يُعتبر «أوليفييه روا» المتخرج من «المعهد الوطني الفرنسي للغات و الحضارات الشرقية» و مدير الدراسات في «مدرسة الدراسات العليا و العلوم الاجتماعية»، واحدا من كبار المتخصصين في الإسلام السياسي و في الحركات الأصولية. و في هذا الإطار ألف العديد من الكتب حول الموضوع لعل آخرها «آسيا الوسطى المعاصرة « و «العلمانية في مواجهة الإسلام». في هذا المقال الذي نشره في صحيفة «لوموند» الفرنسية الرصينة، و الذي عملنا على ترجمته تعميما للفائدة، يكشف «أوليفييه روا» عن أنه بخوضها «الحرب ضد الإرهابيين الإسلاميين» في مالي ، تفتقر فرنسا إلى مُقاربة سياسية للنزاع، مما يجعل من استراتيجيتها لتدمير الشبكة الإرهابية بالمنطقة أمرا سخيفا. «أوليفييه روا» الأهداف الرسمية للحرب الفرنسية بمالي هي محاربة «الإرهاب الإسلامي» و إقرار الوحدة الترابية بمالي. لكن المشكل هو معرفة العلاقة بين هذين الهدفين: فهل الوحدة الترابية لمالي مهددة من طرف «الإرهاب الإسلامي»؟ هذا يتوقف على تعريفنا ل»الإرهاب الإسلامي» و نحن نرى أننا لم نخرج عن الالتباس السيمانطيقي و السياسي لإدارة بوش حين رفعت شعار «محاربة الإرهاب» بعد 11 سبتمبر. فتحت مسمى «الإرهاب الإسلامي» نضع أي شيء: القاعدة بالطبع، و لكن أيضا بعض الأحزاب الوطنية، مثل حماس الفلسطينية، و الحركات المحلية الراغبة في تطبيق الشريعة مثل طالبان الأفغانية أو أنصار الدين المالية،بل أي مجموعة دينية تتحدث عن الشريعة الإسلامية. و الواقع أن هذا الالتباس يعوق وضع استراتيجية واضحة و طويلة المدى، لأنه لا يسمح بالتمييز بين فاعلين ذوي مشروعية يمكن التفاوض معهم و لو كانوا معارضين للغرب و بين إرهابيين هدفهم الوحيد هو المواجهة و الذين لا يملكون أي قاعدة اجتماعية. والوحدة الترابية لمالي مهددة أولا و قبل كل شيء من طرف حركات الطوارق في شمال البلاد، التي تعتبر، عن صواب أو عن خطأ ، بأن الحكومات المالية لا تأخذها بعين الاعتبار، و أنها لا تحفل إلا بزنوج الجنوب. و يتعلق الأمر هنا بمطالب قديمة تعود إلى أكثر من ثلاثين سنة. فالطوارق، و هم أقلية حاضرة فوق مساحة كبرى على الحدود بين شمال إفريقيا العربي و بين الجنوب الزنجي، يعتبرون أنفسهم ضحايا هذا التقسيم الكولونيالي و لذلك فهم يتظاهرون في التشاد و مالي و النيجر بل حتى في الجزائر و ليبيا منذ عقود.و لأنهم استُبعدوا من السلطة فقد وجدوا في التهريب عبر الحدود موارد اقتصادية جديدة. و بفضل تقاليدهم القتالية فقد استغلوا النزاعات الإقليمية (بما فيها الثورة الليبية) كي يتسلحوا، و أخيرا بدا اللجوء إلى المرجعية الإسلامية بالنسبة لبعضهم كما لو أنه حمل لرسالة كونية تتجاوز هويتهم القبلية، و تُمكنهم من إيجاد حلفاء ضمن الساكنة الزنجية بالمنطقة. بيد أن مسألة الطوارق تدخل في نطاق التوترات الإثنية-الوطنية، وليس في نطاق الإسلام السياسي.