في ظل الاهتمام المتزايد بالفرجة، صدر للناقد حسن يوسفي كتابا بعنوان: «المسرح والفرجات». ويعتبر هذا الكتاب إصرارا من قبل الناقد على مواصلة البحث، إذ يضاف إلى كتاباته النقدية الهامة من قبيل: «المسرح ومفارقاته»، و»المسرح والأنثربولوجيا»، و»المسرح والمرايا»، و»المسرح والحداثة»، و»ذاكرة عابر»... انطلق الناقد في كتاب الأخير»المسرح والفرجات» من المسرح لإبراز ماهية الفرجة. واختار التوسل بمقاربة ذات صلة بالسياق الثقافي الذي في رحمه تخلقت الفرجة وتفاعلت معه، فأغنته واغتنت به وغذته وتغدت منه، هادفا إلى اقتراح رؤية مغايرة للفرجة. وهكذا استحضر الناقد الجهود النقدية والبحثية الهامة التي أرساها الدكتور خالد أمين عبر المركز الدولي لدراسات الفرجة. فإذا كان الدكتور خالد أمين بلور مشروعا نقديا لافتا، استنادا على تصورات النقد الثقافي ومفاهيمه النقدية، إذ كشف -بوعي نقدي متفجر ولا مهادن- هجنة المسرح المغربي الذي أضحى متموقعا في مفترق الطرق بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والأنا والآخر، فإن الناقد حسن يوسفي استوعب هذا الانجاز النقدي واقترح في الآن ذاته تصورا نقديا توسل فيه ب»الفرجوي» الذي يتقاطع فيه الأفق الشعري والأفق الأنثربولوجي، بغية تغيير زاوية النظر إلى طبيعة العلاقة القائمة بين المسرح والفرجة. فقد عمل المسرح المغربي في الفترة ما بعد الكولونيالية على نقل الحلقة إلى البناية المسرحية، إيذانا بهجنة المسرح المغربي الذي لم يعد تقليد للمسرح الغربي ولا تقليدا التقاليد الفرجوية المغربية. بيد أن هذا النقل من وجهة نظر الناقد حسن يوسفي «لم يتمكن من استيعاب واستبطان مكون أساسي هو عماد الحلقة ومبرر وجودها وضامن خصوصيتها، ألا وهو الفرجوي. وبالتالي، فالمسرح يعمل على تبديد خصوصية الحلقة، ويقدم شكلا هجينا متموقعا ما بين سردين: سرد غربي وسرد محلي».1 ولتعزيز هذا التصور النقدي استند الناقد على العلاقة الرابطة بين التمسرح بوصفه رأسمال المسرح، والفرجوي باعتباره أساس الحلقة وجوهرها. وهو ما لم تستوعبه التجارب المسرحية المغربية، مما استلزم من الناقد الوقوف وقفة متأنية وفاحصة عند مصطلح «الفرجوي» وتجلياته في الحلقة والمسرح على السواء. ولم يكتف الناقد بإبراز وجهة نظره نظريا، بل اختار نماذج تطبيقية اتخذها منطلقا للدراسة والتحليل. وفي هذا السياق استقى مسرحيتين هما: «بوتليس» و»نعال الريح»، بوصفهما تجسدان الحضور اللافت للفرجوي في المسرح المغربي. ففي المسرحية الأولى يبرز الفرجوي من خلال النمط الكروتسكي. ففي مشهد «الأقنعة»: «تدخل بشكل مفاجئ، كائنات كروتسكية، نصفها إنساني ونصفها حيواني، أي كائنات هجينة تتحول إلى ما يشبه الجوقة(...) فالوظيفة التي يضطلع بها الفرجوي الكروتسكي هنا هي وظيفة المحاكاة الساخرةparodic ، وذلك انسجاما مع سياق المسرحية التي تنتقد التسلط والقوة والجبروت».2 أما النمط الثاني الذي يتجسد في الرهيب فيبرز في مشهد المبارزة بالسيوف. وقد حرص المخرج على جعله معروضا لا مسرودا لاقتراح أفق جمالي يتعارض مع