سجال الضباب من الصعب أن تقول ما لا يقال بما يقال عادة في مثل هذه المواقف ، من الصعب أن تقول صمت الشعر بكلام يسمونه تقديما أو نقدا . أقف عند عتبة الديوان محاولا أن أتخلص من ضجيج الكلام لألج عالما مدهشا جديدا ما كان ليعلن عن نفسه في النثر اليومي الذي يجمعني عادة بعمر العسري الصديق الناقد والإنسان . كان بيني وبينه إهداء كتبه أو رسمه في ما تبقى من بياض الصفحة . كدت أتسرع وأقول له : كنت أتمنى لو كانت يدك ترسم الضباب ..كان للضباب عندي شأن كبير ...كان الضباب هذا الغموض الجميل ، هذا العالم غير المعروف تماما وغير المجهول تماما تربطنا به أسئلة الوجود والكينونة ...الضباب هذه العتمة بين النهار والليل تغري السفينة بالتيه واليد بالكتابة. تذكرت ضباب كلود مونيه الذي قال بدون ضباب لم تكن لندن لتكون جميلة .. كدت اسأل فأحجمت وأضمرت الضباب في نفسي إلى جانب ظنون محتملة وأنا أقول في نفسي للكلمات حياتها الخاصة في الديوان وفي القصيدة، فلا يجب أن أتكلم الآن ولا يجب أن يتكلم هو ... لي "آخر" أشتقه من أناي به سأقرأ الديوان .. سيولد بعد اجتياز العتبة . سيكون مختلفا عني في وضعي الآن ، ولعمر العسري "آخر" الشاعر الذي يسكن أناه وهو يواجه البياض ليشكل رؤية جديدة بالحبر والتأمل . الشعر الرائع هو الذي يغير فينا شيئا ما . يشكل أعماقنا من جديد في عزلة تقطع مع الكلام، وتوقظ صمتا يليق بيد لا تريد أن ترسم الضباب. كلود مونيه لم يستبعد الضباب من حسبانه، وإن كان مأخوذا بالضوء أيضا لذلك فهو يرسم الموضوع نفسه في درجات مختلفة للضوء ...هل يفعل ذلك بدافع الاكتشاف والمعرفة أو لأنه متورط وجوديا في اللوحة أكثر من اللازم ويطمح إلى أن يحقق أكثر من بعد للكينونة الواحدة ؟... لا قدرة لي على التصدي لهذا السؤال الكبير لإعادة النظر في مفهوم الانطباعية الذي سجنه فيها مصنفو المدارس ، كل ما أعرفه انه كان يسعى إلى رسم المستحيل ، هذا الهواء الذي يحيط البيت والجسر والزورق ..الزورق الذي يحملنا دوما إلى عالم آخر ،غامض ، هنالك وراء الضباب ... تحد جميل لا مسته في يد الشاعر عمر العسري ، يد تطلق العنان للرغبة ، للمستحيل ... اسمع وشوشة الصمت في العنوان المشبع بالنفي ، أو قل بالرفض ..."لا ترسم الضباب" ...ثمة سجال خفيف، لكنه عميق لا يجب إغفاله ...العنوان قراءة الشاعر لديوانه ...العنوان موقف من الشعر، توجيه أول للقراءة وللتجربة ... لا يمكن أن نهرب من سؤال الصمت : ماذا يرفض الشاعر وماذا يريد.. ؟ لا إثبات بدون نفي ... ولا نفي بدون إنصات إلى آخر مختلف يحيل عليه هذا الرفض. عنوان حي دينامي يسائل الشعر بأكمله يوقظ القارئ من كسل مسلمات ما، يطمئن إليها ..يقول أدونيس الذي أشعل الحداثة الشعرية : "تزداد قيمة القصيدة عند بعضهم بقدر ما تقترب من سيماء شعر عرفوه ، أما عندي فان قيمة القصيدة تزداد بقدر ما تبتعد عن هذه السيماء بحثا عن سيمائها الخاصة " 1. ثمة شعراء آخرون، سبقوا عمر العسري، تحدث إليهم بشكل أو بآخر. ...الإهداء في الديوان في رأيي الخاص، يخرج عن العادة عما ألفته شخصيا في الإهداءات التي تتصدر الدواوين والكتب ..