«شيدنا حياتنا ولا أحد يستطيع سرقتها منا. وبناتنا؟ حفيداتنا؟ في حالة سيطرة تجار الدين على قيادة تونس، فستضيع حياتهن. كان بإمكاني مغادرة البلاد، الذهاب للعيش في مكان آخر. ربما أنا بليدة، أو مثالية أكثر من اللازم، لكنني لن أتركهم يفسدون حياة طفلاتي. يزعمون أنهم مسلمون، لكن ما الذي يعرفونه من الإسلام؟ أنا التي لم أكن أحب السياسة، انخرطت في الحركة عبر تأسيس حركة مواطنة. لم أكن أحب المواجهة، لكنني ولجت الساحة. لا يمكنهم أن يفوزوا، لا يجب أن ينتصروا. قررت الإقدام على كل شيء لتجنب هذا. وسأحمل السلاح إذا استلزم الأمر ذلك». هي شهادة مؤثرة لمحامية تونسية ملتزمة، منذ اندلاع الربيع العربي، في رحم كفاح تاريخي ضد الهيمنة الإسلامية على وطنها. مثلما هو مديح للحرية والعلمانية هذا الكتاب الذي نشرته، منذ أسابيع قليلة، المحامية والفاعلة الاجتماعية التونسية دليلة بن مبارك مصدق. يحمل الكتاب، الصادر عن منشورات "بريس دو لا رونيسونس" الفرنسية والذي ساهمت في صياغته الصحفية فاليري أورمان، عنوان "سأحمل السلاح إذا اقتضى الأمر ذلك: تونس، كفاحي من أجل الحرية". وتقدم "الاتحاد الاشتراكي"، ضمن هذه السلسلة اليومية، عرضا مستفيضا لمضامينه. تستهل دليلة بن مبارك مصدق كتابها بأقدم ذكرى عالقة في ذهنها إلى حد الآن. وهي في الثالثة من العمر، ثمة رجل شرطة يمنع أمها من إغلاق باب المنزل العائلي، يرغد ويزبد وهو يأمر الوالدة بفتح الباب بمبرر اختباء رجل مبحوث عنه في الداخل. "ليست هذه مشكلتي. لن تلج البيت بدون أمر رسمي"، تجيب الأم بصوت جليدي نقش منذ ذاك في ذاكرة الصغيرة، بينما تبخرت بقية التفاصيل. الصورة الثانية التي تستحضرها المحامية تعود إلى ربيعها الرابع. كانت رفقة أمها وأخيها الأكبر جوهر داخل السيارة. خالت، حينها، أنهم مسافرون إلى فرنسا وبدت لها الطريق طويلة أكثر من المحتمل. وصلوا إلى "برج الرومي"، سجن مدينة بيزرت حيث يقبع المعتقلون السياسيون والذي ظل يعتبر أفظع معتقلات عهدي بورقيبة وبن علي إلى حين إغلاقه في يونيو 2012 وتحويله إلى متحف. وهناك، سترى والدها بعد غياب له دام سنة كاملة وستقابله من خلف القضبان. أرعب الفضاء الصغيرة، أرعبتها جدرانه المتعفنة. أرادت، بكل ما أوتيت من قوة إصرار تركه. صاحت بأعلى صوتها: "لا أحب فرنسا!" لاحقا ستعرف دليلة أن والدها، عز الدين حزگي، رجل التعليم، كان معتقلا بسبب انتمائه لحركة "بدائل" اليسارية المعارضة لبورقيبة، المجموعة التي تعرضت لقمع شرس منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، ثم أقبرت في منتصف السبعينيات. كان الوالدان قد استقبلا في بيتهما رسام الكاريكاتور، مصطفى مرشاوي، الذي كان ينشر رسومه الساخرة سريا والذي يعيش اليوم في فرنسا، وقد حكت الوالدة، بهية الزواري، لابنتها كيف ساعدت المبحوث عنه على الفرار حيث جعلته يضع ملابسها ليعتقده المخبرون امرأة، وهو ما سمح له بالنجاة والاستقرار في فرنسا كلاجئ. رد السلطات على "الخدعة" كان، بالطبع، قاسيا، إذ اعتقلت الأم شهرين اثنين، بينما قضى الأب ست سنوات ونصف