وأخيرا تصْدر الترجمة العربية لكتاب "ترجمة الآخر"، للكاتب الإسباني أوبيدي كربونيل كورتيسْ، الذي مرّ على صدوره أكثر من عقد من الزمان. وقد أنجز الترجمة العربية الأستاذ أنور المرتجي عن منشورات "زاوية"، بدعم من الإدارة العامة للكتاب والأرشيف والمكتبات. الكتاب، من حيث محتوياته والقضايا التي عالجها، ما يزال يحتفظ براهنيته ووهجه. ويمكن الإقرار بأنّ هذا الكتاب، عند صدوره، كان هو الحافز الذي دفع عددا كبيرا من الباحثين في العالم الغربي إلى الاهتمام بموضوعات الكتاب، ويتعلق الأمر بالترجميات ما بعد الكولونيالية، من أبرزهم: ماريا تيميشكو، راوول غريبريستْ، روبير يونغ الخ. وهو الاتجاه الذي يقارب المنحى الترجمي في نظرية ما بعد الكولونيالية من زاوية علاقة الاتصال بالآخر كأنموذج لا غنى عنه في علم الترجمة. الكتاب، الذي بذل الكاتب والناقد أنور المرتجي في نقله إلى اللغة العربية جهدا كبيرا، من حيث اختيار المعجم الملائم والتركيب اللغوي، يتناول الترجمة باعتبارها معنى مكافئا عن إعادة تمثيل الآخر، الذي لا يمكن استمالة صوته لصالحنا، كما يقول الكاتب، إلاّ عن طريق ترجمته. الترجمة، بهذا المعنى، لا تكمن أهميتها دائما في معرفة الآخر فقط، بل هي كذلك نزوع نحو تحديد موقعه في علاقته بذواتنا والرغبة في إقناعه. ومن ثمّ، فإنّ معظم الأحكام التي يسقطها الإنسان الأوربي على الآخر العربي، على وجه الخصوص، كانت دائما مرتبطة بصيرورة تاريخية معقّدة للغاية. نظرة تعتمد على صور وأحكام جاهزة، أي كليشيهات نمطيّة عملتْ على تزييف الحروب والغَزوات والهزائم والتبرير وتهجين الطرائق الفلسفية والأدبية كنوع آخر من الغزو الروحي والفكري الذي بدونه لن يكون مصير الحضارة العالمية مغايرا ومختلفا. منْ هنا تزداد الحاجة إلى كتابة تاريخ الترجمة الذي يوحّد بين أوربا والعالم العربي، ويرصد أشكال التلاقي العديدة في إسبانيا المسْلمة، الأندلس. هذه الأخيرة التي لم تنطفئ فيها، على حدّ تعبير الكاتب، سراج الثقافة العربية، حيث "تشكلت في هذا المسار التاريخي هوياتنا المشتركة، الإسبانية والكطالانية والمغربية والمغاربية. إنّ مستقبل الترجمة، في نظره، يمرّ عبر مصفاة هذه الأجهزة المفاهيمية ، الكاشفة عن الأحكام الحجاجية التي نسقطها على الآخر، في مساره التطوّري والتزامني، ووضعه اللغوي وتفاعله الثقافي، سواء على مستوى البنية الكبرى للتمثيل، أو في البنية الصغرى للتواصل المتبادل، بين الثقافات المعبّر عنها في المحادثة اليومية. ولتحديد إطار عمَله، يوضّح الكاتب، في الفصْل الأوّل الذي يحمل عنوان "المدخل إلى الخطاب الاستعماري"، "الخطاب الكولونيالي" باعتباره مجموعا غير متجانس من المواقف والمصالح والممارسات التي تهدف إلى بسْط نظام من السيطرة الدائمة. ومن الواضح أنّ الكاتب لا يسند لهذا الخطاب مضمونا ماديا، بقدر ما يعتبر أنه يعتمد على أشكال المعرفة والتمثيل واستراتيجيات السلطة. الخطاب الكولونيالي الموجّه إلى الآخر، لا يمكنه أنْ يكون فعّالا إلاّ عندما يوظّف هذه الأساطير الخاصة بالثقافات المسيطر عليها، بينما نجد الخطاب ما بعد الكولونيالي يطمح إلى إعادة بناء فضاء إيجابيّ عند مناهضته لمثل هذه الأحكام السلبية التي أنتجها الاستعمار، لأنه خطاب مقاوم، أو خطاب مضادّ. ومن الملاحظ أن نظرية الترجمة في العقود الأخيرة أصبحت تولي أهمية للطريقة التي ينتج بها المترجم النص الذي يتكافأ مع سياق النص-الهدف، والطريقة التي بواسطتها يخضه هذا النص لبعض المعايير الثقافية والاستراتيجيات الخطابية، وكذا المواضعات التي يُعتمد عليها عند إنتاج النصوص الأصلية في الثقافة ذاتها. إنّ صورة "الآخر" الما بعد الكولونيالي تعود أساسا إلى التصوّرات التمثيلية الموجّهة إلى الشعوب الأخرى، حسب مستوى الوعي السائد في كلّ مرحلة ثقافية. يمكن تعريف الترجمة حسب المنظور التقليدي، باعتبارها نشاطا محاكاتيّا، بالرغم من أن الترجمة اللغوية المرتبطة بمسألة التكافؤ كانت دائما تطمح إلى تقديم تعريف جديد لمضمون النص، ونقله إلى نص آخر، أي إلى إعادة بناء سياق لغوي ودلالي مكافئ له، يتجاوز مفهوم المحاكاة كدائرة مغلقة تتمنّع على كل انفتاح أو إشعاع ثقافي. ما يُستخلص من هذا الكتاب هو أنّ الترجمة، في عمقها الحقيقيّ، نشاط يذهب إلى "الهناك" البعيد الذي ينتج عن جدلية الهنا والهناك، الآن والما بعد، الآن والما بعد، النحن والآخرون، لكي ينشأ في فضائها الرحب صيرورات الاختلاف الثقافي لأنها فضاء الجدّة الخلالية والبينية. إنّ الكتابة بعد مرحلة الاستعمار تمثل زمن التعيين والتعريف (بالمضمر) والمواجهة والتضاد الدائمين، كما تتطلب أن يكون الحافز والسيرورة وكذلك النتائج التي يتمخّض عنها فعل الترجمة، موجّهة بواسطة فعل الترجمة باعتبارها أحد الحقول الكبرى لازدهار كل مشروع ثقافي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الترجمة تسعى إلى ردّ الاعتبار لذاتها، والذي لن يتحقق إلاّ من خلال التواجد في "الهناك" البعيد، أي في منتصف الطريق عند جسْر الثقافات، أو حسب أنصار النظرية النقدية، في ذلك "الفضاء الثالث" كموقع وحيد للقيام بالترجمة الحقيقية والممكنة التي تمثّل مجالا تتقاطع فيه الحدود الثقافية في حركيّة دائمة تشبه ذلك النهر المطرّز بالأمواج المختلطة بالرمل والزبد والبحر. لابدّ أن أشير، في النهاية، إلى أنّ هذه الترجمة العربية، التي أنجزها بإتقان الكاتب والناقد أنور المرتجي، تشكل إضافة في مجال الترجميات، وبالخصوص تلك الترجميات التي تعتبر الترجمة بصفة عامّة تؤشّر على اغترابنا إزاء لغتنا الأصلية، وأنّ الفصل بين الذات واللغة شاسع جدّا، بالمقارنة مع علاقتنا بلغتنا الأصلية.