و هذا المشكل لا يمكن حله إلا من خلال تفاوض سياسي يهدف إلى اقتسام أكثر عدلا للسلطة. و لإعادة الوحدة الترابية لمالي، ينبغي توفر دولة مالية مركزية، قوية و مُعترف بها، و هو الأمر غير الموجود حاليا. لهذا فإن الخطورة هي أن التدخل الفرنسي، عوض أن يُقر دولة للجميع، يمنح السلطة لفصيل لا يريد اقتسامها مع الآخرين، و بذلك تتفاقم التوترات الإثنية. أما المشكل الثاني ، و الذي يتجاوز مالي، و هو التطرف الديني لحركات هي في الأصل حركات إثنية. فالطوارق كانوا ممثلين بحركات علمانية إلى حد ما? مثل الحركة الوطنية لتحرير الأزاواد ? لكن هذه الحركات تجد نفسها حاليا موضع تنافس مع حركات سلفية وتنحدر من الطوارق، مثل «أنصار الدين» التي تضع تطبيق الشريعة و تكوين إمارة إسلامية في مقدمة أولوياتها و هي تسيطر فعلا على المناطق التي تطالب بها الحركات العلمانية. و هذه ظاهرة تتكرر في العالم الإسلامي منذ الثمانينات من القرن الماضي: المجاهدون الأفغان تبعهم طالبان، و حماس الفلسطينية و حزب الله اللبناني مثلا يجسدان أسلمة المطالب الوطنية أو الإقليمية. و الغريب في الأمر، هو أنه في المناطق القبلية ? أفغانستان، باكستان، اليمن و مالي ? يقع هذا التحول من حركات إقليمية إلى حركات دينية سلفية بشكل كبير. فمطلب الاستقلال الذاتي أو الإثني يترافق مع رغبة في إقامة «إمارة إسلامية»، و النموذج الواضح هو ما وقع في جنوبأفغانستان حيث اختار المجتمع القبلي ( الباشتون) كتعبير عن هويته الإثنية حركة دينية هي الطالبان. ربما بسبب قدرة المرجعية الإسلامية (الشريعة) على تجاوز الخلافات القبلية دون إسقاط النظام القبلي برمته.و هذه ظاهرة قديمة من أجل حشد القبائل - سواء عند المهدية السودانية سنة 1880 أو خلال حرب الريف من 1920 حتى 1925 - لذلك فإن وضع هذه الحركات في خانة «الإرهاب الإسلامي» يبدو سخيفا و خطيرا في نفس الآن. و الانشقاق الذي حصل داخل حركة أنصار الدين بين التيار السلفي و التيار الطوارقي في 24 يناير 2013،مؤشر واضح على أن هذا الثلاثي (الشريعة، التحالف القبلي، المطلب الإثني-الوطني)يمكن إعادة ترتيبه بشكل متنوع حول واحد من هذه العناصر الثلاثة. ما دور القاعدة في كل هذا؟ ليس هناك من جديد في تحركات «القاعدة في المغرب الإسلامي» أو «حركة التوحيد و العدالة» أو أي مجموعة جهادية أممية صغيرة تتطور على سجيتها في الساحل. إن المجموعات المرتبطة بالقاعدة هي مجموعات من الرحل تتنقل في الفضاء العام: فهي ليست منغرسة في المجتمعات التي تنشط داخلها و هي تجمع «آفاقيين» مُنعدمي الجذور من أصول أجنبية في الغالب و بالتالي فهي شديدة التحرك إضافة إلى قلة عددها. و الصورة نفسها منذ عشرين سنة تقريبا : القاعدة تتكون من جهاديين دوليين و لا تعبر أبدا عن حركة اجتماعية أو سياسية محلية. و هو ما يتضح في المجموعة التي هاجمت المركب الغازي الجزائري لعين أمناس: أناس من أصول مختلفة و أجناس متنوعة و من ضمنهم من اعتنق الإسلام حديثا. فقاعدة المغرب الإسلامي ليس لها انغراس سوسيولوجي في الساحل، لكنها متواجدة بفضل تحالفها مع قوى سلفية محلية و مع بعض العناصر المنحرفة. و قد كان الأمر ذاته في أفغانستان و في باكستان. فالقاعدة تنشط أساسا في محيط العالم الإسلامي ? البوسنة، الشيشان ،أفغانستان، اليمن و الساحل ? و نادرا ما تعمل في قلب الشرق الأوسط (باستثناء الفترة القصيرة لأبي مصعب الزرقاوي في العراق).