صدرت للشاعر المغربي عمر العسري أضمومة شعرية تحت عنوان «يد لا ترسم الضباب»1 من الحجم المتوسط، وبلوحة الغلاف التي يعبر شكلها الأيقوني على مضمون الديوان، وقد تضمن مجموعة من القصائد التي تندرج في إطار شعر التفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحر. لكن الحرية هنا لا نقصد بها الفوضى و العبثية في نظم الشعر، وإنما نقصد بها التحرر من قيود وأوزان وسيمترية الشعر التقليدي، وإطلاق العنان لشعرية القصيدة ومخيال الشاعر وفكره للتعبير عما يحس به من آمال وآلام شخصية وقضايا وجودية، قد يتفق أو يختلف فيها الشاعر مع القارئ. ونحن، في هذه الدراسة، سنركز على المشترك الثقافي والمضمر الخفي الذي يجمع الملقي والمتلقي، من خلال مجموعة من التقاطعات البنيوية والدلالية والسميولوجية، التي يلتقي فيها هذان القطبان المشكلان للعملية الإبداعية، باعتبار أن الملقي يحقق ذاته من خلال لذة الكتابة والمتلقي يجد نفسه ومتعته في لذة القراءة، وفي نقطة التلاقي تلك ينتج الملقي والمتلقي نصا آخر، يشترك فيه الإثنان في تحديد الرؤية وتقاسم المشترك الثقافي و المعرفي، وخاصة أن الديوان تطغى على مقاطعه الشعرية لغة التعميم المفضية إلى النبش في ذاكرة المتلقي لتحريك مخزونه و موروثه الجمعي والجماعي. ألم يقل مرة البلاغي الكبير السجلماسي: الشعر ما استفزك؛ أي خرق أفقك وبعث فيك القلق والفضول. إن أول شئ يمكن أن نشير إليه بصدد هذه الدراسة هو الاعتراف بسيطرة وغلبة لغة الإيماء على لغة الإيحاء، إن لغة الديوان على العموم لغة إيحائية تنزاح بشكل حاد لتتخذ شكلا من أشكال التعبير السريالي الذي يحول اللغة الشعرية من الملفوظ الصامت إلى الملفوظ الصائت الذي يتحرك في فضاء القصيدة وكأنها لوحة زيتية تتناغم وتتعانق فيها الألوان لتجدب وتستأثر باهتمام المتلقي، بأسلوب يبدو عبثيا من فرط الفوضى واللامعقول. يقول الشاعر : « سيخرجن ليلا يبحثن عن إبرة القمر حين تدلف الروح فوق ساقية النجوم النافذة تصنع العالم... تخلق فتاة تسير بمحاذاة الريح بعينين مفتوحتين»2 فقارئ هذا المقطع، والديوان ككل، سيشعر بجمالية اللغة حين ترفع الحس القرائي للمتلقي من مستوى الملموس إلى مستوى المحسوس، وخاصة عندما تختلط اللغة الشعرية بالأزمنة و الأمكنة فلا يستطيع التمييز بين ما هو لغوي وما هو تفضيئي زمكاني تتداخل فيه الأهواء وتتحاور، وتعبر سيميائيا بخلق لغة ثالثة يمكن أن نسميها تجاوزا ب»سميائيات لغة الأهواء» التي لا تخضع لأي منطق معياري؛ لأنها لغة مليئة بالقرائن الإشارية التي تدل على حضور الملقي والمتلقي سيميائيا ودلاليا في المنجز الشعري. «الصوت تعدى الإطار معلنا رغبات استطالت على قماش قصير مثل فوهة الجبال»3 وهكذا لا يمكن فهم قصائد الديوان وتذوق جمالياتها وتمثل سياقها دون استحضار عنصري اللعبة الإبداعية بين الملقي والمتلقي، وكأن هناك اتفاقا مسبقا بينهما، وهذا يبين أهمية استحضار الملقي لنوع المتلقي ومستواه الثقافي وقدرته على اقتناص اللحظات الجميلة في المقاطع الشعرية، وتمثل