مواصفات المسرح الكلاسيكي ويقترب من تراجيديا الانتقام لشكسبير. وهو ما يبرر من وجهة نظر الناقد خضوع الفرجوي لإكراهات التمسرح واشتراطاته. أما في مسرحية «نعال الريح»، فبزغ الفرجوي بشكل مغاير مبرزا قدرته على التنوع والتعدد، إذ اتخذ طابع انتهاك المألوف وخلق العجيب والصادم عبر فعل التعري. ولم يكن هذا الاختيار -من وجهة نظر الناقد- اعتباطا، وإنما رؤية فنية هدفها «اختراق الطابو والذي يمكن تلخيصه في «صدمة الحداثة المسرحية»، لاسيما وأن مسرحية «نعال الريح» مستوحاة من أحد نماذجها الصارخة وهو برنار ماري كورتيس».1 كما جسدت مسرحية «نعال الريح» الفرجوي المفاجئ والعجيب، عبر إقدام الممثل على الخروج من المألوف، إذ ولج المسرحية بنعال من الريح. وهو ما لم يتعوده المتفرج المغربي. وبذلك تعكس المسرحية تصورا مختلفا حول الممثل وعلاقته بالفضاء، وتشكل رهان «التمسرح الحداثي». ولتبيان حضور الفرجوي في الحلقة اختار الناقد حلقة الأكسسوار وحلقة الحيوان. فالأولى -التي عاينها الناقد في نهاية السبعينيات بمدينة ميدلت بالجنوب المغربي- أحدثت صدمة بصرية وسمعية بواسطة العنصر التناسلي الذكري المنحوت من الخشب. ومن هنا يكون رهان الفرجوي هو: «قوة التأثير في المتفرج الذي يعتبر الهاجس الأول للحلايقي، والذي من أجله ظهر هنا متحللا من كل المواضعات الجمالية والأخلاقية».2 أما «حلقة الحيوان»- التي شاهد الناقد وقائعها في أحد أسواق مدينة بني ملال- فمحورها الحمار الذي تحول إلى كائن سياسي بامتياز إبان حرب الخليج. فهو «حمار تجري في عروقه دماء عربية حارة، وحس قومي مثير، عبر عنه بطريقته الخاصة».5 وبذلك يستند الفرجوي على كشف الحيوان العواطف الإنسانية. ومن ثم تسييس الفرجوي وتجاوز الإمتاع أو الفرجة المجانية. ارتباطا بالفرجة دائما، عاين الناقد مدينة تافيلالت بوصفها فضاء زاخرا بالفرجات، مما يشهد على حيوية السياق الفني بتافيلالت. فهو فضاء سوسيوثقافي متميز ونموذج الغنى البشري والتفاعل الخلاق بين المكون العربي والمكون الأمازيغي. وهو تنوع جسدته الفرجات الفيلالية بامتياز، إذ تتسم بتنوع صيغها وتعدد أشكالها. فهي تتضمن ما هو شعائري وطقوسي واحتفالي، وتمزج بين الغناء والرقص وتتوسل بالكلمة والحكي والزجل والتعبير الجسدي. وصنف الناقد فرجات تافيلالت إلى ثلاثة أصناف: - فرجات طقوسية: ترتبط بالحدث الديني، خاصة وأن تافيلالت تضم العديد من الزوايا التي تضفي على الفضاء طابعا روحانيا مميزا. - فرجات جسدية: تبرز في الاحتفالات ذات الطابع السوسيولوجي، مثل: الأعراس، والزواج، وجني الزيتون والتمور... وما يصاحبها من رقص فردي وجماعي.. - فرجات إيقاعية: تتحدد في الكلمة الموزونة مثل: الملحون، والرباعيات.... وفي المبحث المعنون ب: «المواقع الأثرية الإسماعيلية بمكناس: فضاء الفرجة المسرحية الحديثة»، يميز الناقد بين بعدين في علاقة الموقع بالفرجة: البعد الأول: يتمثل في الموقع بوصفه فرجة في ذاته، يشع بالدلالة الفرجوية التي تثير الدهشة وتخلق المفاجأة البصرية، كما هو الحال بالنسبة لموقع وليلي