لا يخلو من حوار صامت ، بل قل من سجال خافت مع الأب بالمقارنة مع إهداء الديوان الأول للشاعر "عندما يتخطاك الضوء " الذي يبوح بانسجام مع الأم في مخاطبة العالم. أم استثنائية أغرقت العالم بكرم قلب، يعطي ولا يأخذ : " إلى أمي إكراما لقلب فسيح أغرق العالم" .جملة متبوعة بعلامة تعجب2 . في الديوان الثاني يد لا ترسم الضباب :" إلى أبي .../ ... حتى وان كنت أمشي في العتمة ، / فأحضاني ممدودة صوبك ../ لتعانقك "... 3 اعتذار مشوب بسجال شعري ناتج عن الاختلاف في المسار بين ابن اختار السير في العتمة وأب يمشي في الوضوح ... ثمة أبوة شعرية تحيل على من سبق يرد عليها بالرفض وان كان الرفض لا يفسد للمعانقة قضية ، هذا الانتساب المشترك لشجرة اسمها الأدب او الشعر ... الشاعر لا يرسم الضباب وإنما يمشي في العتمة ...إلى أين ؟ أي طريق سيسلك ؟؟؟ الشاعر / الناقد ورهان الخصوصية قبل صدور الديوان الجديد يد لا ترسم الضباب 2010 اصدر الشاعر قبله في نفس السنة 2009 ديوان "عندما يتخطاك الضوء " وكتابا نقديا "الفرشاة والتنين " ... الشاعر لا يصدر من فراغ والسجال ليس عابرا ...في النقد يكشف أن هدفه هو تسليط الضوء على مرحلة جديدة بداية الألفية التي حققت حسبه تراكما نصيا وجسدت مشروعا شعريا تخلص شيئا ما من رحلة وسطية اتسمت بملامحها الخاصة والتزامها الشديد بأمر الحياة والوجود مما اعطى دفعة جديدة للحركة الشعرية " 4 هذه البداية للألفية هي التي شهدت ميلاد قصائد عندما يتخطاك الضوء (أعمال كتبت بين 200و 2007 . 5 الشاعر منخرط في نفس الجغرافيا ونفس المشروع الذي تحدث عنه . مشروع واع بخصوصيته يتجاوز ما سماه الناقد بالوسطية وافهم هذه الوسطية باعتبارها ترددا اعترى التجارب السابقة بين الارتباط بالقضايا الوطنية والقومية وبين الانخرط في أسئلة الحياة والوجود .... إن عمر العسري حاول تجاوز هذا التردد خصوصا في الديوان الأخير وانحاز بوعي و إصرار إلى تبني رؤية شعرية مختلفة شأنه شأن شعراء الحساسية الجديدة الذين أصدروا أعمالا منذ بداية الألفية اتسمت بتفكيك العلاقة بالعروض الخليلي وتجاوز الرؤية الايديولوجية والابتعاد عن الغنائية ... اهتم عمر العسري بالاختيارات الجمالية والتي راهن عليها شعراء الألفية في الفرشاة والتنين وافرد لكل شاعر مهيمنا خاصا طبع شعره .فقد تميز محمد بن طلحة حسبه بالمراهنة على ما أسماه بجلال اللغة باعتبار القصيدة وجودا باللغة 6 ومبارك وساط اهتم بالمكون الوجودي المتجذر في اللغة في ديوان فراشة من هيدروجين ، ومحمد صابر تميز بالبحث عن الافق الوحشي ونور الدين الزويتني بالانا والتداعي المكاني ومحمد بوجبيري بالرؤية السوداوية المتألقة في ديوان لن أوبخ أخطائي . أثار انتباهي تقديم عمر العسري لهذا الاخير يقول عنه :"لن أوبخ أخطائي هكذا يسمي محمد بوجبيري عمله الشعري ، وهو بهذا العنوان يضعنا أمام تحد بالنفي آنيا واستقبالا ، ويجعلنا نتعامل مع نصوص الديوان بما قد تراهن عليه الكلمات والصورة الشعرية ، فكلاهما يفعلان أشياء قد تسعفنا في كشف نوايا العمل ومداخله المتخفية " 7 استطيع ان أزعم ان الذي يتحدث هنا هو الناقد الشاعر . ثمة نفي ، ثمة تحد ، ثمة