وداعا أيتها السيدة .. الوديعة! بعد معاناة طويلة مع المرض، ومقاومة له بروح مؤمنة صبورة، انتقلت إلى عفو الله ورحمته صباح أمس الجمعة بالدارالبيضاء، المناضلة والأستاذة آسية الوديع. وهي من فضليات نساء المغرب، اللواتي اشتغلن في المجال الجمعوي الحقوقي والتضامني، من موقعها كواحدة من نساء سلك القضاء بالمغرب. مثلما أنها تركت أثرا بليغا على تطور وضعية السجون المغربية، منذ إدارتها لإصلاحية الدارالبيضاء عين برجة، كونها نجحت في أنسنة السجون المغربية وفتحها على المجتمع ومصالحتها مع مختلف فعاليات الإنتاج المادي والقيمي في المجتمع المغربي (رأسمال أو فنانين ومثقفين وشعراء). وحين حازت لقب «ماما آسية» من قبل السجناء والسجينات بالمغرب، فلأن أثرها الطيب في تتبع أحوال السجناء، سواء أثناء الإعتقال أو بعد مغادرة أبواب السجن، من خلال مقاومتها لترسيخ دور مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، قد كان أثرا ملموسا لا يمحي. ولقد تركت اليوم في المجال الحقوقي الميداني، بأدرعه المختلفة، أثرا لا يمكن أن ينسى. ولدت أسية الوديع سنة 1949 بآسفي، وحصلت على الإجازة في القانون من كلية الحقوق بالدار البيضاء سنة 1970 وتقلدت بذلك منصب قاضية بالنيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء ما بين 1971 و 1980. وبعد قضائها لفترة تدريبية بالمدرسة العليا للقضاء بباريس، انضمت إلى هيئة المحامين بسطات (1981 - 1984) ثم إلى هيئة المحامين بالدار البيضاء (1984 -2000) قبل أن تصبح سنة 2000 قاضية بإدارة السجون التي اهتمت في إطارها بمراكز الإصلاح وإعادة تربية القاصرين الشباب. آسية الوديع عضوة مؤسسة وكاتبة عامة للمرصد المغربي للسجون. كما تعد عضوة نشيطة في العديد من منظمات المجتمع المدني: عضوة بمِؤسسة محمد الخامس لإعادة إدماج السجناء وعضوة مؤسسة لجمعية أصدقاء مراكز الإصلاح وعضوة مؤسسة للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان ((1988 وعضوة بجمعية مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف. تجدر الإشارة، إلى أن مصادر من العائلة، قد أكدت لنا، أن جنازتها رحمها الله ستخرج من بيت والدها ووالدتها الراحلين الكبيرين، محمد الوديع الأسفي وثريا السقاط، بحي الوازيس، على أن توارى الثرى، بعد صلاة ظهر يوم السبت بمقبرة الشهداء بالدارالبيضاء. ونشأت أسية الوديع في أسرة مناضلة، فالأب محمد الوديع الآسفي خبر السجون والمنافي قبل الاستقلال وبعده، والأم ثريا السقاط ناضلت دائما إلى جانب زوجها من أجل مغرب الكرامة والديمقراطية، وكانت مثالا للبذل والعطاء، وأما لجميع المعتقلين السياسيين. طفولة اعترفت اسية بأنه كان يغلب عليها الحزن والمعاناة ويطبعها الترحال مع البحث عن صداقات جديدة، والتعرف على عوالم مختلفة، وفراق رفاق الطفولة، لأنها فتحت عينيها على الحياة لتجد بأن الوالد يخرج من اعتقال ليدخل إلى آخر، والأم ثريا تجوب سجون المدن المغربية ومخافرها بحثا عن زوجها، فضلا عن كونها كانت ملزمة بتأمين تكاليف العيش ومتطلبات الأسرة. نسجت آسية علاقة بعالم القراءة والكتابة قبل ولوجها المدرسة، وذلك بفعل حضورها للأنشطة الثقافية