ولمَ لا؟ إذا ما كان هذا العنوان المثير للضّحك يحيل على مفهوم دينيّ مطلق، بل على كلمة مغربية عاميّة يطلقها البعض على البعض الآخر بتهمة الكفر بالله. إنّ الكفر هنا لهي تهمة دينية لأنها معتقد إلهي لا مراء فيه. وفي القرآن ثمّة آيات كثيرة تشير إلى ثنائية الخير والشّرّ، الإيمان والكفر، الدنيا والآخرة، الله وعباده، الأنبياء وعبادهم. وسواء عند المسلمين أو المسيحيين أو عند اليهود، فثمّة إله واحد لا شريك له، إنه الله والخلائق. فتعال أيّها الكافر بالله لنتحقّق هل أنت مؤمن أمْ كافر؟ أمّا أنا فلا أخلع صاحبي، يقول أحد أنصار معاوية الدّاهية لأحد أنصار علي بن أبي طالب، هو حافظ الأسد الذي يجسّد صورةَ السّلالة الأمَوية منذ نشوء الدّولة الإسلاميّة، بعد وفاة الرسول وهيْمنتها السلطوية. ثمّ، ما علاقة كافكا بهذه الإحالة الدّينية؟ إنه مجرّد عنوان للتفكّه ليس إلاّ، وإلاّ فنحن كلّنا مجرّد كافكاويين بطريقة من الطّرق. فأنْ تكون كافكا، والاسْم يحيل على الكيِف (وليس الكيف المغربيّ المخدّر) وعلى الحالة باللغة الفرنسيّة. يقال إنّ هذا الشّخص لحالة، أي ظاهرة اجتماعية غير طبيعية، مثلي ومثلك. فهل أنت كافكا بالله؟ أي بالحالة الطبيعيّة الإلهية التي كوّنتك وأنتَ في بطن أمّك؟ إذن أنت كافكا بالله. لقد أحسنت مجموعة البحث في القصّة القصيرة صنعا عندما نظّمت ندوة عن الكاتب التشيكي الكبير فرانز كافكا، ابن مدينة براغ، لما له من مكانة بارزة في حقل القصّة والرواية العالميّة. فهذا الشّابّ الخجول، المعقّد نفسيّا وجنسيّا، الملمّ بلغة «ليديشْ» العبريّة، المتردّد على «السّيناغوغ»، وهو الكنيس اليهوديّ، لم يكن كائنا عاديا. كان كائنا استثنائيا، فخجله الشديد من نفسه وتجاه العالم المحيط به، كان يدفعه إلى الانغماس في قعر ذاته باعتباره يهوديّا ملغى من طرف الآخر. لقد زرت معه «أمريكا» التي لم يرها قطّ في حياته، هكذا تعتبر هذه الرواية الرائعة المتخيّلة مدخلا إلى التخييل (وهذه الكلمة عزيزة على محمد برادة) الروائي الذي يرى ما وراء الأفق. فتعال أيّها القارئ المفترض: هل أنت كافكا بالله؟ كلّنا كافكا بعقدنا النفسية، الآخر بعقده الجنسية، كيف تطلّق زوجة شابّة وجميلة زوجها المثقف لأنه لم يجرؤ على مضاجعتها ولو ليلة واحدة؟ إنه كافكا الذي كتب رسائل عديدة إلى صديقته اليهودية دون أن يكون جزءا جسديا منها، ولولا صديقه ماكْسْ برود، المخلص للصداقة الإنسانية، لما كُتِب لكافكا أنْ يرى النّور في عالم الكتابة، هو الذي أخرج كافكا إلى العالَم الأدبيّ. وإلى الآن، ما زلت أتذكّر ذلك الفيلم الأمريكي «الفظيع» (بلغة الإعجاب هنا) الذي أخرجه وشخّصه المخرج الفذّ أورسون ويلزْ، إنّه «المحاكمة»، وهو فيلم سوداويّ يعكس ثنائية الجلاّد والضّحية. مع كافكا بالله، زرت أمريكا القارّة الجديدة التي تشخّص الجنة الموعودة للمهاجرين. إنّ كافكا من براغ، لكنه في نيويورك كافكا «القلعة»، كافكا الكاتب السوداويّ الذي يكتب ضدّ نفسه وضدّ محيطه. فمن منّا هو كافكا؟ إنه أنتَ أيها الكاتب المفترض. سأعيش أنا زمنا مطوّلا لأكتشف بأنني مجرد «حشرة» إنسانية لا أهمية لي، في هذا المجتمع الملوّث، بالنمائم والدسائس الخبيثة، على الإطلاق. كان كافكا بالله، نفسه، مجرّد حشرة إنسانية لأن عقدته اليهودية جعلته مجرّد كائن مهمل وهامشيّ لا قيمة له. كلّنا حشرات إنسانية ملوّثة في ظلّ نظام سلطويّ واستبداديّ متحكم في مصائرنا. أنا كافكا وأنتَ كافكا، لنا آذان شبه صاغية مثل مكبّرات الصوت، مثل رجْع الصدى، فاغسل أذنيْك جيّدا لتسمع جيدا ما يُقال عنك، إنك مثل المدعو «الحريزي» الذي يتجسّس على أصدقائه ويحصي عليهم الشاذّة والفاذّة.