قراءتي لديوان السي محمد السرغيني لن تكون دراسة نقدية انطلاقا من منهج أو مقاربة معينة، لأن النص كما بدا لي من خلال القراءة الأولى و القراءات المتتالية مستعص عن التحليل المنهجي، فهو نص معاند، و محاولة الخروجِ منه بخلاصاتٍ معينة أو وضع مداخل محددة لفك طلاسمه تكاد تكون شبه مستحيلة، و مناسبة هذا القول هي : أولا : أني لازمت هذا الكتاب لأزيد من ستة أشهر لإعداده للنشر ضمن منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب، حيث لم أكن أرغب مسبقا في أن أقوم بتقديم دراسة حوله، سيما أن متعة القراءة التي كنت أحس بها و أنا أراجع النسخة الأولى كانت تجعلني متورطا بعشق في النص . وثانيا: أن لقاءاتي المتكررة بالسي محمد السرغيني، في كثير من المناسبات و اشتغالي إلى جانبه من أجل إدراج التعديلات و التصويبات قبل نشر هذا الديوان، كانت تقربني أقترب من عوالم السي محمد الشعرية أكثر فأكثر، وأحاول قدر المستطاع البحث عن إضاءات للإشكالات و الأسئلة الكثيرة التي كانت تخالجني خلال قراءة هاته النصوص، فكنت أحاول أن أسترق منه بعض الإجابات التي قد تساعدني على حل بعض من ألغاز ديوانه، فكنت أنساق إلى عوالمه التخييلية بوعي تام و إدراك كلي متماهيا معها . و غالبا ما تكون إجاباته إشراقات ذات عمق إنساني، و ذات إحالات مرجعية، تنهل من الحكمة اليونانية و الفلسفة الإسلامية و البلاغة العربية و من المعارف الإنسانية الكونية. لهذه الأسباب، لم أفكر أصلا في تقديم دراسة نقدية لهذه النصوص أما اليوم فقد قررت أمامكم وبجانبي السي محمد السرغيني، ركوب هذه المغامرة النقدية * بالرغم من أن هذا الديوان قد ألفه الشاعر و هو جائل بين مجموعة من المدن المغربية شمالا وجنوبا، و طيلة ست سنوات (2003-2009)، فإنه يعتبر وحدة متجانسة تتمحور حول رؤية عميقة للشاعر لكينونة الوجود و الحياة عموما، و حقيقة ما قبل الوجود و ما بعد الحياة على وجه التحديد، رؤية تتمركز حول لعبة الخفاء و الظهور، و تنتقل من الحسي إلى الحدسي، و تنفلت من سلطة الصريح إلى سطوة الضمني، ضمن سيرورة الدلالات المتخمة بالمعنى، لتتسع لفصول من التأويلات المتعددة . لقد توزع هذا النص بين عالمين متمايزين : العالم السفلي (تحت الأنقاض)، و العالم الفوقي (فوق الأنقاض)، وهما عالمان غير متساويين: فعلى المستوى الكمي أي التوزيع داخل الديوان، نجد أن العالم السفلي لم يحظ إلا ب 20% من الديوان (40 صفحة من أصل 200)، لكنه حظي بالأولوية. فهو تصدر الكتاب، و هذه الأولوية لها مشروعيتها عند الشاعر، و إن لم يكن يصرح بها بشكل علني، لكنه يضمرها من خلال تحديد موقع الشاعر نفسه و علاقة الشعر بالكون . ستصبح المعادلة إذن متساوية (العالم السفلي = الشاعر)، فغياب الشعر و الشعراء عن الوليمة التي أقيمت تحت الأنقاض له مبرره، ذلك أن الانتقال من العالم السفلي إلى العالم الفوقي هو من مهام الشاعر فقط، وأن القصيدة انطلقت و تنطلق من الأسفل، فتبدو لك الصورة السيزيفية حاضرة بقوة في مطلع الديوان، فالوليمة التي حضرها و دعي إليها الكل «كان الشعر منشغلا عنها بملاحقة الألم الحي في الأعماق على متن دراجة عظامها ناتئة». ولادة الشعر عند الشاعر ليست قيصرية، فهي أكملت التسعة