الجوانب الفنية و الجمالية و الدلالية التي تسري بين السطور وعبر نتوءات القصيدة صعودا ونزولا، الشئ الذي يسهل عملية التواصل و الاندماج بينهما على المستوى البنيوي و الدلالي والسميائي. لكن السريالية هنا ليست بالمعنى السلبي وإنما بمعناها الإيجابي إنها سريالية واقعية جدا من لحم ودم ودموع وزفرات الملقي التي تلتقي مع دموع و زفرات المتلقي، إنه يعبر عن معاناة نفسية بلغة ينقصها المنطق و النظام. وعندما نتحدث عن المشترك الثقافي و المضمر الخفي بين الملقي و المتلقي في ديوان «يد لا ترسم الضباب» يجب أن نستحضر البنية العاملية التي تعطي للمقطع الشعري دينامية وحيوية، حيث تتحرك اللفظة من حالتها المعجمية السكونية إلى حالتها الدينامية الدياكرونية، ويتحقق هذا عندما تأخذ شكلا تعبيريا يفهم في سياق الجملة الشعرية، وهكذا تتعدد الدلالات بتعدد القراءات وتعدد الرؤى الفكرية والأيديولوجية. ولهذا نجد بأن البنية العاملية تتغير بتغير الضمائر وكذلك بتغير الأفعال بين الماضية والمضارعة في القصيدة الواحدة، لتزداد القصيدة توترا وتأزما، لأنها في صراع دائم بين ذاتين ذات الملقي وذات المتلقي، وبين الذاتين يكمن النص الشعري وتكمن الدلالة والمعنى العميق للقصيدة. ومما يزيد في مستوى التأزم والتوتر الدلالي هو تواري الشاعر-الملقي- وراء الضمائر لتوريط المتلقي وحثه على المشاركة في تحديد الرؤية واستكمال المقاطع الشعرية، وملء الفراغات والبياضات البلاغية التي يتركها الشاعر عنوة للزج به في أتون القصيدة ومضمار اللعبة القرائية في مستوياتها المختلفة، حيث تتناغم القراءة أو تتضارب وغالبا ما يكون هذا التضارب و الصراع مقصودا، الهدف منه توسيع مجال الرؤية إلى العالم وتقديم الحلول الممكنة والمتخيلة لمجموعة من القضايا الكونية و الوجودية التي عبر عنها الشاعر عمر العسري بلغة الشعر بدل لغة الفكر. وتظهر دينامية النص وحركيته كذلك في توتر الجمل الشعرية عبر بوابة الصورة الشعرية المتنافرة الأطراف فتحيا القصيدة ويحيا معها البعد التراسلي بين وعي الملقي وعي المتلقي.يقول الشاعر: «مشى الزجاج إلى الماء غاص في الضوء العميق حيث الزورق جسد أعزب على ظل الصنوبر أهو الأمس يرمي رماده على دوائر الماء؟»4 فالشاعر عندما أنسن الزجاج وجعل منه كائنا حيا يمشي على الأرض،كان يهدف من ذلك استفزاز القارئ واستمالته إلى مقصدية القصيدة، التي تهدف استفزاز ذهن المتلقي لمعرفة مدى قدرته على تقبل متناقضات الصورة الشعرية، في حركيتها وفي خلقها لهذا المشترك الثقافي بين الملقي والمتلقي. فليس المقصود من الصورة الشعرية المعنى البسيط، وإنما المقصود منه دلالات أعمق قد تتجاوز المعنى الذي حدده الملقي وعبر عنه شعرا، وهكذا يلتقي الملقي والمتلقي في المعنى القريب وهو التعبير عن ندرة الماء الذي هو رمز الحياة والنماء، إلى درجة أن الزجاج أصبح متشوقا لمعانقة الماء، عكس الوصف الطبيعي حيث يمشي الماء إلى الزجاج في حال الوفرة و النماء. هكذا يخلق كل من الملقي و المتلقي مستوى معينا من الفهم قد يتسع ويضيق