يلفظه البيت, والصبح بالكاد يفرك عينيه درءا لشبهة النوم الأخير. ينحدر مع الدرب المترع بالغبار والشغب والتحرش المكشوف... متعثرا بالحصى و الحجارة والقذارة. يقف لاهثا في منتصف الطريق المؤدي إلى الفراغ. يعد الحصى تحت قدميه. حصى عمر يصعد صوب سديم أزرق بسرعة رهيبة... أو صوب انزلاق الجسد المتعب جهة التراب: شكله البدائي ومادته الخرافية. صوب قاع مظلم, مغبر برذاذ بيادر لا تراها العين لأنها تسبح بعيدا في السحاب.صوب غضبة ريح الشرقي في صحارى جسد يؤوب ، بعد حلم صغير لنقطة البدء والمنطلق. أي لنقطة الصفر بين الوجود والعدم. أشباح وظلال تختلج قدامه. كائنات تتناطح, تدهسه وتمر غير عابئة. وما يميز شبحا عن شبح. النور في عينيه شحيح لا يفي برؤية واضحة, أو شبه واضحة. يعصر عينيه لعل بصره لرغبته يستجيب , فلا يسعفه. يخرج قلبه عن طوره، فيصب مخزونه في شريان واحد ويختزل نبضه في رجة واحدة خالها هدير رعد أو قصفا جديدا يسبق طلوع الشمس. ضباب يتراقص أمام وجهه. ينفذ إلى ما خلف الجفون الواهنة, يدغدغ عينيه, فيحكهما مرغما ويأتيه الدمع سخيا. ينساب حارا، مالحا, يروي تجاعيد الوجه الذاوية. يلعقه بلسانه المتشقق فيستعذب طعم البحر وذكرى الأسماك في مضاجعها... يقول: أنا البحر. الأشباح والظلال وأمواج الظلام تغرقه, فلا يستوي في وقفة أو جلسة، ولا ينام كخلق الله على جنب. المشاهد قدامه تتوالى وهو يعصر عينيه ويحكهما ويستعذب في الدمع ملوحة البحر. المشاهد تنقذف من لا شيء, عنيفة وداهمة كالقدر في غضبته وقسوته. كزخات مطر في ظهيرة صيف قائظة. كحبات رصاص تقيأها رشاش فقد السيطرة على أعصابه. أو كسرب قطا طارده في العصر صياد. المشهد ، يشهد الله أنه المشهد لا شيء سواه ، يراه تارة في مسوح عراف يستنجد بعكاز قد من إبر وشوك, ولحية بيضاء يهش بها على غنمه وسبحة يعصر حباتها بأصابعه الغليظة, فتنفجر حبة حبة. يردد أدعية صارت ، من فرط ترديدها ، أحاديث رعاة أفطروا في مواقد النار على عجل, وخرجوا للبراري ،كالعادة، دون أن يقرأوا جرائد الصباح الكاسدة... يتوضأ مثل طفل أفزعه البلل ويؤدي صلاة خاملة في غير موعدها. المشهد ، يشهد الله أنه المشهد, لا شيء سواه، يراه طورا في جبة دجال, في المنام وفي اليقظة. في المنام يفزعه, ويفزعه في اليقظة. فصار يزهد فيهما معا: النوم واليقظة. المشهد يبدل ألوانه كما يبدل سكير كؤوسه. وهو مصاب بعمى الألوان منذ ولادته, ومصاب بالتلف بعد ولادته. تعبت منه ذاكرته كما جسده ولم يعد سيدا على شيء ولا أحد. يمسح الضباب بيد, فيطلع الضباب من اليد الأخرى. وينفض عنه الأشباح والظلال, فتخرج الأشباح والظلال من شعيراته وأكمامه. يسخر من نفسه ويقول: أنا الضباب... أنا الضباب وأنا المشهد المنفلت. أغير أشكالي كما الأفق يغير مواقعه وتخومه. الشاهد يتراجع عن شهادته أمام الملأ والمشهود يتراجع ، في سره، عن أفعاله ويندم عما اقترفت يداه. والشهيد ينهض ويتراجع عن استشهاده, والاستشهاد يتراجع عن عجلته ويراجع برنامجه اليومي. والشهد يطرد نحله ويبحث عن سكان جدد... يخبط كفا بكف و يقول: أنا المشهد... أنا المشهد، يشهد الله والخلق أني أنا المشهد لا أحد سواي. يربت على جرحه الغائر سبعين عاما في جسد الوقت المدمى، سبعين خيبة في جثة زمن تأخر عن موعده حروبا وقرونا عجافا... أنا الزمن... أنا الزمن، وأنا الزبد الطالع من لجة صاغها النسيان والعدم... صاغها من هموم من قضى قبلنا ومن سيقضي بعدنا، ومن سيطوى معنا في يوم معلوم. أسأله كما يسأل غريب غريبا: كيف الحال؟ فيرد كما يرد أي كائن موغل في غربته: حسب الوقت. حسب الوقت. أبتسم مرغما وأمازحه. يشيح عني بوجهه ويسرح. ألحق به, فيسبقني. أهيم شريدا بين آثار خطوه وصدى أقدامه على الصخر العنيد. أسمع نايه يراقص الطلح النابت في البراري، وحبات الطلع في رؤوس النخل. أناديه أن انتظرني على حافة النهر, فيرد أن الحق بي على حافة الوجع, ويمضي. فأمضي وحيدا إلى غربتي. ولا أتوقف إلا على مشارف حلم راوغني سبعين خيبة وهزيمة. لم يضبطوا في الكناش يوم ولا شهر ميلاده. أرخوا لنكبته بعام مجرد من الاستعارات, خال من تضاريس الجغرافيا وشواهد التاريخ. وألصقوا باسمه لقبا مدججا بأخطاء الإملاء وركاكة الأسلوب. قرأ في الجرائد وسمع في الراديو ورأى في التلفزيون... فما فهم وما ميز بين خطيب وخطيب وما درى لأي حرب ينتسب. وأحس ، في لحظة انهيار، بنسمة حنين تأخذه لحروبه القديمة. حروب كان فيها العدو عدوا والصديق صديقا... فانتشى, وانتحى ركنا قصيا في الذاكرة لم يمسسه ضر ولا سوء... أنا الذاكرة. أنا الذاكرة. مر التاريخ أمامي برقا خلبا . وجثم المشهد النزق, المتحول, على بابي كلبا ضالا يبحث عن سيده، يربت ، بقائمة خشبية، على جرحه الغائر سبعين عاما في المدى العالق غصة بين الروح والروح. أنا البحر والضباب. أنا المشهد وأنا الزمن. وأنا الذاكرة والمدى والروح... وما لم تعثروا له على تعريف يشفي الغليل... ينحدر مع الدرب متعثرا بالحصى والحجارة والقذارة. يدلف إلى المقهى. ينهره الكرسي, فيبتعد. يجلس على الرصيف. تهدر دبابة على ذات الرصيف, فيبتعد. يتكوم في جلبابه. تدخل المخابرات والأجهزة الأمنية والسفارات الأجنبية والأحزاب والجمعيات... إلى جلبابه, فيبتعد. يحتمي بذاكرته. تعيده خطاه إلى البيت القديم. يتهالك على حصير الدوم ويسرح. ألحق به, فأراه في السديم قد ابتعد. وأرى المشهد يبدل ألوانه وأشكاله وعناوينه... وأراني معلقا بين تاريخين, فلا أدري لأيهما أنتسب. وأراني موزعا على أكثر من حرب, فلا أدري لأي الحروب أنتمي. يشفق علي ويمسحني ببصره كما تمسح شاة صغيرها بعد الولادة. يستوي في رقدته ويصلني صوته دافئا مثل كانون الشتاء, خافتا مثل هديل الروح لحظة انعتاقها من الجسد. يقول لي: لا تنظر لأسفل ولا لأعلى. انظر كما ينظر الخفاش في الليلة الظلماء. غير جنسك من حرب لحرب. وتخلص من ذاكرتك بين سقطة وأخرى. ولا تكن نفسك بأي حال من الأحوال... ينقطع الصوت ويحتبس النفس. يشيح عني بوجهه وأشيح بوجهي عنه. يغمض عينيه فينطفئ الضوء في عيني. يتوقف نبضه فتسري برودة الموت في أطرافي... أبادله صمتا بصمت. ثم يصرخ صمته في وجهي , فيفزعني: تسلقت مدارج اليتم عن آخرها, فلم تعد نفسك. وسقطت , ففقدت ذاكرتك. غصت في حروب الشرق والغرب , فغيرت جنسك. حبست بصرك , فامتلكت رؤية الخفاش في الليلة الظلماء. فاختر ،بروية، دروبك. وانتق بعناية، حروبك. ولا تمت إلا كما شاء لك أعداؤك, ملطخا بدمائك, ملفوفا بأشلائك, محمولا في أكياس القمامة إلى مثواك الأول والأخير....