التي كان يصطحبها إليها والدها الأستاذ بمدرسة النهضة الشهيرة بسلا، حيث كانت تنصت وتتابع منبهرة للحوارات المسرحية حول الفداء والنضال ومقاومة الاستعمار. وهي المدرسة ذاتها التي تابعت فيها دراستها في سنواتها الأولى، ثم انتقلنا بعد ذلك رفقة الأسرة إلى الخميسات فسيدي بنور، حيث انتهت المرحلة الابتدائية، وانتقلت إلى القسم الأول الثانوي، بعدها تم الانتقال إلى الدارالبيضاء بعد إقالة والدها في أواسط السنة الدراسية وتسجلت في ثانوية للبنات، وهنا عاشت تفاصيل حياتية جديدة سيما في علاقة بفتيات المدينة اللواتي رفضن في البداية فسح المجال لها للجلوس إلى جانبهن، الأمر الذي اضطرها إلى الجلوس في آخر الصف قبل أن يتحلقن حولها ويطلبن ودها بعدما تبين لهن اجتهادها وتمكنها دراسيا من اللغة العربية. كما كانت تتنافس وشقيقها على الظفر بالكتب التي يحملها والدها إلى المنزل، وكانت شغوفة بقراءة كتب الأدب والشعر خصوصا دواوين شوقي، المتنبي، أبو نواس بالإضافة إلى المجلات الأدبية وكتب التاريخ والسياسة ومؤلفات المنفلوطي وإحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، وبعض الرموز مثل طاغور والمختار السوسي، أستاذ والوالد الذي كان يقدره كثيرا. رغبت آسية في الالتحاق بكلية الآداب بفاس، ولكن والدها اعترض على ذلك، لأنه لم يرغب في أن تبتعد عنه، ولم تكن بالبيضاء كلية للآداب، فتراجعت عن ذلك بعد أن أقنعها الشهيد عمر بن جلون بأن دراسة الأدب شيء جميل وجيد، ولكن يمكن لها أن تدرسه بمفردها، وأن الوطن في حاجة إلى أطر حقوقية، وهكذا تسجلت في كلية الحقوق بالدارالبيضاء، حيث تابعت دراستها الجامعية، وهناك عاشت التجربة السياسية الوحيدة لها داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ولكنها لم تقتصر على السياسي فقط، بل كانت مفتوحة على ماهو جمعوي وإنساني، بحيث كانت النقابة الطلابية آنذاك مدرسة تعلمت فيها قيم المواطنة والنضال والاختلاف. عاشت آسية رفقة إخوتها تفاصيل من أحداث مارس 65، ثم اغتيال الزعيم المهدي بن بركة في شهر أكتوبر من نفس السنة، وما واكب هذه الفترة من إضرابات واحتجاجات، ومسيرات ومظاهرات، وتتذكر زيارات لرجالات وزعماء ومناضلين سياسيين لوالدها من قبيل عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمان اليوسفي، عمر بن جلون، عبد اللطيف بن جلون، محمد اليازغي، محمد منصور، الفرقاني، الفقيه البصري. وكانت الاعتقالات التي تطال والدها تزيدها مناعة وقوة في مواجهة هذا الموقف، بحيث لم تكن تخاف من الاعتقال والتعذيب. علاقة آسية بوالدها كانت عميقة جدا تحرجها أحيانا مع إخوتها، لأنها كانت تحتل مكانة خاصة لديه، وهو لا يخفي ذلك لكن الأمر لم يعد يثير أي إشكال فيما بعد، أما مع والدتها فقد توطدت علاقتها بها في مرحلة المراهقة، حيث كانت أمينة سرها، تحكي لي معاناتها ومشاكلها، وكانت أسية تشعر أحيانا كثيرة بأنها صديقتها أكثر منها والدتها، وهذا راجع إلى التقارب في السن، لأنها كانت ابنتها البكر التي أنجبتها وهي في سن صغيرة. إلا أنها اختلفت معها أحيانا في بعض الأمور ومنها عندما قررت أن تنفصل عن زوجها سنة 1977 حيث توصلت آسية إلى