و القاعدة ليست حركة سياسية تسعى إلى إقامة إمارات إسلامية محلية بل إن هدفها هو الغرب، كما تبين من خلال الهجوم على المركب الغازي الجزائري، حيث تم استهداف الأجانب من غير المسلمين وحدهم دون الآخرين.و استراتيجية القاعدة شاملة و لا حدود لها، حيث تسعى إلى مضاعفة المواجهات و دائما ضد الغرب. و بكلمة واحدة، فإن القاعدة هي طفيلي النزاعات المحلية، التي لها منطقها الخاص، حيث تهدف إلى تجذير الحركات المحلية في اتجاه مُعاد للغرب من أجل جلبه إلى مصيدة التدخل. لم تستوعب إدارة بوش هذا البعد اللاإقليمي للقاعدة و سعت إلى تقليص الملاذات المحتملة للقاعدة بالسيطرة على الإقليم و نشر الجيوش على الأرض (تدخل 2001 في أفغانستان دون الحديث عن التدخل في العراق سنة 2003) و الواقع أن هذه الاستراتيجية بدون جدوى: فلاحتلال إقليم ما، نحتاج إلى مئات الآلاف من الجنود، و حين يصبحون في مواقعهم تكون القاعدة قد ذهبت ( كما في أفغانستان سنة 2001 و هو نفس ما سيحصل في مالي). و من هذا المنظور فإن استراتيجية مكافحة الإرهاب للرئيس الأمريكي «باراك أوباما» ? المتمثلة في عدم نشر الجيش و استخدام الطائرات بدون طيار و الاستخبارات و العمليات الخاصة ? و كيفما كانت التحفظات حول مشروعيتها أو أخلاقيتها ، تكون أكثر نجاعة و أقل تكلفة، لأنها متكيفة مع طبيعة القاعدة. إذا كانت فرنسا تأمل في وضع حد للقاعدة في المغرب العربي من خلال احتلال ترابي، فإن هذا سخيف: لأن القاعدة ستعيد بناء نفسها في مكان آخر. و إذا كان الهدف هو تدمير هذه المجموعات فإن الأمر لا يقل سخافة : فبالنظر إلى العدد القليل للمقاتلين الذين يكونون هذه المجموعات (بضع مئات) و بالنظر إلى استقطابهم الدولي فليس أسهل عليهم من التحرك و عبور الحدود و العودة بدون لحية و مرتدين سراويل دجين إلى تورنتو أو لندن. فالقاعدة شيء مزعج لكنها لا تشكل تهديدا استراتيجيا.فلانتزاع جزء كبير من قوتها يكفي أن نجعل من القوى المحلية، التي تريد القاعدة التطفل داخلها، كيانا لا مصلحة له في التحالف معها أو حمايتها. وهذا هو ما لم يحدث في أفغانستان سنة 2001، حين رفض الملا عمر ضدا على رأي مستشاريه، طرد بن لادن، و هو ما حدث في البوسنة و في العراق، حيث أن الأمر انتهى بالمقاتلين المحليين أنفسهم إلى طرد الجهاديين الأجانب، و هو ما يمكن أن يحدث في اليمن أو في سوريا، و هو ما ينبغي أن يحدث في مالي إذا ما تم التفاوض مع القوى المحلية. لكن من أجل ذلك ليس من اللائق أن نُلصق بهم تهمة «الإرهابي الذي لا نتفاوض معه. ما يمكن رجاؤه هو أن تفلح قنوات الاتصال في الكواليس من الاشتغال. فوراء عبارة «الحرب ضد الإرهاب» ما ينبغي القيام به هو مُقاربة سياسية للوضع. «لوموند» الفرنسية عدد 5 فبراير 2013