أن تكتب عن محمد بنطلحة شهادة أو دراسة، يعني أنك تزمع الدخول في تجربة تُدلفك إلى مجموعة طرق وأقبية وأفنية شعرية وجمالية تحتار في أي سوف تمضي، وبأي حصيلة سوف تخرج. بينما قيمة ما سوف تكتبه يُلازمك بأسئلته وألقِه. أن تكتبَ عن شاعر يقترح عليك دوما تعاملا خاصا مع مُنجزه الشِّعري، وفي سياقات مختلفة لكنها تتصل بالمعنى التخييلي الباذخ إزاءَ مفهوم الكتابة الشعرية. وكأنه حساسية فريدة ووحيدة، لكنها غفيرة بدلالاتها؛ أي رصينة ومتوازنة فيما تعنيه صلابة وجمال الأحجار الكريمة. وأذكرُ أنني حملت معناه الشعري معي في كل مرة ألتقي به، لأن الأمر تجاوز ألفة القراءة إلى حد الانصات العميق، والتلقي الإيجابي. والأمر نفسه تبدى في الكتابة عن شعره، من خلال منجز نقدي شعري موسوم بالفرشاة والتنين: مصاحبات نقدية في الشعر المغربي المعاصر، من مبحث جلال اللغة الشعرية. فما يحكم عالمه الاستعاري هو توجهه إلى موضوعه ليس برصد التفاصيل واستنطاق الوجود، بل بالاشتغال على اللغة وتقديمها انطلاقا من موضوعها، لعلها مقاومة من اللغة وإليها، إنها مواجهة مدعومة بالتخييل، و متأتية من إحساس دفين بخراب العالم. أن تكتب عن محمد بنطلحة، أنك إزاء شاعر اختار الشعر عقيدة، واللغة منفى، والاستعارة إقامة، فكان في كل دواوينه يروي رواية شعرية مليئة بفصول كتبها بإيقاع النشيد، وبصمت الموت، وبصفاء الماء، وبذنب الخطيئة، وبغرابة الأسطورة... فهو على كل الاحتمالات مُربك، ومُقنع، ومُمتع، وخَارقُ شيء، وخالقُ أشياء. يعني أن بنطلحة لم ير العالم انطلاقا من ترسيمة محددة، أو سائدة، وإنما من استدعاء لغوي مقارب تتضافر فيه عدة عوامل لا تَتقصدُ ضبطه، أو معاينته، بل التأمل فيه وإجماله بالنظر وربما تأويله. إنها رؤية أرادت أن تخلقَ إحساسا قويا بما في داخل وخارج العالم، هو الفاعل بالكتابة ما فعله هوبر بالرسم. استنفدَ العالمُ معناه الأول والثاني، وبدت التجربة ككل تَجُوب الحواف والتخُوم، وتنبعُ من رؤيةٍ لا تَترصّدُ الأشياء والعناصر في انتظامها أو انتثارها، وإنما تخُط لِنفسها مسارا مُخصِبا من دون مرايا أو أقنعة. اختار شعر بنطلحة، بحسبي، لغة المغايرة التي تكتسبُ مفرداتها بعدا جديدا، لأن علاقة غير مألوفة وغير مطروقة ربطت بينه وبين الشعر لتَسْتَوْلِدَ بدورها علاقة جديدة مع مفردات الحياة ذاتها. هذه العلاقة لم تَتأَت إلا لكون رؤية بنطلحة كانت لها أنسجتها الفريدة مع عالم غير مفهوم، وإنما قيد الفهم. لم يعد العالم مفهوما ومرئيا ومقبولا ضمن تركيب لغوي في وعي الشاعر، فصار لزاما عليه أن يعاين العالم بعين تراه في صيغة يتقبلها هو؛ أي صيغة المشي على ذيل النمر. أن تكتب عن محمد بنطلحة، أنك إزاء شاعر مهتم بالصفاء الشعري، ليس بالمعنى الفاليري الذي يجنح إلى بساطة اللغة، بل إلى تصوير اللغة باللغة، وتمثل الحياة القصية البعيدة عن عناصرها. وهي حياة ترسخت في وجدان الشاعر وارتسمت معالمها في كل دواوينه وتنمنمت وفق انتظام مفعم بالصدق والوجع والزخم. محمد بنطلحة صاحب ظلال وارفة على القصيدة المغربية المعاصرة، بل وفي ممارسته النصية نستطيع أن نكتشف مجموعة متنوعة من المعاني والقيم والظواهر الفنية، إنه بحق، تجربة بالغة الثراء من حيث تشكيلها الفني والجمالي. 1