} لديك تجربة إبداعية مهمة تمثلت فى ثلاثية تاريخية بدأتها برواية (العلامة)وهى عن مؤسس علم الاجتماع العربى ابن خلدون ثم الرواية الثانية (مجنون الحكم) عن الحاكم بأمر الله الفاطمى وأخيراً رواية (هذا الأندلسي) وهى عن الفقيه الاندلسى ابن سبعين.. من وجهة نظرك متى يلجأ المبدع للإسقاط التاريخى ليتحدث عن واقعه؟ هى ليست قضية اختيارات وهذه الشخصيات التاريخية متاحة ويكفى الاطلاع عليها وربما على أفعالها لكى تصير مادة للعمل الروائي، فلقد صادفت خلال تجولاتى فى التراث العربى الاسلامى ان هذه الشخصيات التاريخية التى تناولتها فى الثلاث روايات استبدت بى، فهى شخصيات فاذة واستثنائية كما هو الحال مع »على أبى منصور« الملقب بالحاكم بأمر الله الفاطمى المصرى لذلك أنا أعتقد أن القضية ليست اختيارية بقدر لقاء يحدث بين المبدع وبين الشخصيات التاريخية التى يعج بها التاريخ وما يسمى بنوع من التجاوز »الرواية التاريخية« وأنا أستعمل التاريخ كذريعة، وربما كمدخل لقول أشياء والتعبير عن حالات ربما هى أكثر قربا من حاضرنا أكثر منها استعادة للماضي. فهناك طريقة تقليدية لكتابة الرواية التاريخية كما وجدت عند جورجى زيدان، وأندريه مورو، وعلى أحمد باكثير. هذه الطريقة تعتبر المواضيع قائمة وجاهزة فى قوارير، ثم يأخذ الكاتب شخصية ما، وينسج نصا حول حياتها وعلاقاتها. وليست على كل حال هذه طريقتى فى الكتابة، فإذا لم أتفاعل إلى حد قوى وصادم مع شخصية أو فترة تاريخية لا أمسك بالقلم، ولا أهتم بتسويد صفحات لا تقدم جديدا. فالكتابة الروائية تقدم لنا مادة معرفية وحفرا فى طبقات التاريخ. } ما أوجه الاختلاف بين المؤرخ وبين المبدع حينما يتناول كل منهما شخصية تاريخية بعينها أو فترة زمنية واحدة؟ لكلٍ عمله وطريقته فى تناول الحدث أو الشخصية التاريخية والمؤرخ المحترف يعمل فى نطاق تحده الوثائق والمستندات والمراجع وبدون هذه المواد الخام لا يمكن للمؤرخ أن يكتب شهادته، فى حين أن الروائى الذى يهتم بالتاريخ فى مجال عمله الروائى عليه فريضة أولى يجب أن يؤديها وهى الاطلاع على كل ما يتعلق بالشخصية أو الحدث التاريخى الذى سيتناوله فى عمله الروائي، فأنا على سبيل المثال حينما كتبت رواية (مجنون الحكم) عن الحاكم بأمر الله الفاطمى قرأت من الكتب والمصنفات بأقلام مؤرخين عاصروا هذه الفترة الزمنية من حكم »الحاكم بأمر الله الفاطمي« أو المؤرخين الذين أتوا بعده لكى أتشرب بمقومات هذا العصر ورموزه وعلاماته وشخوصه ثم أترك كل هذه الأشياء تختمر بمخيلتى والفرق يأتى هنا حقيقة بين المؤرخ والمبدع من أن الأخير يحاول ما أمكنه ذلك أن يجيب عن أسئلة تركها المؤرخ عالقة ربما لغياب الوثيقة أو الشهادة المكتوبة وغير ذلك من أدوات البحث التاريخى وهنا يضع النص الروائى التاريخى فروضاته لملء ثغرات النص التاريخى وبياضاته، »فشكسبير« الكاتب المسرحى البريطانى الشهير لم يكتب طوال حياته سوى المسرح التاريخى، بداية من (الملك لير) إلى باقى مسرحياته حتى مسرحيته (روميو وجولييت) التى تجىء بخلفية تاريخية من حيث الشخصيات والقبيلتين المتنازعتين. } قدمت رؤية بانورامية إذا جاز التعبير فى كتابك (الاستشراق فى أفق انسداده) بعد مراجعته وتقديمه بطبعة جديدة وعنوان جديد؟ لقد أعددت البحث فى هذا الموضوع وبالفعل صدرت طبعة جديدة بعنوان (العرب والإسلام فى مرايا الاستشراق) وهو تطوير وتعميق للفكرة ووجدت أن الاستشراق له مدارس متعددة تختلف وتتنوع بحسب الفترات الزمنية وبحسب المستشرقين أنفسهم، وهناك مستشرقون يعدون منيرين وموظفين للآلة الاستعمارية، فحتى »شامبليون« العالم الفرنسى الذى فك رموز اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة، جاء مع »نابليون« أثناء حملته الاستعمارية على مصر فى حين أن هناك فئة أخرى مثل »جاك بيرك« وزمرة من المستشرقين كانوا يؤيدون كفاح الأوطان لنيل استقلالها وساندوهم وصاحبوهم من حيث المعرفة ومن حيث المواقف تجاه هذه الشعوب ولذلك لا يجب أن نضع المستشرقين جميعاً فى سلة واحدة فهم أطياف متعددة وعلى المؤرخ والمهتم بكتابة التاريخ الوطنى أن يميز بين هؤلاء الذين استخدمهم الاستعمار لاحتلاله البريطانى والفرنسى ولكن طبعاً هناك فئة أخرى من المستشرقين أعتقد أنها خدمت الثقافة العربية الإسلامية من حيث أنها عرفت الغرب بعمقها وامتداداتها وتأثيراتها حتى على الغرب ولكنى أحتفظ بمصطلح انغلاق وانسداد بمعنى أنه الآن فى عصرنا وبالأخص منذ قيام الثورة الإيرانية فى عام 1979، ظهرت فئة جديدة لا يمكن تعريفها بالمستشرقين ولكن هم فئة متخصصة فى شئون المشرق الأوسط والمغرب العربى كذلك وهم يهتمون أساساً بقضايا النفط وبالحركات الأصولية الدينية وهؤلاء أنا أحترس منهم لأن معرفتهم باللغة العربية أولاً والتى كانت فرض عين بالنسبة لأجيال المستشرقين السابقين ضعيفة وهم لا يهتمون سوى بالقطاعات التى ذكرتها عدا استثناءات قليلة تهتم بالتصوف الإسلامى وبالحركات الشيعية وغيرها.