سجال مبطن يستحضر آخر يدعي العكس . يتقاسم عمر العسري هذا الرفض مع الشاعر كما سبقت الاشارة الى ذلك في العنوان . ثمة رغبة او ما سماه الناقد نفسه نوايا العمل في تجريب الخطأ والمغامرة لقول شيء اخر مختلف يتجاوز الضباب او هذا الموقف الوسطي المتردد بين الايديولوجيا والوجود . اليد متورطة في الخطأ والأب غاضب والشاعر مصر على خوض تجربة مختلفة . القصيدة تشكل الرسم على طريقتها وما يثير الانتباه ايضا ان عمر الناقد /الشاعر يتوقف في بداية تحليله للرؤية السوداوية عند الترميز اللوني والذي اعتبره على حد تعبيره عضوا حيا يضمن وحدة النص 8 . اللون ليس عابرا ، عضو مؤسس للرؤية ...اللون يوحي بالرسم واليد متورطة في التشكيل والشاعر عازم على خوض تجربة شعرية تحتفي باللون ، يد تخيط الضوء وترتق رؤية تشكيلية توحد أجزاء النص على مستوى الديوان . دليلنا في ذلك. إن العنوان ليس لقصيدة بعينها وإنما وضعه الشاعر للديوان ككل على خلاف تجارب أخرى تنتخب عنوان قصيدة مدللة من بين اخواتها تمثل وجه الشاعر احسن تمثيل . اليد تتحدى وترسم الديوان ككل والرسم ليس عابرا ... حاضر في كل القصائد بدون استثناء ..كما يتضح من خلال المعجم الدال على التشكيل في الديوان : ريشتك ، ترسم ، اللون ، االلونية ، الألوان ، الظل ، ترسم، الرسم ، الإطار ، أراها ، الأزرق أبض ، ضوء ، البني ، أسود ، البياض ، اللوحة ، بياض ، رسمك ، قماش ، الكتان ، يرسم ، طبشورية ، البياض ، أصفر ، زهري ، وردي ، أبيض ، زجاج ، سيرسمك، الأبيض، الألوان،رمبرانت ،... إنه رسم للرسم ورؤية للوجود والشعر معا . انه رهان الشاعر، والصوت الذي يجيب به على الآخر، على الضباب، على هذا العالم الذي يفتت الأنا في غنائية متناثرة تكتفي فيها الذات بالتعبير ، برد الفعل ...العالم يفعل يتحرك والذات تنعكس في ظلال لا حدود لها . اليد رغبة وإرادة تنفتح على العالم ..تذهب إلى العالم ولا تنتظر ، يد محفزة بالسجال والتحدي. لا تعبر وإنما تشكل . لا تعبر عما هو موجود، إنما تسعي إلى ما يمكن أن يوجد . إن الفرشاة التي بدأت نقدا ..تابعت عملها الفني لا لكي تعبر عن التنين وإنما لتستفز عينه بالرسم الشعري هذه المرة لتوقظه من سباته العميق وهذا التنين ليس شيئا آخر غير أعماق القارئ ، قارئ الشعر ، قارئ ديوان يد لا ترسم الضباب . هزيمة الضوء في ديوان عندما يتخطاك الضوء في الديوان السابق عندما يتخطاك الضوء ، تنهزم اليد أمام الضباب لم تستطع أن تؤسس عزلتها لبناء عالم شعري ينتصر فيه الوجود التخييلي لم يستطع الشاعر تخليص يد الأنثى التي نكتب بها ذاتنا في المساءات من الموت يقول : مدي يدك /ستجدين يدي / كالمقابر ، مثل الموت / لا صوت فيها. 9 يد ضيعت المنجز الآني لأنها مأخوذة مزهوة بصناع الأمس واليوم والغذ ...