيرة من أقصى البلاد إلى أقصاها، وأنه ملم بالطقوس والعادات وخصوصيات المناطق قروية ومدينية، وكذا بتاريخها المحلي. بهذا المعنى فواصف منصور مرجع في التأريخ ليومي المغرب والمغاربة منذ سنة 1965 إلى اليوم. بهذه الخلفية المسنودة بتكوين معرفي ولغوي وسياسي تنظيمي ضمن حركة فتح الفلسطينية، يكتسب كتابه الجديد «بعض مني» الصادر ضمن منشورات جريدة «الإتحاد الإشتراكي» قوة الوثيقة التاريخية. لأنه يحكي قصة تغريبة فلسطينية لا نظائر لتوابلها في باقي جغرافيات السفر الفلسطيني المناضل من أجل حق الدولة والإستقلال والحرية بعاصمتها القدس. إن القراءة المتوالية لتفاصيل الكتاب (وهو مكتوب بلغة حكي شفيفة مغرية) تجعلنا نعيد اكتشاف «مغربيتنا» في العلاقة مع عمقنا العربي وفي المقدمة منه فلسطين، الشعب والمعنى، المبدأ والقضية. وليس تجنيا على الحقيقة، أن ذلك الإكتشاف يكاد يمنحنا نقطة التميز في باقي خرائط العرب والمسلمين، كون قضية فلسطين لم تكن قط موضع متاجرة أو مزايدة أو توظيف فئوي، عند كل الفاعلين المغاربة في الدولة والمجتمع، وأنها كانت فعليا على درجة «القضية الوطنية الأولى» عند المغربي. وأنه لم يكن ذلك الشعار الذي ظلت تصدح به الحناجر المغربية ولا تزال: «الصحراء مغربية وفلسطين عربية»، شعارا مناسباتيا، بل كان راسخا في اليقين الوطني المغربي، أن قداسة القضية هنا وهناك واحدة. كتاب «بعض مني»، هو أيضا سيرة سياسية للدكتور واصف منصور، على القدر نفسه الذي هو سيرة اجتماعية لأسرة وعائلة وثقافة سلوكية فلسطينية. ففي تفاصيل الحكي تكبر ملامح خصوصية أهل البلد في غزة ورام الله وحيفا، ويكتشف القارئ، كيف تتشكل العلائق وكيف تبنى المعاني الإجتماعية، ومعنى العائلة ومعنى الإنتماء لسلالة الدم، والمسافة بين الشمال الفلسطيني وجنوبه سلوكيا وثقافيا، وبين المدينة والبادية. ثم العلاقة السيامية بين ضفة فلسطين والضفة الأردنية (الضفة الغربية والضفة الشرقية)، ثم معنى العمق المصري الغزاوي في سيناء، وثقافة البدو الرحل، وكيفيات بناء المعاني عبر المؤسسات التعليمية، ومكانة المرأة في المجتمع الفلسطيني، ومعنى قرابة الدم التي لا تزال عالية كبوابة انتماء، ومعنى تشكل العائلة كبنية تراتبية موسعة إلى اليوم، خاصة في قطاع غزة وفي مخيماتها المتعددة. ثم كيف تشكل الوعي الوطني الفلسطيني سياسيا وجمعويا وأدبيا، وكيف ولدت البندقية الحرة لصناعة القرار الفلسطيني الحر المستقل، وكيف عبرت من امتحانات عجلون وتل الزعتر وبيروت وطرابلس وتونس، والعودة عبر الإنتفاضة الخالدة الأولى والثانية والثالثة.. وفي الطريق تلك نكتشف تفاصيل عن شخصيات فلسطينية وازنة مثل أبوجهاد وأبو إياد وياسر عرفات وأبو مازن والشيخ ياسين، وكيف أن قوتهم ليست في الزعامة بل في الإمتداد الجماهيري المؤثر.. كتاب «بعض مني» هو أيضا شئ آخر. إنه بوابة لنطل على تفاصيل تاريخنا المغربي الحديث، في علاقته بفلسطين، القضية والشعب والناس والثقافة والأدب. وقوة شهادة الدكتور واصف منصور هنا، أنها آتية من ما يوصف بعبارة أنها صادرة من «قلب الحدث». فالرجل مطلع على التفاصيل والوقائع، وفي الكثير منها كان من صناعها. من هنا قيمة وأهمية ما باح به من تفاصيل مغربية، تمنحه عاليا أن يكون «المغربي الفلسطيني» منا وإلينا. بل وأن يصاعد ذلك الوجود الشخصي من خلال استقراره لأكثر من 45 سنة في المغرب، وأن يتزوج سيدة مغربية فاضلة من سلك القضاء المغربي، الأستاذة الباتول الناصري الغمارية (شقيقة الأستاذ المرحوم محمد الناصري وزير العدل السابق)، التي جعلت أن علاقتي بالصديق الدكتور واصف منصور ليست فقط علاقة أخوية عميقة منذ أكثر من 25 سنة، بل هي أيضا علاقة عائلية كوننا معا نرتبط بعلاقة مصاهرة مع عائلات الناصريين الغماريين بالزاوية الناصرية قرب مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء. فزوجتي وزوجته بنات أعمام من فخدة الغماريين الناصريين، التي هي واحدة من أربع فخدات تفرعت عن تلك الزاوية. وفي حكيه المغربي ليس فقط نكتشف حقيقة التضامن الشعبي المغربي مع القضية العادلة للشعب الفلسطيني، بل نكتشف جغرافيات ثقافية مغربية برؤية مختلفة أعلت من قيمة الكثير من منجزنا المغربي سلوكيا، كثيرا ما نعبر جواره دون أن نعيره ما يستحق من اهتمام. بمعنى آخر، لقد منحتنا شهادة وكتابة واصف منصور أن نعيد تمثل ذواتنا وأن نعيد اكتشاف معان منا وإلينا تترجم ثقافة سلوكية مغربية لا نظائر إليها في باقي الجغرافيات العربية الإسلامية. ومن هنا متعة القراءة المزدوجة لكتاب جميل وقيم مثل كتاب «بعض مني». وفي مكان ما، لا يتردد المرء أن يشكر القدر أن نسج علاقة إنسانية ونضالية وثقافية بين المغرب ورجل مثل واصف منصور، وأن نشكره كذلك أنه امتلك مكرمة أن يلقح تلك العلاقات بالجميل من الفعل وبالصادق من المواقف وبالجريئ من الإعتراف.