في السجن. طوال مدة سجن الوالد، تروي الكاتبة، ستتدبر الأسرة الصغيرة أمورها كما اتفق، معتمدة على مداخيل صالون الحلاقة الذي تملكه الوالدة وسط مدينة صفاقس. وحدث، أيامها، أن زورت مديرة المدرسة الابتدائية، حيث كان يدرس الطفلان، نتائجهما لكي يرسبا، انتقاما من عدم خنوع الوالد للنظام، لكن الأم ستحتج بقوة وتطرق كل الأبواب، بما في ذلك، أبواب وزارة التعليم، ليرفع الظلم عن الطفلين ولا يضيعا سنة دراسية. رغم إيمانها العميق، لم تكن بهية الزواري تمارس الشعائر الدينية، وقد فسرت موقفها لابنتها قائلة: "لم أمس أحدا بسوء. أحب الله والله يحبني"، وهي ذات المقاربة الشخصية للإسلام التي تصرح دليلة بن مبارك مصدق أنها ورثتها من الأم . في التاسعة من العمر، وبمناسبة إطلاق سراح الوالد، ستعي الفتاة أنه تعرض للسجن بسبب أفكاره المعارضة للرئيس. غادر عز الدين حزگي المعتقل مصابا بقرحة في المعدة، مما جعل نوبات الألم تلازمه، خاصة مع عدم توفر العلاج الملائم. أضف إلى ذلك أنه بقي عاطلا عن العمل بعد فصله من أسلاك التعليم وبفعل سوابقه السياسية! وكلما كانت اليافعة تتقدم في العمر، كلما كان يزداد حقدها على الأب: "كيف ضحى بأسرته؟ كيف حرمنا، جوهر وأنا، من طفولة "طبيعية"؟ (...) كنت انتقده بسبب عدم توفري على ما يكفي من النقود، عدم تمتعي بالتدليل، ممارستي الإجبارية لبيع الجرائد في الثانية عشرة من العمر لمساعدة الوالدة على اقتناء الدفاتر أو حذاء. كان الوحيد الذي يجب انتقاده بسبب سنوات غيابه. كان قد خاننا في اعتقادي". لاحقا، ستقتني الوالدة صالون حلاقة جديد وتترك الأول للأب، ليحوله إلى مقهى اقتنى له اسم "المغارة" وجعله ملتقى للنقاش السياسي والنضالي. كل يوم، كان مخبر يحضر إلى المقهى لمراقبة الأب وصياغة التقارير. وكل يوم، كان عز الدين يجلس قرب المخبر ويقول له: "اكتب أن الصحافة غير حرة في هذا البلد! أريد أن يعرف رئيسك ما يفكر فيه الناس هنا". وبينما كانت السلطات تقرر إغلاق المقهى كل شهرين أو ثلاثة أشهر، كانت "المغارة" قد تحولت إلى أول مقهى يرتاده الرجال والنساء معا في صفاقس، ولكي تقنع الأخريات بأهمية الاختلاط، كانت الوالدة تتناول وجبة الفطور في المقهى بين الفينة والأخرى. ومن بين الوجوه التي ولجت السياسة عبر بوابة "المغارة"، ذكرت الكاتبة مية الجريبي، اليسارية الحداثية التي تشغل اليوم عضوية المجلس التأسيسي. في 1989، سيقدم عز الدين حزگي على مبادرة غير مسبوقة في تاريخ تونس زين العابدين بن علي، إذ سيرشح نفسه ضده خلال الرئاسيات. هكذا، وبينما تنازلت كل الأحزاب على منافسة الرئيس القوي، انتظر والد المحامية اليوم الأخير لتقديم ترشيحه، وهو ما اعتبره النظام استفزازا خطيرا، خاصة وأن بن علي لم يضع ترشيحه رسميا وفق المساطر المعمول بها! مساندا من طرف لجنة مكونة من أصدقائه، طعن الوالد في شرعية ترشيح الرئيس، وهي سابقة أيضا أصبحت تدرس اليوم في كليات القانون الدستوري. وتروي دليلة أن مجموعة من القانونيين الأمريكيين استدعوا أباها لزيارة الولاياتالمتحدة قصد عرض تجربته هذه، لكنه