يد لا تملك صوتها تسمع نداء أنثى الحلم ، أنثى الضوء، ولكن لا تستطيع أن تجيب أو تفعل لأنها عاجزة على مواجهة كلام الآخرين ، كلام اجتماعي يملأ فضاءات الزحام حيث لا يسمع صوت الذات ولا يتحقق التواصل مع الآخرين... في المقهى يجثم التاريخ والثقافة والذاكرة على صدر الشاعر فيسحق الصوت يقول : لا معنى للقهوة في يوم كهذا /لا معنى للقهوة في أمعاء مقطعة /لا معنى للقهوة والذاكرة عصماء عنيدة /لا معنى لقهوة سوداء في فنجان ابيض 10 لم يستطع الفنجان الأسود أن يسمع صمت العزلة الشعرية أمام ارتفاع أصوات الإشهار التي تسوق كلاما أخر لا علاقة له بالإنسان المتأمل (مر كإعلان إشهاري لمنتوج نفذ) . في ديوان حين يتخطاك الضوء تعي اليد ذاتها وتعي الأخر، إلا أنها لم تستطع الانفلات من ضغط الواقع الاجتماعي بكل أبعاده مما قلص من حجم الحلم بالضوء ، حلم ولادة ضيق هزمته أصوات الآخرين : فكان الحلم الضيق على ملمس من يدي /وبدت الأصوات تداخلني /تلج المسمع دون استئذان 11 مما يؤدي إلى انكسار التواصل والتفاعل مع الأخر الغائب يستهلك الحياة بطريقة روتينية جلوس ونوم وصحو اجتماعي غير صاح لا غد له وتبغ وشاي وكلام مكرور متشابه يفتقد إلى القول ( وأنت كرزمة كلام لا قول فيها) 12 ما يفسر انكسار اليد في الديوان الأول هيمنة المكان الاجتماعي المقهى ..مكان مستبد هو من يتحكم في إنتاج أفعال لا لون لها ذوب صوت الشاعر في الزحام .وغلبة الآخر الاجتماعي (سليلك خليلك الأخر ) بصيغة المفرد وهو دائما معاد للذات (تلعن دمك )13وبصيغة الجمع هم ( لما قطعوا حبل السرة 14 جميعهم يرسمون السنابك 15 وهو ما يفسر أيضا تضييع اليد لصوتها المفرد وذوبانها التام في متكلم جمع كما هو الحال في قصيدة الفتوحات التي أنست الشاعر التأمل في الذات والوجود فنغم بالكامل في انأ جماعية تتحدث عن هموم التاريخ والعجز اللذيذ إلي يستعيض بفتوحات الأمس عن هزائم الحاضر ( نطالع أشواط التاريخ من أكواب الهزيمة ...جميعهم يرسمون السنابك / والسيف يميل مع الشمس /والظل ، حيث كل شيء يميل جهة النصر 16 انطلاقا مما سبق يتبين أن اليد لم تولد بعد في الديوان الأول وان وعت أزمة علاقتها بالآخر ، يد مترددة بين بحثها عن صوتها الخاص وبن ضياعها في الزحام واندغامها حينا آخر في صوت جماعي يذكرنا بالوسطية التي انتقدها الناقد في الفرشاة والتنين ولكن لم يستطع أن يتخلص منها تماما في هذا الديوان ..بين الفينة والأخرى يتصاعد صوت الايدولوجيا الجماعية ليحول بين اليد وصوتها الخاص . حلم اليد بصوت يراود الضوء عن نفسه في الديوان الثاني ابتعد الشاعر بمسافة أو مسافتين عن هذا التردد وهذه الوسطية في تحد واضح وسجال مبطن أو صارخ وسعي للخروج من جلباب الأب وتجاوز للأنا الجماعية التي صارت أخر منفصلا يحتج ضدها ويرد عليها وهو ما لاحظناه آنفا في عتبات الديوان وتؤكده القصائد الأخرى الرافضة للضباب ...في القصيدة الأولى دوائر مائية تعيث اليد دمارا وخرابا في كل بناء أو سد يحول دون حركة الماء في جمل استفهامية مستفزة توقظ القارئ من سبات العادة : لم اخترت أدراج المياه / وتركتها تتنكر لحجمها ؟ / تخون كل شيء / لم الأرض قريبة جدا ؟/هل ثمة انخفاض حادث ؟/ هل ابتاع الماء السماء ؟/ هل بفوقية يعامل العلو ؟ 17 يد سجالية غاضبة تتخلص من ضغوطات المكان الاجتماعي تأخذنا إلى عالم شعري آخر .. عالم ممكن تشكله اليد .. ترسمه من ضوء على طريقتها وبصوتها .. اقتراح شعري لا جتياز المسافات وللارتفاع عن انخفاض الأرض وتسريع الخطى عموديا نحو الماء أوليس الماء الذي يسقط من السماء قادرا على العودة إلى موطنه الأصلي وتسلق الممرات الصاعدة ... والصعود لا يكون إلا برسم الأدراج الإسمنتية نفسها ...