بدا مؤخرا ومن خلال المعطيات المتوفرة من داخل «إسرائيل» والمستقاة من خلال المواد الإعلامية المنشورة على صفحات العديد من الصحف العبرية، والمستقاة أيضا من التصريحات المتتالية لعدد من قادة الأذرع الأمنية، وبعض قادة الأحزاب «الإسرائيلية» أن هناك اتجاها مؤثرا بدأ ينمو داخل مراكز القرار السياسي «الإسرائيلي» واضعا قضية التعامل مع حركة حماس على جدول أعماله بعد سنوات طويلة من محاولات إنهاء وجودها المادي على الأرض في الضفة الغربيةوالقدس وقطاع غزة، أو إقصائها وعزلها ومحاصرتها في أفضل الأحوال. وما زاد من نمو وتيرة التفكير «الإسرائيلي» إياه، وقوع اللقاء الأخير بين الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في القاهرة يوم الرابع والعشرين من نوفمبر 2011، وتوصل كل من حركتي حماس وفتح لانجازات ملموسة على طريق تحقيق وترجمة كامل بنود اتفاق المصالحة الوطنية الفلسطينية الموقع في القاهرة في ماي 2011، وهو ما أشارت إليه بوضح صحيفة معاريف «الإسرائيلية» في عددها الصادر في اليوم نفسه من عقد لقاء عباس ومشعل. فما التقديرات بهذا الجانب، وهل يمكن أن نشهد في الفترات القريبة اندلاع اتصالات مباشرة أو غير مباشرة بين حركة حماس والدولة العبرية، أم أن التشدد «الإسرائيلي» سيكون في نهاية المطاف هو العامل الكابح لوجهات نظر البعض في «إسرائيل» والداعية لفتح دائرة الحوار مع حركة حماس؟ في البداية، لا بد من القول إن الموضوع المتعلق ببروز بعض الأصوات من داخل «إسرائيل» والمنادية بفتح خط اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع حركة حماس لم يكن وليد اللحظة الراهنة، بل سبق أن تعالت العديد من الأصوات داخل «إسرائيل» وهي تطالب بفتح دائرة الاتصالات مع كل الخريطة السياسية الفلسطينية انطلاقا من عدة أسباب ومستوجبات، كان أولها أن حركة حماس قوة كبيرة ومؤثرة وموجودة على الأرض ولا يمكن تجاهلها بأي حال. وكان ثانيها أن هناك قناعة تشكلت عند العديد من القادة «الإسرائيليين» وهي تقر بأن حركة حماس باتت جزءا أساسياً من النسيج المجتمعي الفلسطيني، تتمتع بتأييد اجتماعي قوي وحضور مؤسساتي مؤثّر، وتأثير سياسي داخل الرأي العام الفلسطيني، وقدرة على التكيّف في الظروف الصعبة، وخاصية مميزة بصفتها حركة جماهيرية تربطها المؤسسات بترابط متين لحاجات المجتمع، مما جعل منها قوة سياسية من الصعب تجاهلها من حيث حضورها ونشاطها. وكان ثالثها أن قوس العلاقات الدولية مع حركة حماس ازداد وتوسع في السنوات الماضية، وقد باتت هناك اتصالات وزيارات مباشرة لوفود من حركة حماس إلى موسكو على سبيل المثال، واتصالات مع بعض دول غرب أوروبا بشكل غير مباشر، وسبق لموسكو أن نصحت وعلى لسان (ميخائيل مارغيلوف) رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي (أحد مجلسي البرلمان) «إسرائيل» ببدء الحوار مع حركة حماس، مشيرا إلى أن الجانب «الإسرائيلي» نفسه يحتاج إلى هذا الحوار. وكان رابعها فشل كل الضغوط الأميركية و»الإسرائيلية» التي سعت لعزل حركة حماس بعيد الانتخابات التشريعية التي جرت في الداخل الفلسطيني منتصف العام 2007، وتوجت بإنجازات هامة لحركة حماس التي حصدت أغلبية في المقاعد البرلمانية، وهو ما جعل من حركة حماس رقما صعبا لا يمكن تجاوزه، ودفع بكل من يريد التعامل مع الملف الفلسطيني بالاتجاه صوب حماس والتعامل، فقد جاءت بانتخابات ديمقراطية نزيهة تمت تحت إشراف دولي محايد. وكان خامسها أن كل المحاولات «الإسرائيلية» التي تمت لشطب حركة حماس أو حتى إضعافها أو من تحييدها ووضعها خارج دائرة الفعل والتأثير، بما في ذلك من خلال الحملات العسكرية الدموية، باءت بالفشل، فخرجت حركة حماس بعد العدوان الأخير على قطاع غزة متعافية نسبيا، بل واستطاعت إدارة أمور الناس