رفض الدعوة لأنه لم يكن يرغب في الاستئساد بالخارج في مواجهة بلاده. هذا السلوك دفع رجل شرطة إلى كشف السر التالي للوالد: "لقد أعجب بن علي بالموقف وقال إنك الوطني الوحيد في البلد!" تؤكد الكاتبة أنها لا تعلم مدى صدقية اعتراف الشرطي، لكنها تضيف أنه لم يتعرض للاعتقال ولا للتضييق بعد تلك الواقعة. تعترف دليلة بن مبارك أنها لم تكن تعير أدنى اهتمام، أيامها للسياسة وللسياسيين، ولا لمبادرات والدها السياسية: "ما مبرر هذه الاستعراضات للشجاعة التي لم يسبق لها أن غيرت أي شيء في حياة الناس؟ السياسة لم تكن، بالنسبة لي، سوى دوغمائية عاجزة، لم تكن تعدني بأي شيء غير الانعزال". ظلت المحامية على هذا الحال طوال خمس وعشرين سنة، تقصي الساسة والانتماء للفعل السياسي من دائرة اهتمامها، إلى أن اندلعت الثورة. لم تكن تناقش القضايا السياسية مع والدها اليساري، بل تكتفي بتبادل الرأي معه حول الدين والنزعة النسائية والأدب. وهو يدير اليوم مكتبة صغيرة وينشر قصصا للأطفال. ورغم إقصائها للفعل السياسي من حياتها، تقر دليلة بن مبارك مصدق أنها ظلت متشبثة بحريتها، ما جعلها تقدم "خطيبها" الأول لأفراد أسرتها مبكرا جدا: "رياضي شاب لم أحبه فعلا، لكنه كان يدللني عبر هداياه. (...)كنت أمارس شفافية مضللة لكي أحمي نفسي من الأقاويل في مدينة محافظة، تعتبر المواضعات الاجتماعية والسمعة أمورا جدية. وبالطبع، لم يكن ثمة مجال للعلاقات الجنسية". وعلى مستوى آخر، ورغم رفضها المطلق للفعل النضالي الجماعي، فإن دليلة بن مبارك تكتب أنها انخرطت في "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" في سن السادسة عشرة: "قليلا من أجل المظاهر -كنت أصغر منخرطة-، وقليلا من أجل الانتماء لمجموعة، وقليلا من أجل أمي لأنها كانت امرأة متحررة في عالم لم يكن كذلك". لكن نقاشات الجمعية المملة ستدفعها إلى مغادرة صفوفها، لتتعاطف، وهي في الجامعة، مع الاتحاد العام لطلبة تونس، وتحضر تظاهرات نادرة نظمتها النقابة الطلابية. أما الانتماء الحزبي، فأمر لم يخطر حقبتها على بال الكاتبة. وعلى عكس أخته التي يكبرها بعام واحد، فقد كان جوهر مهووسا بالنضال، بل إنه تحدى حظر التجول المعلن بمناسبة انتفاضة الخبز في 1984 وكاد يفقد حياته جراء الإصابة برصاصة طائشة. كما أنه قاد حركة احتجاجية تلاميذية خلال سنته الدراسية الأخيرة في الثانوية، دعما لنضالات نقابة الشغيلة التونسية، وبمجرد التحاقه بالجامعة، في 1987، نظم تجمعا خطابيا ضد بن علي و"انقلابه الفاشي" الذي أطاح ببورقيبة. ونظرا للرصيد النضالي الذي راكمه، فقد انتبه إلى بطاقته "الاتحاد العام لطلبة تونس" وانتخبه عضوا في مكتبه التنفيذي سنة 1988، كما أنه التحق بنقابة الأساتذة الجامعيين بمجرد تخرجه. بالطبع، لم تكن نضالات الأخ تهم الأخت في شيء حينها، التي ستلتحق، بعد الحصول على شهادة الباكالوريا، ودون اقتناع، بكلية الحقوق لأن مدخول الأسرة لم يكن يسمح لها بمتابعة دراستها في فرنسا، ورغم هذا، تؤكد الكاتبة أنها شغفت بالدراسة في كلية الحقوق بالعاصمة تونس نظرا