القصيدة تفتح إمكانية أخرى لصعود أدراج العمارة الإسمنتية ..يد الشاعر تقترح والخطى تستجيب ... ادخل مع الشاعر إلى قصائد الديوان ...عفوا ادخل الديوان ..، ادخل رواق الديون وإذا القصائد لوحات تستقبلك تبشرك بميلاد الضوء شريطة الارتفاع إليها ...للصورة الشعرية قدرها الخاص ولها شروطها ... وإذ اصعد انزل إلى أعماقي ..جدلية شعرية تعاش ولا يفكر فيها .. لوحات فاتنة ...تغري تنادي لخوض تجربة الضوء واللون : لم تعيث حياتنا فتنة ؟/ لم تدفن أسرار الحياة في اللون ؟/ عجلتك اللونية أغارت علينا / مزيدا منها حتى نتيه / في وحشة الألوان 18 ليس مصادفة أن تتموقع هذه القصيدة المائية بداية الديوان ، فهي مدخل الرواق وحلم الماء بالحركة وإعلان عن رغبة كانت مكبوتة في الديوان الأول الذي يقول : قالت : لا تسر خطوة ، لا تقترب / لا شك أن خطوك موت / حالما ستبصرني / سيتخطاك الضوء .. 19 ادخل إلى الرواق تسبقني عيني.. اسمع ما تراه عيني .. يد ترسم الرسم ..يد ترسم الفرشاة والفرشاة مزهوة بنفسها تحلم بالضوء وتستدعي كل الإمكانيات لإبداع عالم جديد ...هل انتهى عصر الأذن في شعرنا العربي والمغربي بصفة خاصة ...الأذن تكتب الجاهز .. تكتب التصفيق في اللفظ والمبالغة في التشبيه والمعنى الجاهز الذي سبق ان صادقت عليه الجماعة ... ها أنا الآن في الرواق وحيد، أحمل عزلتي وانتقل من لوحة إلى أخرى . رؤية تشكيلية للعالم وللأشياء ...لا شيء جاهز ...لا قراءة من اليمين إلى اليسار ولا من الأعلى إلى الأسفل ...الأعلى في الديون فضاء احتله البياض وملأه الشاعر بالصمت لتنشط العين وتقرأ ما لا يقال ..بضع كلمات مسودة في أسفل الصفحة ومساحة شاسعة للصمت والبياض على العكس تاما من توزيع الفضاء في الديوان الأول الذي يجتاحه الكلام من كل حذب وصوب من التاريخ والآخر والمجتمع ... نحن أمام رؤية تشكيلية مختلفة ...القصيدة التشكيلية ليست جديدة على الشعر المغربي منذ السبعينيات، خاض كل من بنسالم حميش ومحمد بنيس وعبد الله راجع وبلبداوي وحسن نجمي تجربة التشكيل فنوع الخط ليكون خطوطا وطوعت الخطوط لتكون جسدا وسرعان ما تراجعت التجربة وصارت الكتابة الكاليغرافية نسيا منسيا ...والمسألة تحتاج إلى دراسة عميقة في هذا المجال لتسليط الضوء على تركة الأذن الضاغطة على رؤية العين للشعر والوجود . وهذا ليس مجالها ألان ... إن الرؤية التشكيلية في الديوان لا يمكن فصلها عن الرؤية الوجودية للشاعر ..شاعر لا يقول ...وإنما يتأمل وقارئ لا يقرأ ولا يسمع وإنما يعيش ما لا يقال تبعا للصورة الشعرية التي تقترح عليه ... البحث عن الضوء ليس محتوى جاهزا ولا أفكارا حول وضوح الرؤية لصناعة مستقبل وإنما تجربة انفعالية نفسية نؤسسها في فضاء العزلة ... قصيدة رغبة تعترضها الطيور تعلمنا الرؤية وتدربنا في تمارين حلم لانهائية على الرؤية رؤية العالم في تشكلاته المحتلفة ...هكذا أراها / لازمة تكررت 12 مرة في الديوان لا فضاء اجتماعي خارجي يفسد متعة البحث عن الضوء ...