في عموم قطاع غزة بدرجة لا بأس بها رغم الحصار الطويل المستمر منذ عدة سنوات، وبغض النظر عن الملاحظات التي قد تقال هنا أو هناك بشأن إدارة حركة حماس لقطاع غزة، فأصبح قطاع غزة بوابة لكل من يريد أن يتعرف أو يتدخل أو يسعى للحل في القضية الفلسطينية. وكان سادسها، أن «إسرائيل» ليست (نائمة أو في غفوة)، بل تدرس وتتابع الواقع المتغير في المنطقة والحراكات الجارية في الساحات الفلسطينية والعربية والدولية جيدا، وتحاول الآن أن تتعامل وأن تتعاطى مع معطيات جديدة في ظل الفوز والنجاح والحضور المتزايد للتيارات والأحزاب والقوى الإسلامية (في مصر وتونس واليمن ...) وتسعى للتكيف مع كل جديد، مدركة عمق العلاقات التي تربط بين حركة حماس وتيارات القوى الإسلامية الوسطية والمعتدلة. وعليه، وانطلاقاً من المعطيات الواردة أعلاه، فان نقاشات من نوع جديد، فرضت نفسها تلقائيا داخل الخريطة السياسية والأمنية «الإسرائيلية» بشأن جدوى السياسة «الإسرائيلية» المتبعة تجاه حركة حماس خاصة وعموم قوى المقاومة الفلسطينية عموما، وكيفية التعاطي معها، وإن كانت كل تلك النقاشات مازالت تصطدم بجبال كبيرة وشاهقة من قناعات ومواقف اليمين الصهيوني وحتى بعض تلاوين ما يسمى ب»اليسار الصهيوني». ففكرة الاتصال «الإسرائيلي» مع حركة حماس مازالت تتفاعل وتعتمل في الداخل «الإسرائيلي»، لكنها مازالت بحاجة لإنضاج وبلورة، وقد هبت الآن بشكل جدي على أعلى المستويات السياسية والأمنية في «إسرائيل» على خلفية اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وبروز إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وتداعيات هذه الخطوة على «إسرائيل» وكيفية التعامل معها. حيث يتخوف البعض في «إسرائيل» من تداعيات رفض التعامل مع حكومة فلسطينية موحدة. فإذا رفضت «إسرائيل» التعامل معها فإنها ستضع نفسها بكل تأكيد في موقف حرج أمام المجتمع الدولي، خصوصا إذا ما قامت واشنطن والعواصم الأوروبية والعربية بالتعامل مع الحكومة المقبلة. في هذا السياق، تعتقد مصادر القرار في حركة حماس، وكما تشير كل المعلومات المتوفرة، أن «إسرائيل» لم ولن تغير جلدها أو تخرج منه. وأن دعوات الحوار «الإسرائيلية» الخافتة معها والصادرة من قبل بعض رجالات السياسة والأمن في «إسرائيل»، مدروسة وليست بريئة، وهدفها الرئيسي يتمثل في إبقاء الباب مواربا أمام حركة حماس في سعي «إسرائيلي» وغربي لإدخالها نادي العملية السياسية وفق المنطوق «الإسرائيلي»، وتحت سقف ما بات يعرف بشروط اللجنة الرباعية الدولية، وهي الشروط التي ترفضها حركة حماس بشدة. وفي المقابل فان قياديا في حركة حماس هو الدكتور محمود الزهار، ألمح قبل أيام خلت إلى أن حركة حماس يمكن أن تحاور «إسرائيل» ولكن بطرق غير مباشرة كتلك الطريقة التي أفضت لصفقة التبادل الأخيرة، وحول قضايا تقنية بحتة، كالمعابر والأسرى والأوبئة باعتبارها قضايا ملحة تفترض تداخلا على الأرض، مشيرا إلى أنه في التفاوض غير المباشر (يكون هناك شهود وضامنون حتى لا يتم نقض العهود). إلى ذلك، يمكن رصد وتلخيص مواقف الخريطة السياسية الحزبية والأمنية في «إسرائيل» بالنسبة للموقف من مسألة فتح قنوات وخطوط اتصال مباشرة أو غير مباشرة مع حركة حماس، فبعضها مندفع في المناداة بالحوار معها، وبعضها متحفظ لاعتبارات لها علاقة بالوضع الداخلي «الإسرائيلي» ليس أكثر، وبعضها يرى ضرورة الحوار معها للوصول إلى هدنة طويلة الأمد فقط، وفق التالي: الاتجاه الأول، ويدعو أصحابه وبقوة لفتح دائرة الاتصالات مع حركة حماس انطلاقا من حيثيات حجمها ووجودها، واعتبارها جزءا ومكونا أساسيا من مكونات الخريطة السياسية الفلسطينية، ويتصدر هذا الموقف الأحزاب العربية داخل «إسرائيل» (ستة أحزاب) والحزب الشيوعي «الإسرائيلي» (حزب