لأساتذتها المرموقين. في عامها الواحد والعشرين، ستقدم دليلة على الزواج من المهدي، الشاب المتشبع بالإيمان، التقليدي ومؤذن الجامعة. حين ستجتاز الكاتبة امتحانات الدراسة المعمقة، ستكون ابنتها، نادية، في ربيعها الأول. غير أن تحول زوجها من الانفتاح إلى التشدد حول سلوكها اليومي، سيفرض عليه ترك الجمل وما حمل سنة بعد ذلك: "لما فررت من بيت الزوجية، استقبلني (جيلبير النقاش، التونسي اليهودي المنتمي لليسار الجديد والمتزوج بمسلمة) في منزله، مما جعل والدي يخاصمه. وحين قررت الطلاق، لم أتفاوض حول شيء، تركت كل شيء لزوجي، البيت والأثاث. ذهبت إلى المنزل في الخامسة صباحا، حزمت حقيبتي وأخذت ابنتي نادية، البالغة من العمر ثلاث سنوات، معي"، وهو السلوك الذي أغضب الوالد وجعله يقطع كل علاقة مع ابنته طوال مدة غير يسيرة. لم تتردد دليلة بن مبارك مصدق في قبول أول فرصة شغل سنحت لها، رغم عدم ملاءمتها لتكوينها القانوني: بيع فضاءات العرض لصالح شركة لتنظيم المعارض التجارية. وهي تقول في كتابها إنها فعلت ذلك للحصول على راتب يبلغ 400 دينار شهريا بهدف تحقيق أمنيتها المتمثلة في السكن في منطقة المرسى، الضاحية الشمالية الراقية للعاصمة تونس. ورغ ارتفاع ثمن الكراء، ومصاريف مربية ابنتها الصغيرة، ظلت الكاتبة مصرة على عدم طلب المساعدة من أحد، لكي لا يفرض عليها الغير طريقة عيشها. وفي تلك الحقبة بالذات، ستسقط، وفق تعبيرها، في أحضان زوجها الثاني محمد الذي تقدمه ك"نقيض تام لزوجي الأول". هذا الرجل، الودود، المنفتح، المثقف والاجتماعي، راقص كلاسيكي محترف أنشأ مدرسة للرقص في القرية السياحية سيدي بوسعيد، القريبة من المرسى. "عشنا معا ثلاث سنوات قبل الزواج، وهو لا يعير المواضعات الاجتماعية ولا الموافقة العائلية أدنى اعتبار، مثلي تماما. والدتي تبنته منذ اللحظة الأولى: إنه الرجل المناسب لك". لا سياسة إطلاقا رفقة محمد، تؤكد الكاتبة، ولا أنشطة سياسية. وإلى جانبه، تضيف "اكتشفت الأوساط الفنية وارتقيت في السلم الاجتماعي لبورجوازية تونس العاصمة". وفي دجنبر 1999، سيرزق الزوجان بالتوأم غالية وكنزة، لتصبح دليلة "امرأة كاملة، فرحة"، تحب "الترفيه عن النفس" وتنظم حفلات العشاء لأنها كانت تبتغي أن يكون منزلها "مفتوحا في وجه الجميع، يؤثثه حسن الترحيب وتملؤه الحياة". وأخيرا، أعلن الوالد الصلح مع ابنته التي دأبت على إحياء جميع المناسبات، مثل جدة تقليدية، لتبرر بها دعوة جميع أفراد العائلة للقاء، علما أن اتفاقا ضمنيا أصبح ساري المفعول بين الطرفين: "لم يكن له الحق في التدخل في حياتي، ولم أكن أتدخل في حياته". كما أن إحياء الأعياد الدينية لم يكن، بالنسبة للكاتبة، ذو حمولة دينية، بل متسما بمذاق السعادة. "دفنت والدتي في نونبر 1998. توفيت جراء حادثة سير. كان الوالد يقود السيارة. ظننت أن الحزن سيقتله. سجن نفسه حيا، في منزله بصفاقس. أخذت منه النحافة مأخذها، عادت قرحته القديمة توقد النار مجددا في أحشائه. كانت أمي حب حياته (...) نجحت، عقب مجهودات جبارة، في إقناع الوالد بالانتقال قربي، إلى