أربعون عاما والحكم الدكتاتوري في سوريا استطاع أن يرسم أقدارنا، فشرد من شرد، واغتيل من اغتيل منا، وشرعت السجون أبوابها لكل من فكر أن يلفظ جملة واحدة عن النظام القائم، كنت ككثير من المشردين الذين كانوا يضربون بأقدامهم هذه المدينة أو تلك من العالم يستجدون جواز سفر أو بطاقة هوية, بينما كانت دمشق تعيش خلف أسوار وأبواب حديدية ترتفع فيها التماثيل لل (قائد المحرر) في حين أن جيوش المخابرات السرية تنتشر وتكبر وتتكاثر اعدادها حتى في المنافي، كنت أعتقد دائما بعودتي إلى دمشق أو أدلب، أو حلب أو أية مدينة سورية، ولكن العودة كانت شبه مستحيلة، وتحول البحر الأبيض المتوسط الذي يفصل بين سورية وأوربا إلى بحيرة من الدماء، وإلى مسافة فاصلة لا يمكن عبورها. إن أجواء المنافي قاسية وعندما تفقد الوطن لا يمكن لوطن آخر أن يكون وطنك. بدأ العمر يتقدم بي وأصبحت كلمة العودة هي الكلمة المستحيلة, وخلال سفري الطويل في المنافي فقدت أبي وأخي واخواتي, رائحة التراب التي لمتهم كانت تزكم أنفي، وكم شهدت غرق مدن الغربة الباردة الرطبة بسيل الدموع، لم يكن النضال للعودة أمرا سهلا فقد أحكم الدكتاتور قبضته على رقابنا وسكن الخوف قلوبنا وأصبحنا تائهين في بلاد الله حيث انتشر النفي السوري على طول خارطة العالم. في مدن أوربا الباردة... في مدن الخليج الحارة... وراء البحار، وقيل لنا أن سورية لم تعش نزيف أبنائها بهذه الطريقة أو تلك من قبل حتى في زمن الاستعمار الفرنسي. منذ بدأت الثورة السورية، ورفع الجيل الجديد صوته ينادي بالحرية وأنا أتأمل وجوه هؤلاء الصارخين بغضبهم عبر شاشات التلفزيون, غير مصدقة أن سورية تحاول أخيرا فك قيودها. كما لم أكن أنا المتابعة لكل همسة في الوطن أصدق أن اليوم قد جاء لكي أجمع اشيائي الصغيرة التي حملتني أياها أمي يوم غادرت سورية إلى بيروت سرا كأنني ارتكبت جريمة لم أعرف ماهيتها وأغادر الشرق الأوسط بعيدا. كنت أجد في مدن عربية أخرى وطنا مؤقتا يذكرني أن لي أمة، وأن هذه الأمة رغم كل محاولات تمزيقها الى دول وحدود حقيقية هي أمتي, لكن لا بديل للمرء مهما كان بديل مسقط رأسه دافئا أن يشعر بالدفئ. في بداية الغربة حاولت مع رفاق لي أن أناضل من أجل السجناء الذين تركتهم ورائي وكان عددهم يزداد كل يوم وتزداد لأجلهم سجون جديدة ويعلم لأجلهم جلادون جدد. لقد مات بعضهم في السجون بعد أن أمضى ثلاثين أو أربعين عاما، وصمد بعضهم ليرى نور الحرية ثم يفارق الحياة متأثرا بجراح سجنه، ومما كان يؤلمني أن هذا الغرب الذي يجيد التحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية عندما كنا نحدثه عن آلامنا ونطلب تعاطفه معنا كان يوصد أبوابه دوننا ولا يريد أن يسمع، وأتذكر اليوم أن بيانا من أجل اطلاق سراح السجناء السوريين أردت توقيعه من قبل بعض المثقفين الغربيين وجدت صعوبة بالغة في اقناع أولئك المثقفين بتوقيعه, فبعضهم كان يرى ما يحدث في سورية أمرا غامضا، والبعض الآخر يعتذر عن التوقيع بحجح شتى. ويوم استطعت أن اجمع خمسة عشر توقيعا لنشرها في جريدة الموند وجدت أبواب الصحف كلها مغلقة في و جهي، ولولا شهامة اريك رولو الذي كان يعمل آنذاك في جريدة لوموند لما استطعت أن يحتل بياني عمودا واحدا خجولا يحمل بعض اسماء السجناء. كل ما كنا نحلم به ونعمل لأجله هو وطن حر ديمقراطي, ولكن مثل هذا الحلم كان بعيد المنال، وكان الرأي العام الدولي) لا يرى ضرورة للاهتمام بشؤون دولة صغيرة تجاور اسرائيل خوفا على اسرائيل. ترى ما حدث اليوم حتى هب العالم الغربي فجأة لكي يسمع صوت