منذ ما يربو على نصف القرْن، كان روني ريمون قد نشر كتابه الذائع الصّيت عن «اليمين الفرنسي». وهو الكتاب الذي أعيد نشره في مناسبات كثيرة، ويقدّم قراءة رائدة لتاريخ اليمين، أو اليمينات على الأصحّ في فرنسا. ومما كان يثير الاستغراب هو عدم وجود مقابل له بالنسبة لليمين. وإذا كانت الكتابات عن اليسار الفرنسي أكثر من وافرة ومتنوّعة، فلا أحد من الكتّاب تمكّن من بلورة نظرية تفسيرية كافية وقوية مثلما نجح في ذلك روني ريمونْ. غير أن الأمر تحقق اليوم، ذلك أنّ الكتاب الذي أصدره جاك جوليار تحت عنوان «اليسارات الفرنسية» كتاب عظيم يزخرُ بالأفكار والأطروحات والتفسيرات والتأويلات التي تشد الأنفاس. والمعروف عنْ جواليارْ أنه عمل في مجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور» وبعدها في مجلة «ماريان»، وهو يحدد الفترة المدروسة ما بين عام 1762، أي ما قبل الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 وحتى عام 2012، الذي شهد انتخاب الاشتراكي فرانسوا هولاندْ رئيساً للجمهورية الفرنسية الخامسة، ليكون بذلك الرئيس السابع لهذه الجمهورية، والاشتراكي الثاني بعد فرانسوا ميتران. يبدأ المؤلف بالإعلان عن أنّ تاريخ اليسار في فرنسا يبدأ في القرن الثامن عشر، وذلك تحديداً تحت تأثير أفكار كوندورسي الذي يعتبره الكثيرون أحد أوائل مؤسّسي الفكر السياسي الفرنسي. ويميّز جاك جوليار بين عدة لحظات أو محطّات قوية في تاريخ اليسار مثل «اللحظة الجمهورية» خلال سنوات 1848-1898، و«اللحظة الراديكالية» لفترة 1898-1914. ويلي هذا «فترة الانقسامات» خلال سنوات ما بعد الحربين العالميتين الأولى 1914-1918 والثانية 1939-1945. ثم «فترة التفسخ» المعاصرة. كما يميّز الكاتب تاريخيا بين أربعة أنماط أساسية طبعتْ اليسار الفرنسي وهي: «اليسار الليبرالي»، الذي يحدد موقفه وإيديولوجيته السياسية في «المكان الوسط» بين اليسار واليمين. وهو يسار مقتنع بالعلمانية وباقتصاد السوق وبالنظام التمثيلي في المجالس المتنوعة. وهناك ثانيا «اليسار المتشدد» ذو المواقف الإيديولوجية الجامدة والمتمسّك بسلطة الدولة. وثالثا «اليسار التعاوني» الذي يعتمد على الطبقة العاملة والمطالب بالقطيعة مع «التوجه الديمقراطي البورجوازي». وأخيراً «اليسار التحرري»، بمعنى الذي لم يتواجد أبداً في إطار حزب واحد، وهو الذي عرفت فرنسا عبر مساهمته الفعالة ما سمي ب»ثورة الطلبة» في شهر ماي من عام 1968. إن جاك جوليار ينطلق إذن من كوندورسي «ذي النفحة الليبرالية وشبه التحررية»، في القرن الثامن عشر ليصل إلى فرانسوا هولاند الرئيس الفرنسي الحالي. ويؤكد أن ما يتم جمعه تحت عنوان عريض هو «اليسار الفرنسي» يجد عوامل تكوينه لدى الثورة الفرنسية واليسوعيين في الكنيسة الكاثوليكية والنظام الملكي ذي النزعة الوسطية والاشتراكيين الذين تطلق عليهم تسمية «الطوباويين» وتأسيس الحزب الشيوعي الفرنسي وقيام الجبهة الشعبية (في ثلاثينيات القرن الماضي) وأحداث 1968 وتأسيس الحزب الاشتراكي الفرنسي ورموزه التاريخية مثل «جان جوريس وليون بلوم وبيير مندس فرانس وفرانسوا ميتران وليونيل جوسبان وفرانسوا هولاند». ويعتبر جوليار أن «كل عائلة سياسية لها انحرافاتها الخاصة». فإذا كانت الليبرالية قد عرفت مثل ذلك الانحراف في «الجنوح نحو نزعة اقتصادية لا حدود ولا لجام لها بحيث إنها تأسست حصرياً على زيادة الكسب الفردي»، فإن اليسار الفرنسي عرف الجنوح نحو «إضفاء صفة القداسة على الدولة وعلى مركزية القرار . وذلك أدّى إلى الاستبداد البيروقراطي، بل وحتى إلى الشمولية- التوتاليتارية». وفي «النسخة التحررية» لليسار جرى الجنوح نحو «نزعة فردية أنانية» وصلت إلى حد «نفي المصلحة العامة». ويرى جاك جوليار أنه «تحت المظاهر التحررية لليسار، برزت الرؤية الفردية المتعاظمة بمثابة ابنة حقيقية للرأسمالية، وليس احتجاجاً عليها. وينقل المؤلف عن أحد مفكري اليسار قوله إن العديد من اليساريين «دعاة التحرر» كانوا في الواقع «مولعين بثقافة تعظيم الذات» ولكن تحت غطاء علماني. مع ذلك يبقى»رموز» اليسار الفرنسي، الذين يحظون بالإعجاب دائماً، هم أولئك الذين تصرّفوا ك»رجال فعل» كما اقتضى الأمر ذلك. المثال الذي يقدمه المؤلف هو ليون بلوم الذي ترأس تحالف اليسار المعروف باسم الجبهة الشعبية خلال ثلاثينيات القرن الماضي، والذي لم يكن يهمه شيء سوى المحافظة على الأخلاق السياسية للأمة». وينقل عنه المؤلف قوله: «أنا على يقين أن فرنسا قد عانت أكثر من فساد أخلاقها السياسية مما هو من عدم صدقية مؤسساتها السياسية . وأنا على يقين أن الانبعاث الأخلاقي يشكّل أحد الشروط وأحد العناصر الأساسية من أجل تجدد فرنسا». والإشارة أن بلوم كان لا يقصد «الأخلاق الفردية» ولكن بالأحرى «قدرة مجموعة على تجاوز مصالحها المباشرة لترتفع إلى مصاف طموح أسمى، مقبول من أجل الأمة كلها». لكن الصورة تبدو قائمة بالنسبة لليسار بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. عن «ليبراسيون» الفرنسية،