المرسى، حيث وفرت له بيتا صغيرا. تآمرت العائلة برمتها، بما في ذلك أنا، لكي يتزوج من جديد حتى لا يترك نفسه يحتضر. وقد عقد قرانه الثاني مع ابنة عم والدتي التي تشبهها كثيرا". في 2001، ستفتح دليلة بن مبارك مكتب محاماة، بعد أن درست القانون، مقررة أن تتخصص في مجالي القانون الاجتماعي وقانون الشغل. عرف مكتب المحامية الجديدة نجاحا باهرا، كما أن صديقات سابقات لها طلبن منها العودة إلى جمعية النساء الديمقراطيات قصد التطوع أمام المحاكم للترافع في قضايا العنف الأسري. "دافعت عن أختين ضحيتين لزنا المحارم، تبلغان من السن السادسة والثامنة. شرحت الكبرى أن والدها كان يمنحها حلوى مثلجة كلما تحرش بها. "لماذا قررت، في النهاية، التبليغ عنه؟" سألتها، فشرحت قائلة: "في ذلك اليوم، اقتنى والدي حلوى مثلجة لأختي الصغرى." لم أستطع تحمل الأمر. سكنتني الأختان طوال أسابيع مثل كابوس، فتخليت عن الجمعية". طوال تلك الحقبة، تعترف دليلة، نعمت بالحياة ورغد العيش، واعتنت بمظهرها، كما سافرت كثيرا بمفردها في أغلب الأحيان لحضور ندوات قانونية أو لقاءات للمحامين. زارت فرنسا وسويسرا وألمانيا، شعرت بالراحة في لبنان بفضل تعايش الحرارة الشرقية مع الحرية الغربية في بلد الأرز، كما وجدت الأردن سقيما ومصر خالية من كل شروط العيش، لكنها لم تفكر إطلاقا في الاستقرار خارج تونس. «في ظل حكم بن علي، شرعت أحيا حين تعلمت صد الطرف عما كان يزعجني. الانخراط سياسيا والمقاومة كانا يعنيان الكفاح في غياب أية قاعدة. يناضل الواحد سنوات عديدة، لكنه يتعرض، في يوم ما، إلى الاعتقال بتهمة المتاجرة في المخدرات أو أية تهمة أخرى مفبركة. وبفعل مهنتي، كنت انضبط لقرارات الإضراب التي تقررها الهيئة، لكنني لم أكن أورط نفسي وأكتفي بمتابعة الحركة الاحتجاجية من بعيد. كنت أبدو للآخرين نائية ومحايدة". مرتان فقط ستنخرط دليلة في فعل نضالي: بمناسبة التنديد بالمحاكمة غير العادلة التي كان ضحيتها المحامي محمد عبو بسبب نقده للرئيس بن علي واتهامه العدالة بالارتشاء (2005)، واعتصامات 2007 أمام محكمة تونس العاصمة حيث كلفت بنقل الأسرة والأغطية للمعتصمين. "كنت أردد دائما لنفسي: لا أريد الذهاب إلى السجن ولا التعرض للتنكيل جسديا. كنت متشبثة أكثر من اللازم بحياتي، بطمأنينتي. كنت قد بلغت، بفعل زواجي وعملي، الراحة ماديا. لم يكن المال مهما في حد ذاته، لكنه مفتاح مستقبل طفلاتي، ولذا كنت أتشبث به." ورغم كل الفضائح المقترفة من طرف عشيرة بن علي وآل زوجته ليلى الطرابلسي في معقلهم بمنطقة المرسى، والتي كانت المحامية شاهدة عليها، فقد تمسكت بالبحث عن كل المبررات لإخماد شعورها بالذنب، خاصة وهي سليلة أسرة مناضلة. اقتنت قطعة أرض لبناء فيلا أحلامها التي سترثها بناتها الثلاثة، إذن، وكتمت تناقضاتها الداخلية التي دفعتها إلى الصمت عن القمع والتسلط والاغتناء غير المشروع. لكن شابا يدعى محمد البوعزيزي سيفرض عليها، انطلاقا من 17 دجنبر 2010، طي صفحة اللامبالاة والتقوقع على الذات والأسرة للانخراط في أفق الثورة التي جسد شرارتها.