تعرفت على هذه السيدة الهرم عن كثب، عندما كنت أشرف على مكتب الاتصال بنيابة مولاي رشيد سيدي عثمان، اقترحت نائبة الوزارة آنذاك على السيدة آسية بوصفها المسؤولة على إصلاح وإعادة إدماج السجناء الأحداث، القيام بورش رسم 365 لوحة، في إشارة إلى أيام السنة الواحدة،لمدة ثلاثة أشهر تحت توجيه الفنان الرسام عبد الرحمان بنانة- لفائدة الأحداث نزلاء المركز الإصلاحي عكاشة، كانت آسية رحمة الله عليها مثالا في ضبط المواعيد، كل صباح تأتي الناقلة التي تحمل الأحداث (بنات وأولاد) وتتبعهم بسيارتها إلى الفضاء التربوي المعري، كانت دهشتنا كبيرة، عندما نزل الأحداث دون قيود في أيديهم مصحوبين بمراقبي السجناء، تتابع بكل حنان وبدقة أشغال الأحداث وتشجعهم لتفجير طاقاتهن(م)، وكم كانت فرحتها كبيرة عندما اكتشفت أن المكلفين بالحراسة لم يبقوا خارج أسوار المرسم يتابعون تحركات الأحداث من الباب والنوافذ، بل دخلوا واصطفوا إلى جانبهم وأصبحوا يشاركونهم في رسم لواحاتهم، وأضحى الحديث بين السجين والسجان عن الألوان وعن الأشكال بعيدا عن لغة الأمر والنهي؛ هذه السيدة العظيمة كانت تقف إلى جانبهم لزرع الأمل في نفوس اغتيلت أحلامُها في لحظة طيش وجنون طفولي، كانت تسبر أغوار نفسياتهم لتبحث عن بصيص أمل لتخرجه، ليصبح بريقا مشعا في أعين هؤلاء الصغار والصغيرات؛ الكل ينادي بصوت واحد ماما آسية. هذه الأم الحنون، كانت تشاركهم وجبات الغذاء المعد في الفضاء على موائد منصوبة في قاعة الأكل وكأنهم ضيوف لنيابة مولاي رشيد، وكانت شديدة الحرص أن كل من يتابع هذه العملية التربوية يجالس النزلاء ويفتح معهن ومعهم نقاش لمعرفة الأسباب التي دفعت بهم (ن) إلى غياهب السجن، والحق يقال إن أغلبهم لم يقم بعمل إجرامي بما تحمله الكلمة من معنى، ولكنها شقاوة أطفال لا يقدرون العواقب، وكانت تصر على جودة ما يقدم، لترجع لهم الثقة في أنفسهم (ن) ولتحافظ على كرامتهم وإنسانيتهم، حتى عندما اكتشفنا هروب حدث بعد أن ذهب ليغسل يديه قبل الأكل حافظت على هدوئها المعهود، واتصلت بوزير العدل آنذاك المرحوم السيد بوزوبع. وبعد الرجوع إلى ملفه، وجدوا أن المدة المتبقية له لا تتجاوز شهرين فمتعوه بالعفو، لم يؤثر هذا الحدث عن متابعة التجربة، ولم يتغير سلوكها تجاه باقي الأحداث،كانت تقول بدارجة مغربية عفوية : «هادو اولادنا» هكذا غرفت هذه السيدة، المناضلة الشامخة لا تكل ولاتمل، تفيض عيناها دموعا عندما تحكي عن معاناة أحد، لا تتوقف عن الحركة وعن الاستفسار، متواضعة في ملبسها، تحسن الإصغاء، عندما تحدثها تطأطئ رأسها في تواضع الكبار، دائمة الابتسامة، لا يغير صفو مزاجها إلا خبر تَجبُّر على مستضعف أو خرق لحق من الحقوق الإنسانية، حتى في حياتها الشخصية تعامل مساعدتها معاملة الندية، حتى الحمام التركي التي تزوره كلما سمحت لها الفرصة لانشغالها الدائم، تنقلب فترة راحتها إلى جلسات إنصات متتالية لنساء عاملات بالفضاء لحل مشاكلهن القضائية، ولتوجيههن لفض نزاعاتهن إما مع زوج غائب أو متملص من أداء النفقة، أو غبن طالهن من جهة معينة. هذا جانب من جوانب أخرى لا أعرفها من حياة امرأة صاخبة بالعطاء والحب. إنها فعلا امرآة من زمن الصفاء.