هكذا إذن يتضح انعدام الأساس القانوني لأي تدبير تقدم عليه الإدارة بخصوص حق الإضراب. فعلى ماذا يعتمد السيد وزير العدل والحريات لتبرير قراره بالاقتطاع من أجور موظفيه؟ لقد أشار في الكثير في المناسبات الى اعتبار ذلك مبررا بمبدأ الأجر مقابل العمل ، والحقيقة أن الاستدلال بهذا المبدأ ينطوي على مجازفة قانونية غير مقبولة في حقل الوظيفة العمومية للاعتبارات التالية: فمبدأ الأجر مقابل العمل، هو مبدأ نشأ في اطار قانون الشغل بناء على المنطق المدني التعاقدي القائم على الآثار القانونية لعقد الشغل باعتباره عقدا تبادليا و ملزما لجانبين (طرفي العقد) .فالأجير ملزم بالعمل ومقابله المشغل ملزم بأداء الأجر، وإذا توقف الأجير عن عمله حق للمشغل التوقف عن أداء الالتزام المقابل (الأجر ) ما لم يقض القانون بخلاف ذلك لأسباب محصورة (العطلة السنوية بعض التغيبات...). هذا المنطق لا يمكن إعماله في إطار الوظيفة العمومية ، لأننا لسنا بصدد عقد ، فعلاقة الموظف بالإدارة هي علاقة نظامية و ليست علاقة تعاقدية. فالنظام الأساسي للوظيفة العمومية هو الذي يحدد حقوق وواجبات كل من الموظف و الإدارة و لا وجود نهائيا لمبدأ سلطان الإرادة كأساس للعملية التعاقدية في إطار قانون الشغل. لايمكن قياس ما يجري في إطار قانون الشغل مع مجال قانون الوظيفة العمومية، إذ لا قياس مع وجود الفارق. لأننا إذا قبلنا بتطبيق هذا المبدأ واعتبرنا بأن علاقة الموظف بإدارته هي علاقة إجارة، وبالتالي فلا أجر بدون عمل ، فهذا يعني أن كل التغيبات التي يأتيها الموظف يجب أن يطالها الاقتطاع من الأجر، مع أن قانون الوظيفة العمومية لا ينص على هذا الاقتطاع في حال تغيب الموظف لأسباب صحية. لكن الأجير إذا تغيب لأسباب صحية أو لإصابته بحادث شغل، فإن المشغل يوقف أجرته ليحل محله الضمان الاجتماعي أو مؤسسات التأمين الصحية ، وبذلك فإن القول بتطبيق الأجر مقابل العمل في إطار الوظيفة العمومية كمبرر للاقتطاع من أجور المضربين فيه تجاهل للفوارق الجوهرية القائمة بين وضعية الأجير ووضعية الموظف بين قانون الشغل وقانون الوظيفة العمومية، وبين علاقة الإجارة والعلاقة النظامية وهي مبادئ أساسية وأولية تلقن لطلبة كلية الحقوق ويعرفونها كمسلمات. والواقع أن محاولة تطبيق مبدأ الاجر مقابل العمل في إطار الوظيفة العمومية وبهذه الصورة الانتقائية ينطوي على « نوع من الانتهازية القانونية « لا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها، ولذلك فهي لا تعدو أن تكون نوعا من البوليميك السياسي البعيد عن لغة القانون ومنطقه. وهنا مربط الفرس، إذ قد نتفهم هذا الموقف المتمثل في التلويح بمبدأ الأجر مقابل العمل لو كان قد صدر ممن هو بعيد عن الحقل القانوني، أما في نازلة الحال فيصعب ذلك جدا. ولا حيلة لنا مخرجا من ذلك إلا القول بأن التبرير سياسي ولا علاقة له بمنطق رجل القانون. وإني لأتساءل كيف يمكن القول بهذا التبرير إزاء فئة من الموظفين أغلبهم مجازون من كلية الحقوق وبعضهم حامل لشهادة الماجستير والدكتوراه في القانون؟ بلا شك أنه سيحصل لهم إحباط وقد يشككون في ما تلقوه من معارف قانونية أصبحت عندهم يقينية مثلما هي يقينية _ كما افترض _ عند من ارتأى أن يدافع عن قرار الاقتطاع من أجور المضربين في قطاع العدل بمبدأ لا أجر بدون عمل ! والفرق أن هؤلاء الموظفين عندما يعترضون على هذا الاقتطاع يتشبثون بالمشروعية بينما الطرف الآخر يدافع عن الغلط متمثلا قولة الراحل محمود درويش في إحدى قصائده الرائعة « مديح الظل العالي»-» يجب الدفاع عن الغلط» لكن لا ننسى أيضا أن الرجوع عن الغلط أو الخطأ فضيلة . يمكننا إذن، أن نستخلص بلغة القانون، أن قرار الإقتطاع من أجور الموظفين هو قرار تعسفي بامتياز متسم بعدم المشروعية في غياب قانون تنظيمي يستند إليه طبقا للدستور. والغريب حقا أن يتنطع البعض في تطبيق مثل هذا القرار في ظرفية سياسية جديدة تتسم بوجود دستور جديد خصص بابا مستقلا للحقوق والحريات وضمنه أكد على أن تنظيم ممارسة حق الإضراب يتولاه قانون تنظيمي. كما تتسم هذه الظرفية أيضا بانحسار ونكوص الحوار الاجتماعي، فهل مثل هذه القرارات تشجع على صياغة شروط استرجاع الثقة والالتئام في إطار مفاوضات اجتماعية وطنية لمعالجة النزاعات والملفات العالقة ؟ نأمل أن تتحكم لغة العقل وتحضر المسؤولية لدى من هم مؤتمرون ومؤتمنون على الشأن العام.