الضحايا، وكأنه لأول مرة يعرف أن وراء أسوار دمشق تمة دكتاتور جديد شاب يحاول أن يواجه المظاهرات السلمية التي خرجت مطالبة بالحرية كما فعل أباه من قبله بالنار. هل استفاق الضمير الغربي فجأة على المأساة السورية ام أن مصالحه اصبحت تقتضي ان يفتح عينيه و يسمع. خلال دراستي في الغرب وإدراكي لمكامن قوة موقفه وضعفه, لم اصدق ان ثمة من يتعاطف اخيرا مع قضيتنا ولكن بطريقته وباسلوبه الذي يعيد للأذهان فترة الاستعمار في بداية القرن العشرين حين قسمنا الو دول واقليات عرقية ودينية. وفي حين كان غباء النظام في سورية قد دفع بالحاكم الى الاقدام على استخدام كل انواع السلاح لإسكات صوت الشعب, كان الغرب بطريقته يحاول ان ينفذ مخططه الخاص به مستفيدا من الجراح والموت المجاني، وعلا الحديث عن الطائفية والاقليات وامكانيات نشر الحماية على هؤلاء مرة جديدة لكأننا نعيش مرحلة مابعد الحرب العالمية الأولى. ونقرأ اتفاقيات سايكس بيكو بنفس النسخة دون تعديل. كانت الجريمة القاتلة والتي جعلت بيننا وبين الحلم بوطن حر، ومتعدد، وديمقراطي كان باستمرار طريق نضالنا يتبدد، وامام شراسة الدكتاتورية تم استيراد كل أدوات القتل واشخاصه من الخارج. و في سورية التي رغم قساوة الدكتاتورية خلال اربعين عاما لم نعرف الطائفية واللاتسامح دخلت الينا الحرب الاهلية من اوسع الابواب، وكما جرى في العراق من قبل نبتت مثل الفطر منظمات مجرمة وارهابية كالقاعدة وسواها، اصبحت سوريا مثلها مثل افغانستان والصومال ارضا لكل ماهب ودب من خلق الله ممن يريدون ان يقاتلوا تحت شعارات مختلفة واجندات مختلفة ممثلين مصالح دول مختلفة و على رأس هذه الدول دول الغرب. وكما سبق ومزق العراق بعد استعماره، هاهي السكين نفسها تقطع اوصال سورية فتصبح سورية مكانا للتجاذبات الدولية والاقليمية. ولاول مرة في تاريخ هذا البلد الصغير الذي لا يتجاوز سكانه العشرين ألف نسمة يهرب سكانه من الجحيم نحو المنافي ولكن هذه المرة الى الخيم المنصوبة في دول الجوار، وهاهو عام جديد يأتي واكثر من نصف مليون سوري تحت الخيام، لكأن مأساة فلسطين سنة 1948 تعيد انتاج نفسها كما حصل من قبل في العراق. اما الحصار المضروب على سورية فهو ح حصار يعاقب الشعب السوري اكثر مما يعاقب الدكتاتور الذي يبحث هذا الغرب له عن مخرج امن لان مصلحته تقتضي ذلك. الامر المؤلم ان النخبة السورية التي عرفت المنافي لم تكن تملك اي برنامج، او رؤيا واصبحت الاحداث والمصالح وتجارب الحروب تقولها. وفي ظل جحيم هذه التجاوزات الدولية حول سورية لم تعد هذه النخبة طليقة للعمل الوطني بقدر ما اصبحت تابعة. واذا كنا قد شردنا خوفا من حكم حافظ الأسد وابنه اربعين عاما، فإن غالبية من حلم منا ببديل حر ديمقراطي تعددي عليه ان يبحث عن قبر له في منفاه, لأن البديل للديكتاتورية غامض ومخيف ومن الصعب. في ظل تناقض المصالح الدولية التي اصبحت تقود الثورة السورية عليه اذا كان يرفض ان يكون مسلحا، ومسيحيا، وعلويا ودينيا، وكرديا ، وعربيا, بل شعب واحد يعيش في ظل التعددية التي كانت على مر العصور سببا لغناه وثروة لمناعته. سورية اليوم معرضة لكل الاحتمالات, من الحرب الاهلية الى التقسيم الى دولة فاشلة لن يستطيع كل الاصدقاء الجدد الذين نبتوا في الغرب كالفطر ان يفعلوا لها شيئا وربما لا يهمهم ان يفعلوا وربما ان مصلحتهم تقتضي الايفعلوا. فليهنأ تجار السياسة الجدد وتجار الحروب والسلاح. وهذا الغرب الحريص على ارسال أسلحة للعصابات المسلحة القادمة من كل بلدان العالم وليس لأهلنا في غزة للدفاع عن انفسهم.