لصيف الشرق الأمريكي طعم غريب. الصمت سيد المكان. للشجر شهادة على سر التاريخ. أمرُّ بين الغابات المستلقية على نهر كونكورد فأسمع الصمت يتحدث إلى ظلال الأغصان. أشعل الراديو كي أفهم من الموسيقى معنى الأسرار، وحين أقترب من الفهم أعرج على الطريق رقم 2 لأصل هارفرد سكوير وأختار مقعدا مقابلا لعازفي الموسيقى في الساحة..يحضرني كلام عبد الواحد الذي انتهى به التسكع إلى الجنون ثم السجن ثم الجنون وفي يده كتاب سرقه من مكتبة هارفرد سطور... حتى الشرطي حار في أمره حين ضبطه أحد موظفي المكتبة..سرقة كتاب لا يمكن اعتبارها سرقة..إنها فكرة أو قضية. إنها مجرد حكاية رجل عشق كتابا وحاول أن يتخطى قوانين الواقع، لأن من مهام الكتب أن تعلمنا كيف نربط علاقات مغايرة بما حولنا. سرقة الكتاب حب، وإحراقه عشق، فلماذا لسنا أحرارا في ممارسة حبنا!..هكذا قال يهودي كان حاضرا في المكان حين ضبط المسكين مقترحا أن يؤدي ثمن الكتاب نيابة عنه.. وقفت وقتا أحوم حول طاولة الكتب القديمة التي تباع قبالة جامعة هارفرد، واقتنيت كتابا عن «الإسلام»، ثم دخلت إحدى المكتبات بعد أن لمحت من وراء الزجاج صورا لأشهر الكتاب... شتاينبك، تينيسي ويليامز، هيمان ميلفيل، هيمنغواي، اقتنيت، دون تردد، صورة كافكا واقفا وهو يحمل في يده اليسرى حقيبته سائرا في الطريق وربطة عنقه تداعبها الريح..ربما رياح الشرقي..! اخترت له مكانا بعناية فوق مكتبي بين الأوراق والجذاذات، وصارت عادتي بعدها أن أتأمل وجهه وهو يتحول إلى حشرته الفريدة. أنظر إليه كلما تذكرت إحدى متاهاتي أو أوهامي، ثم أغرق في العمل. . أجدني أكتب من غير أن أنتهي. وأحيانا أنتهي من غير أن أبدأ. منذ اليوم الأول وأنا أحاول أن أبحث عن السر الذي يوجد في حقيبته الملأى بالأسرار.. رأيت فيها أسراري وأقداري الموبوءة. أسراري أنا ومتاهاتي في المنزل رقم 482....هذا المبنى الغريب الذي قادني إليه أحد الأقدار الأكثر غرابة لألتقي بأحد الأشخاص الأكثر مرضا وإيذاء. كائن تعثرت به الصدف والأقدار حتى سكن بيت النحس وتساكنت معه كقدر يلازمني. قلت عنه مرارا : «تلزمه مسافات ضوئية كي يصبح حيوانا، ثم مسافات زمنية كي يصبح بشرا!» لم أر عينا تقطر شرا وخبتا مثل عينيه. فهما تذكرانني بعيون ميدوزا وهي تحجِّر كل كائن . لأنفه قطر الموت. للعين شراهة النحس. وللنظرة بؤس العيش والتقتيل والعدوان. كافكا. المنزل رقم 482. صور النحس. مشاهد الوقت. سنتان من محن الدنيا في مساحة جهنمية عبرتها كما أعبر الظل التاوي في روحي. كافكا. الحشرة التي مازالت فوق مكتبي تنتظرني كي أضعها فوق كتاب أو دفتر أو رسالة إلى مجهول في ذاكرتي، أو معشوقة لم أعشقها.. في آخر أيام الصيف اكتشفت في جيب معطفه كتابا. حاولت أن أستله خفية كي أطالع ما فيه. لكن الحشرة الملتصقة بالحقيبة منعتني. لذغتني. لسعتني وهي تتمتم: «وقفت أمامه أقول له: أنت صاحب الحق والعقل. يقول لي: بل أنت صاحب المنطق والقول. أقول له: اتركني فقد خربت عقلي ومنطقي. يقول لي: ما شفيت بعد من عزلتي وخفائي. أنت خشيتي فاستتر بي وأستتر بك. أقول له: إنما القول قولك أنت والسؤال سؤالك واليقين منك فيك إليَّ.» يقول لي: «اصح فإن غفوة العمر تُبدِّد هذه اللحظة وتتشوق إلى ساعة الخلاص من هذه الأدراج التي تأوي إلى النحس». كافكا.. لست أنت من قادني إلي. قادتني المسالك التي قادتك إلي، يوم عبرت شارع ماسَّاف، على رصيف شارع مبلل بحكايات إدغار بو أيام كان يتسكع في شوارع كامبردج معربدا وفي جيبه نسخا من مجلته. كافكا. النحس في هذا البيت مجرد حشرة أبحث لها عن عود ثقاب في أحد جيوب معطفك المثقوبة كي أخلص منها المكان. حشرة تتحول إلى آدمي مذعور يُقاوم الضوء بظلام قلبه وهو يحتفل بأعياد الفناء. كافكا. ليس النحس وحده نحسا.. إنما القدر المثخن بالمحن. ليس النحس إلا هذا الوجه الصدئ الذي كلما نظرت فيه تراءى لي المسخ والحشرة تجتهد كي تفشل في أن تصبح حشرة. النحس هو أن تلقى في طريقك حشرة ظلت تبحث عن وجه لها فلم تجد سوى وجهها الذي يشبه مخلوقا أشبه بالبشر.. لكنه مجرد عثْرة في اتجاه المسوخ. قل لي يا كافكا: هل رأيت منزلا تكون فيه الحشرات فاكهة للقتلى والحُطام ووجها للمحذوفين من الذاكرة.. اسمع يا كافكا: شَغلتك عن المسخ لأني انشغلت بحقيبتك الملأى بالحشرات.. وحين تبدد القول فهمت أنك وحدك تعرف كيف تتحول الكائنات الآدمية إلى حشرات مُتعبة بالمسخ والهزائم. احذرني. خبِّئني. صوِّرني. عَثِّرْ خطوي. امسخ مسوخي. امح محوي. هدئ صمتي يا قبر اللاجئين. يا كافكا ما هذا البلاء الذي حملته لي ونحن لم نكتف بكأس قهوة في حانة لم تكن للسكارى.. بل مبغى للمهاجرين الذين سكنتهم الغربة والعزلة. حشرتك، يا كافكا الوديع، تزعجني.. فأخرجني من هذا المسخ. بوسطن/و.م.أ