أشهر، فالبرولوغ الذي يستهل به الديوان هو تقديم للعالم السفلي «تحت الأنقاض»، يتكون من تسع فقرات مكثفة، تختزن مراحل تطور الشعر في الأحشاء الداخلية من جسم الإنسان، «لابد من تنسيل الحي من الميت»، أما في الفقرة الرابعة من هذا البرولوغ أي الشهر الرابع من الحمل، فتظهر الأخطاء الإثنا عشر عند الجنين. وهي أخطاء الإثنا عشر شهرا من السنة : أخطاء التاريخ، أخطاء المعرفة، أخطاء الإنسان، أخطاء الطبيعة، أخطاء البيولوجيا، أخطاء الجنس، أخطاء المعنى، أخطاء الزمن، أخطاء العصر، أخطاء السلطة، أخطاء اللذة،وأخطاء التنبؤ بالمستقبل. و في الفقرة التاسعة من البرولوغ، حين يكمل الإنسان شهره التاسع ، يولد عاريا على طبيعته كما تولد السلطة على طبيعتها عارية «ثياب السلطة زمنية و لا تستر عراءها «. أما الولادة التي يعنيها الشاعر : ولادة الشعر، فهي تقع خارج الرحم، و بهذا المعنى تكون الحياة قريبة من العهارة لكنها عهارة مشروعة، عهارة تتطلب «موقفا» «حكما» «قضاء». لكن إقامة محكمة لهذا الغرض تعد مستحيلة، «إن صح لي أن أحاكم الأرض و أنا اليوم فوقها وغدا تحتها»، هنا ينصب الشاعر محكمته الخاصة بالشعراء، فالادعاء يبدأ من تحت القدمين، كما كان الحلاج يفعل من قبل، حيث تستغرق المحاكمة حياة الشاعر بطول قامته، فينطق عن الحكم من الأعلى من العقل من السليقة، فلابد إذن، من إحضار الجينات الأولى المسؤولة عن الوجود،ولابد من إحضار النازي و البلشفي و الفاشيستي لتحليل سائلهم المنوي من أجل التمييز بين النباهة و السفاهة. يعيد محمد السرغيني بناء الحضارات الإنسانية بطريقته الساخرة، فهو يستدعي ملوك الطوائف، و حكام المماليك و الإمبراطوريات، و الخرائط و الجغرافيات، و يركبها في قالب استعاري في جمل قصيرة جدا، دونما حاجة إلى الروابط المنطقية و اللسانية التي يتطلبها المجاز وتقتضيها ضرورة الحكم، لكنك تدرك المعنى الحقيقي الكامن وراء ذلك المعنى الغامض الذي يصور لك الحياة و المعيش اليومي في صور سريالية ساخرة ، و لعلك تدرك ذلك من خلال تحديده لوظائف «القائمين بالأعمال»: الدولة و المواطن و السياسي و المخبر و العميل. و تفهم العلائق الاجتماعية و الإيديولوجية السائدة داخل المجتمع التي يحاول إيجاد مخرج لها دون أن ينال منها واقع الحال. و لعلاج الدولة بالمواطن و المواطن بالسياسي و السياسي بالمخبر و المخبر بالعميل و العميل بالتقنوقراطي، يُستحَب تصويب الأخطاء الشائعة بإقامة محميات في الضواحي لتنسيل الطيور النادرة. المحاكمة الحقيقية التي يضمرها الشاعر هي ليست لفائدة عامة الناس، بل هي موجهة لفئة الطيور النادرة، الفئة التي يتجند الكل لحماية نسلها داخل «منتجعات نائية» و من خلال هذه السلسلة من تداعيات الأحداث يصل بك الشاعر إلى الحقيقة الوحيدة التي توجه العالم السفلي (تحت الأنقاض)، و التي يكون النطق بالحكم من خلالها عادلا، هو الموت «فالموت فاكهة تؤجل تاريخ فسادها»، و هو (العنوان الفرعي للديوان) فلا غرو أن الشاعر يريد بنية مبيتة أن يقتل الإنسان / الشاعر ، في الصفحة الأولى من الديوان، على طريقة نيتشه في «هكذا تكلم زاردشت». الجزء الثاني من الديوان الذي يعنونه الشاعر (فوق الأنقاض) هو امتداد للعالم السفلي، هو سفر