المتسم بطابعه العجائبي. البعد الثاني: يتجسد في الموقع بوصفه فضاء للفرجة يخضع انتقاؤه لمحددات جمالية واختيارات ثقافية، بهدف إيجاد فرجة مسرحية ذات بعد تجريبي ينزاح عن السائد والمتداول. واستحضر الناقد تجربة الطيب الصديقي بوصفها تجربة مميزة قدمت عروضها في الساحات العامة وتمردت على البناية الإسمنتية المغلقة. كما استحضر تجارب مسرحية غربية ومحلية. وفي هذا الإطار تشكل مسرحية «أجاكس» التي قدمتها فرقة مكونة من خريجي المعهد الوطني العالي لفنون المسرح بباريس «الفرجة المضاعفة وأسطورية الموقع التاريخي». فقد عرَضت الفرقة عرضها المسرحي في موقع اسطبلات ومخازن المولى إسماعيل، بصيغة فنية تم من خلالها «تكييف سينوغرافيا الموقع، كي تستجيب لهده الفرجة المتعددة اللغات، وكي يعيش الجمهور متعة مطاردة مشاهدة مسرحية بين جنبات الموقع ومن خلال التعامل مع أسواره باعتبارها شاشات كبرى».6 أما مسرحية «كاركو» التي عُرضت بنفس الموقع لمخرجها ألكسندر أبيلا، فجسدت «فرجة اليوتوبيا وعمق الموقع التاريخي». في حين تؤسس مسرحي «لعظم» للمخرج المميز بوسلهام الضعيف زخما فنيا وأفقا جماليا حدده الناقد في: «البحث في الممثل، وبالضبط في تقاليد الممثل الإفريقي».7 فقد أضحى الموقع بمثابة كهف إفريقي قديم قاربه المخرج إبداعيا بوصفه سينوغرافيا جاهزة للعرض. ونظرا لما أضحت تكتسيه الوسائطية في المسرح من أهمية بالغة، فقد خصص لها الناقد مبحثا خاصا عنونه ب:»الفرجة الوسائطية وخلخلة المفاهيم المؤسسة للمسرح». وهنا، يشير الناقد إلى أن المسرح فن بدائي تقليدي قوامه العلاقة المباشرة بين الممثل والمتفرج. بيد أن هذه الوضعية تعرضت للخلخلة بفعل التطور التكنولوجي الهائل الذي مس الممارسة المسرحية في العمق. فهل يفضي اعتماد الوسائل الجديدة إلى إلغاء خصوصية المسرح؟. يجيب الناقد بأن «علاقة المسرح بوسائط الاتصال أصبحت قدرا حتميا أملته التحولات السوسيوثقافية المواكبة للثورة التكنولوجية الحديثة، والتي لم تسلم من تأثيرها مختلف الفنون، وفي طليعتها المسرح والفنون التشكيلية».8 وهذا مؤشر دال على أن المسرح مطالب بتجديد تقنياته وتثوير أدوات اشتغاله، حتى لا يجد نفسه بدون وظيفة، ومن ثم من دون مبرر للوجود. ولذلك أضحى مسرح اليوم يُعبر عنه بتسميات مختلفة من قبيل: فنون الفرجة، وفنون العرض، وفنون الخشبة أو الركح، والفنون الممكنة. وإذا كان أرتور دانتو arthur danto يعتبر اختراق التكنولوجيا الحديثة للفن موتا للفن، فإن الناقد حسن يوسفي يرى أن هذا الاختراق من شأنه أن ينشئ ممارسة مسرحية تتجاوز الطابع التقليدي للمسرح إخراجيا وتمثيليا. ومن ثم تجديد اللغة المسرحية وتثوير سينوغرافيتها لتعانق آفاقا جديدة في التجريب. فلا تكفي في ظل هذا العالم المعولم المثقل بالحس التكنولوجي الدراية الدراماتورجية، وإنما أضحى من اللازم أيضا الاستناد على المعرفة التقنية لتشييد عوالم الفرجة. ويصطلح هانس ليمان على المسرح الوسائطي ب»ما بعد الدراما»، واستنادا على تصور الدكتور خالد أمين ل»ما بعد» بوصفها ليست إلغاء أو نسيانا