حسب قدرة الملقي و المتلقي على خلق هذا المشترك الثقافي وهذا المضمر الخفي الذي يتقاسمه الطرفان ويعبران عنه أثناء عملية التلقي و التأويل. وإذا كان الشاعر عمر العسري قد عنون ديوانه ب»يد لا ترسم الضباب» فقد استطاع من خلال فرشاته رسم الضباب بواسطة الكلمة المعبرة الموحية والمشحونة بكثير من الدلالات، لقد استطاع السفر بالقارئ إلى فضاءات أوسع من خلال الصور المتناقضة والمتناغمة في نفس الآن، متناقضة المعاني لكنها متناغمة على مستوى الحس الشعري والجرس الموسيقي الذي تولده المقاطع الشعرية في نفسية المتلقي. يقول الشاعر: «ترسمه بخفة بارتجاج حاصل في الرؤية يغير على المكان يطرد الهواء بالنار خلف المعابد القديمة قرب الفضيحة الناعسة وحيدة منزوية مبتسمة نورانيتها رحلة منكسرة مخطوطة بيضاء»5 بمعنى أن الشاعر عمر العسري كثيرا ما يبعث فكره شعرا ليفسح المجال واسعا للقصيدة الشعرية لتعبر عن نفسها من خلال لمساتها الفنية والجمالية ومن خلال مقاطعها الشعرية والشاعرية وفيها يلتقي مع قارئه، وخاصة عندما يخاطب المجهول ويرمي عليه حمل الحياة ومعاناة المعيش اليومي ولكن في سياق تلميحي جميل. يقول الشاعر: «أيها التنين يا نارا تمتد إليها الفرشاة توقظك بزانة اللون تجعلك شريك الهتاف و العبادة نارك ......نارك سردت أضواءها التائهة كيف صارت النار فتنة تسحل الحياة من الحياة؟»6 إن الشاعر في هذا المقطع الشعري يعبر عن قسوة الحياة، وعبر عن هذه القسوة بقوة الكلمة وعنفها حيث لم يكتف باختيار اللفظة المناسبة للسياق الدلالي فحسب، بل زاد في تعميق الدلالة بتكرار اللفظة للزيادة في عمق المعنى بل بالارتكاز على الصورة البلاغية العميقة التي جعلت الحياة تسحل الحياة من نفسها. ولعل أسلوب النداء وتكرار حرف السين و الشين في هذا المقطع كان الغرض منه إثارة انتباه المتلقي من أجل متابعة ما يلي من مقاطع شعرية، وكان التركيز على الجرس الموسيقي هنا أكثر من الاهتمام بمضمون الخطاب الشعري، وهنا يلتقي مرة أخرى الملقي والمتلقي في مستويات حسية وجمالية. وهكذا فإن للشعر أهمية كبيرة في ربط العلاقة بين الشاعر والقارئ في رسم صورة مشتركة ومخيال مشترك وثقافة مشتركة يمكنها المساهمة في خلق رؤية إلى العالم تتميز بالصراع المفضي في نهاية المطاف إلى رسم خارطة طريق تجمع الملقي والمتلقي. ويبقى ديوان «يد لا ترسم الضباب» مغامرة شعرية ذات صوت متفرد تمتح من عوالم مختلفة، وتغوص في كنه الخيال والتجريد لتترجم هواجس وآلام ورهبة أعلن من خلالها الشاعر عمر العسري عن موهبته بقوة التعبير ودينامية اللغة ونغميتها. وبحس نادر وأصيل، متفرد في الأسلوبية والتقنية والأدوات الشعرية الناضجة التي تنسج الشعر وتؤصل نهجا شعريا يوحي أن ثمة غيوم فرح جديدة تمر بهدوء في سماء شعرنا المعاصر. الهوامش: 1- عمر العسري، يد لا ترسم الضباب، دار أرابيسك- القاهرة، 2010. 2- يد لا ترسم الضباب، ص.55. 3- يد لا ترسم الضباب، ص.42. 4- يد لا ترسم الضباب، ص.59. 5- يد لا ترسم الضباب، ص.66. 6- يد لا ترسم الضباب، ص.69.