طويل نحو مصير مجهول، و كل عوالمه مبنية بناء اعتباطيا. إن الانتقال من الموت تحت الأنقاض إلى «الفوق» يعد لحظة راهنية فقط، لحظة تبدأ بما قبل الوجود و تنتهي بما بعد الحياة، لحظة مرور عابرة «وجودية»، يحاول السرغيني من خلالها تعرية واقع فوق كوني، ذي ضبابية زائفة، متينة و محمية، «فكيف يمكنك التنقل بين الأزمنة و الأمكنة، من عصور الثلج إلى حقب الغبار»! يتساءل تارة و يطالبك تارة أخرى باتباع الأوامر و النصائح، ويتهكم بأسلوبه الخاص، عن علاقة عامة الناس بعلمانيي ما بعد الحداثة، عن علاقة الفيلسوف بالخضار، و الشاعر بالخباز و العشاب، و الناقد ببائع السمك و بائع الدجاج، و هذا الا نتقال يمر حتما عبر مداخل معدودة، هي بالنسبة إليه عوالم الكون: هي مجرد أصوات و فونيمات، حركات و سكون، و حروف أبجدية لا تتجاوز الأربعين، يمكن تركيبها بالشكل الذي تريده، و يمكن شحنها بالمعاني و الدلالات التي تختزنها الكلمات و الجمل، كما يمكن أن تجعلها تنزاح من الحقيقي إلى المجازي، فهذا العالم الفوقي هو لغة اللغات، لكن بعد تعديل صيغها الجاهزة. وإذا كانت ولادة الإنسان- الشاعر من تحت الأنقاض قد أكملت الإثني عشر شهرا، فإنها فوق الأنقاض لم تكملها، فقد ازدان المولود خديجا، حينها يترك الشاعر تسيير إبداعاته لوكيل أعماله، والتخلي عن المعرفة و العلم و المشاعر : مما يعني أن كل شيء سيولد ناقصا، و يتطلب ترميما و صيانة، ليتم الإعلان عن إحراق مكتبة الإسكندرية .... يصرح الشاعر و بدون أن يدع لك مجالا للشك و لا وقتا للتأمل و للتساؤل أين أنت الآن ؟ أين هو ؟ يضع حدودا حقيقية للمكان : يمتد المكان من منابع التراب إلى حيث يريق البحر أمواجه، و حين تطلق لعينيك العنان للنظر و لا ترى سوى أفق ممتلئ بالرمل، فثمة حدودك مع القطب المتجمد، و حين تستدير لوضع الحد الآخر بنظرك، و لا ترى سوى زبد البحر الذي لا يغني و لا يسمن من جوع، فثمة الربع الخالي من الكرة المسطحة. أما حقيقة من أنت ؟ و من هو ؟ و من أنتم ؟ و من هي ؟ فهذا أمر بسيط للغاية، حقيقة هؤلاء القوم الذين يعيشون فوق هذه الأرض، هم أقوام لم يثبت لهم خير و لم يعلم من أي طائفة؟ إنهم جاؤوا عن طريق عملية تخصيب اصطناعي، لأن رحم الأرض لفظتهم قبل خلق الإنسان، نقلت جيناتهم الخصبة من جيل عانس ! إلى جيل عقيم ! فمن هؤلاء؟ ناس يعيشون جماعات داخل مغارة : - جماعة موتى لم تتغير محاسنهم و مفاتنهم، و قد صاروا جلودا و على رؤوسهم عمائم. - جماعة حرب و قتال. - اثنا عشر رجلا نائمون على اثني عشر سريرا . - امرأة واحدة داخل ثابوت و على صدرها رضيع . تتحدد إذن معالم الشخصية التي تعيش فوق الأنقاض و التي يرسم ملامحها الشاعر، فهي شخصية تبتلع الإهانة، ترضى بالجلوس على كرسي الاحتياط، لمدة قصيرة أو لمدة طويلة، حسب الدفء الذي تحس به، لكنها تظل حية بهوية مزدوجة، إنه «المجهول» الذي تدعمه صناديق الاقتراع العام، بأدوات مهملة، و تقطيع إداري مفبرك، وعن طريق حوار الجزر العائمة فوق الماء، والنتيجة تأتيك بمعالم موصدة . * نص المداخلة التي قدمت بها ديوان الشاعر : محمد السرغيني بمناسبة معرض الكتاب المنظم من طرف المديرية الجهوية لوزارة الثقافة فاس بولمان من 18 إلى 24 دجنبر 2012 بفاس