لا فضاء معد مسبقا ...العزلة تختار مكانها تبعا لإيقاع التأمل ... أدراج تتخلى عن اسمنتها المسلح وترسم وتصبح قابلة للصعود إلى السماء ...ثقة الحالم في حلمه تغير الفضاء وطريقة التحرك فيه ليصير السفر عموديا ، تيها فاتنا ...الفضاء في القصيدة غرفة عزلة تعيد تشكيل الوساوس وتأويل هزائم الرسم : تنام على فراش غريب /تودع أحلامها بجوقة وساوس / حين أخفقها الرسم / سقط الإطار / مضى اللون الأزرق / استوى سيدا لا ينام 20 الكلمات في القصيدة تبدع من الهزيمة انتصارا ...طموح الحالم اكبر من الإطار الذي يسقط ، مما يوقظ الأزرق وينبهه ليتخلى عن حياده وهدوئه لينخرط في حلم اكبر تغذيه وساوس الشاعر يريد لليد أن تنتصر وما انتصارها إلا عودة الصوت الذي فقدته في الديوان الأول نقرأ في اللوحة 2و3 : هكذا أراها تنام على فراش غريب / تودع أحلامها /..... هكذا أراها تفارق كفي تسقط ...ما كانت الأرض غير حجارة تصدر صوتا من يدي فاجأني جسدي يصوغ المجيء ، يستعيد دما من هي ؟21 في رواق الديوان القصائد /اللوحات تتنفس هواء واحدا .. الديوان قصيدة كبرى تجمع النصوص في أضمومة متعالقة ..القصيدة تولد من القصيدة وهو ما يدفعني الى التلصص بعيني اليسرى على القصيدة /اللوحة السابقة وأنا أقف على النص/اللوحة الجديد ... قصائد ترسم ما لا يمكن رسمه ، هذه الحركة الدينامية في السفر الكبير إلى الضوء .. ترسم الزمن ، هذه اللحظة الشعرية المفاجئة المباغتة التي ينبثق فيها الوجود وتتجلى الحياة عبر حيويتها من خلال صورة لها زمنها الخاص المستقل عن زمان الحياة . الشعر الأصيل ينتج لحظته 22. يد ترسم بخفة بارتجاج حاصل في الرؤية 23 . لا ثبات في الرسم اليد طموحة إلى خراب جميل تتجاور فيه الموت مع الحياة .. فراشة تنسج قيامة أخرى 24 الضوء سيد الموقف ومعه لا مهادنة .. طرد جميل للحجب وللضباب لتستوي اللحظة الشعرية في ميتافزيقا أبدية واثقة من نفسها . إن الضوء في الديوان لا يهادن الضباب ، فهو يحرقه .اليد طموحة جدا ، تسعى إلى التقاط ما لا يمكن لثبات الرسم أن يرسمه ، تحركها إرادة شاعر يريد القبض على لحظة شعرية لا تتحمل حدود الإطار قوتها وعنفوانها . هوامش 1 ادونيس .زمن الشعر. دار الفكر. لبنان. ط 5. 1986. ص 147 2 عمر العسري .عندما يتخطاك الضوء .مكتبة الأمة . الدارالبيضاء .ط1 .2009 3 عمر العسري .يد لا ترسم الضباب دار ارابيسك .مصر ط1 .2010 . ص7 4 عمر العسري . الفرشاة والتنين . مكتبة الأمة. الدارالبيضاء .ط1 .2009 . ص 9 5 عندما يتخطاك الضوء ص6 6 الفرشاة والتنين ص15 7 نفسه ص 60 8 نفسه ص60 9 عندما يتخطاك الضوء ص36 10 عندما يتخطاك الضوء ص 32 11 نفسه . ص11 12 نفسه. ص9 . 13 نفسه. ص 9 14 نفسه ص 11 15 نفسه ص13 16 نفسه ص 13 17 يد لا ترسم الضباب ص 9 18 يد لا ترسم الضباب ص12 19 عندما يتخطاك الضوء ص 37 20 يد لا ترسم الضباب ص16 21 يد لا ترسم الضباب ص16 22 جاستون باشلار جماليات الصورة. د.غادة الإمام التنوير بيروت لبنان ط . 1 . 2010 ص99 ) 23 يد لا ترسم الضباب ص 66 . 24 نفسه. ص 67 . المعرفة تقتل..وحده الضباب هو ما يجعل الأشياء تبدو ساحرة... ...أوسكار وايلد