راكاح) وقائمته في الكنيست المسماة ب(الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة) وهو حزب مختلط (عربي + يهودي)، ومعهما بعض كتل اليسار الصهيوني من مجموعة (ميرتس) السابقة. ويضاف لهم بعض القادة الأمنيين السابقين كالجنرال (إفرايم هليفي)، وهو رئيس سابق لجهاز الاستخبارات الخارجية «الإسرائيلية» (الموساد) ورئيس مركز «ساسا» للدراسات الإستراتيجية في الجامعة العبرية في القدس حاليا، الذي يقترح فتح بوابات للحوار مع حركة حماس معتقدا أن»صفقة تبادل الأسرى تدلل على أن حركة حماس تجيد قراءة الخريطة»، محذرا من «التغييرات الدرامية المتواصلة في مصر بعد إسقاط نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، مشددا على أهمية الإسراع في تسوية مؤقتة مع الفلسطينيين، ودراسة إمكانية التفاوض مع حركة حماس، إذ ليس حكيما تجاهلها فهناك ثمن يترتب على التجاهل»، وكان هاليفي قد أعلن مبكرا ومنذ خمس سنوات أن الحوار مع حركة حماس يعد إستراتيجية عاقلة يجب أن تسير الحكومة «الإسرائيلية» باتجاه إقرارها والبدء بها. أما الاتجاه الثاني، فيدعو للحوار المشروط مع حركة حماس، من خلال مصر وبعض الأطراف الأوروبية بعد استجابتها لشروط الرباعية الدولية المعروفة، وهي الشروط التي ترفضها حركة حماس وتعدها شروطا مجحفة ومقزمة ومهينة للنضال الوطني التحرري العادل للشعب الفلسطيني عندما تساويه بالإرهاب. ويقف في طليعة أصحاب هذا الاتجاه قادة حزبي العمل وكاديما، وهما اثنان من الأحزاب الرئيسية الثلاثة في «إسرائيل» الآن. أما الاتجاه الثالث، فانه يدعو للحوار غير المباشر مع حركة حماس، وفتح قنوات اتصال معها عبر أطراف مختلفة مثل مصر لحل القضايا الضرورية كما حصل في عملية تبادل الأسرى الأخيرة التي تمت برعاية ودور مصري أساسي. ويقف بنيامين نتنياهو وحزبه الليكود على رأس قائمة هؤلاء ومعه صف كبير من قادة حزبه وقادة بعض الأذرع الأمنية. وبعض نواب حزبي العمل وكاديما، ومنهم النائب (نحمان يشاي) رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى اغتنام الفرصة التي سنحت لدى الإفراج عن الجندي جلعاد شاليط بإطلاق عملية التحاور مع حركة حماس عبر جهات أوروبية أو مصرية، معتبرا في الوقت نفسه بأن تخفيف الطوق المفروض على قطاع غزة وتعميم «السلام الاقتصادي» المرفق بالاتصال غير المباشر قد يؤدي إلى الحد من رغبة «التنظيمات ‹›الإرهابية» في ارتكاب هجمات على جنوب «إسرائيل». ويبقى الاتجاه الرابع، الذي يدعو أصحابه لاستبعاد أي شكل من أشكال الحوار مع حركة حماس حتى لو قبلت بكل شروط الرباعية الدولية، معتقدا أن «الفرصة الوحيدة المتاحة للعلاقة مع حركة حماس تتمثل بتكريس هدنة طويلة الأمد معها»، ويتصدر هذا الموقف غلاة اليمين الصهيوني بشقيه القومي العقائدي والتوراتي، وعلى رأسهم مجموعات المستوطنين في مستعمرات الضفة الغربيةوالقدس وممثليهم، ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» الذي قال عقب لقاء عباس ومشعل الأخير في القاهرة «إن إسرائيل لن تعترف بحكومة وحدة فلسطينية مؤلفة من حركتي فتح وحماس إذا لم تستجب لشروط الرباعية الدولية» مضيفا أن «الاستجابة لشروط الرباعية الدولية من قبل حركة حماس يدفعنا للاعتراف بالحكومة الجديدة لكنه لا يعني قبول إسرائيل بالحوار مع حركة حماس». وخلاصة القول، إن لقاء عباس- مشعل في القاهرة، أعاد إيقاد وإشعال المواقف داخل «إسرائيل» بشأن العلاقة مع حركة حماس وكيفية التعاطي مع المستجدات القادمة في البيت الفلسطيني. ولكن يبقى القول بأن إمكانية حوار «إسرائيل» مع حركة حماس حاليا مستبعد في الوقت الراهن لأسباب لها علاقة بحركة حماس، ولأسباب لها علاقة بوجود حكومة يمينية في «إسرائيل» لا تستطيع أن تدخل مفاوضات حقيقية مع أي جهة فلسطينية.