للماضي الدرامي، يؤكد الناقد حسن يوسفي أن ما بعد الدراما خلخلة عنيفة لقواعد الدراما عن مواقعها داخل الفرجة. فلم يعد النص هو المنطلق، كما لم يعد الأداء الحي هو أساس الفرجة، لنكون إزاء الانتقال من رعب النص إلى رعب الصورة، ومن ثقافة النص إلى الثقافة الرقمية. لكن رغم ذيوع التقنية -التي من شأنها أن تفرغ الممثل من محتواه الإنساني- فإن الواقع المسرحي يقول الناقد: «تتجاذبه نوستالجيا الدراما التقليدية حينا، ويستسلم لإغراءات واغواءات الوسائط الجديدة أحيانا أخرى لأنها تجعله منتميا إلى عالم اليوم».3 وقد استعار الناقد تسمية «المنعطف التاريخي»، من الباحثة الألمانية إيريكا فيشر، وحوره حتى يسعفه في مقاربة طبيعة الفرجات التي أُنتجت في زمن الربيع العربي. فقد أفرز هذا الأخير فرجات وسائطية توظف تقنيات التصوير الحديثة وانبجست حركة مسرحية ذات صلة بهذا التحول السياسي والثقافي، كما تجسد في مهرجان أفنيون في دورة 2012. وهنا رصد الناقد تجارب مسرحية من تونس، ولبنان، وسوريا شكل الربيع العربي ميدانا عملها الفني ومجال اشتغالها التيماتي. فقد أفرز الربيع العربي فرجة وسائطية تندرج في إطار «الفرجوي»، بمعناه الدال على ما يثير اهتمام المشاهد لما يتضمنه من مشاهد غير مألوفة، علاوة على بعده السياسي الواضح. وهكذا يميز الباحث بين فرجة تنقل الحدث وأخرى تمسرحه كما هو الشأن في «فرجة الحاكم»، والتي قُدمت بقالب هزلي مستثمرة التقنيات السمعية والبصرية، مما ساهم في ذيوعها وقوة تأثيرها. ولان الناقد خالد أمين يشغل مكانة هامة في المشهد النقدي المسرحي وطنيا، وعربيا، ودوليا، ولأن دراسة الفرجة مجال معرفي خصب، ومنطلق محوري لفهم ماهية مشروعه النقدي، فقد خصه الناقد حسن يوسفي بجزء هام من كتابه»المسرح والفرجات». فقد بلور الدكتور خالد أمين مشروعا نقديا متميزا، يتسم بالتجدد والخصوبة الفكرية، بدءا بالهجنة المسرحية التي شكلت موضوع اشتغاله في «الفن المسرحي وأسطورة الأصل»، و»مساحات الصمت وغواية المابينية». ثم أعاد النظر في هذا المشروع مبرزا بعض نواقصه ومقترحا في الآن نفسه مشروعا جديدا، ويتمثل في تناسج الثقافات الفرجوية الذي بشر به في إصداره الهام «المسرح ودراسات الفرجة»، متوسلا بمفاهيم جديدة ومتسلحا بذخيرة نقدية ثرية مكنته من اجتراح «منظورات معرفية غنية حول الفرجة تستند على ثقافة مسرحية رصينة، جعلت صاحبها مرجعا في مجال دراسات الفرجة...»4. إن كتاب «المسرح والفرجات»، قراءة فاحصة ومتأنية لماهية الفرجة وتحولاتها، استنادا على خلفيات معرفية وفكرية حديثة مما يجعل الناقد الدكتور حسن يوسفي باحثاً وازناً له شرعية الانتماء إلى الدرس النقدي الطليعي داخل الفعالية النقدية المغربية والعربية بتواضع شامخ. الهوامش 1 - حسن يوسفي ، المسرح والفرجات ، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة سلسلة دراسات الفرجة19، ط1، 2012، ص: 10 2 - نفسه، ص: 17 -3 نفسه، ص: 19 4 - نفسه، ص: 23 -5نفسه، ص: 24 -6نفسه، ص: 47 -7نفسه، ص: 50 -8نفسه، ص: 57 -9 نفسه،ص: 59 -10 نفسه، ص: 91