قرار الانفصال بعدما تأكد لها بأن أوجه الاختلاف بينها وزوجها كبيرة، وحرصت على أن تحافظ على العلاقات الإنسانية والصداقة مع زوجها السابق وأب ولدها، ولكن والدتها كانت تريدها أن تحافظ على رباط الزوجية وكان يؤلمها أن تبقى بدون زواج، رغم أنها كانت تؤكد لها مرارا بأن هذا الأمر لايهمها، وبأن هذه الوضعية لا تسبب لها أي إحراج، إذ استطاعت أن تفرض احترام الناس لها كامرأة مطلقة. حلمت أسية بأن تكون محامية في معناها الوجودي، أي أن تدافع عن المظلومين، لكن فرضت عليها ظروفها العائلية أن تلتحق بالقضاء، تعينت في النيابة العامة بالدارالبيضاء سنة 1971 وتكلفت بالأحداث وبملفات إهمال الأسرة التي تعنى بتنفيذ الاحكام الصادرة عن محاكم الأحوال الشخصية ، وهي أحكام النفقة والرجوع إلى بيت الزوجية وحضانة الأبناء، وهاتان المهمتان اللتان مارستهما في الواقع، جعلتاها تهتم بجنوح الأحداث وبوضعية الاسرة. ثم استقلت من القضاء والتحقت بالمحاماة سنة 1980 لأسباب عديدة أهمها أنها عاشت تداعيات اعتقال صلاح وعزيز، هذا بالإضافة إلى الأوضاع المادية المزرية التي كان يعيشها رجال القضاء والتي كانت لا تتيح لهم حياة كريمة. وبعد تجربة المحاماة حصلت لديها قناعة بأن مهمة الدفاع عن المظلومين لا تقتصر فقط على مهنة المحاماة، وأن نبل هذه المهنة ينسحب أيضا على القضاء المتشبع بقيم العدل والنزاهة والإنصاف، زد على ذلك أن أوراش الإصلاح التي فتحت في السنوات الأخيرة، شجعتها بدورها على اقتحام المجال من جديد، وكان لأحد زملائها القدامى في القضاء، أثر مهم في إقناعها فوضعت الطلب وهي تستبعد قبوله. في نفس الفترة كانت فكرة إحداث إطار يهتم بأوضاع السجون قد أخذت تختمر في أذهان بعض قدماء المعتقلين السياسيين وعلى الخصوص عزيز الوديع وشعيب ملوك، وعندما فاتحها هذا الأخير في الموضوع، وهما يقرءان شكايات بعض السجناء الى المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، لم تتردد لحظة واحدة وشعرت بأنها تميل الى هذا المجال أكثر من غيره، باعتبار أن جميع القضايا المطروحة على الساحة النضالية ببلادنا قد استوفت إطاراتها باستثناء قضايا السجون، التي كانت تشكل إحدى نقط الاهتمام، وأن هذا المجال أصبح يتطلب لوحده إطارا خاصا، وهكذا كانت بداية التفكير في خلق المرصد المغربي للسجون، وانطلق الاشتغال فعلا، حيث تكلفت بمسؤولية لجنة الرصد والمتابعة داخل المرصد، وبدأت في زيارة السجون، حيث بدت لها جسامة المسؤولية، وانتظارات السجناء وأحست بأن مسألة الزيارات ووضع التقارير على أهميتها لا تشفي غليلها، وتمنت خلالها من الله أن يتم قبول إعادة إدماجها في سلك القضاء وأن تشتغل بمديرية السجون وكذلك كان. التحقت آسية بالمديرية في خريف سنة 2000، وتم تكليفها بالإشراف على مركز التهذيب بالبيضاء الذي أحدث لاستقبال صغار الجانحين سنة قبل ذلك، وهناك بدأت مسيرتها العملية وأخذت تكتشف الواقع السجني عن كثب، وكثفت جهودها لتحسين الاوضاع، وكان ذلك بمؤازرة المدير العام السابق للمديرية، وفوجئت بأن نزلاء هذا المركز سرعان ما أدركوا تطلعاتها وانشغالها بأوضاعهم، ونشأت بينها وبينهم علاقة إنسانية رائعة، وأمام ضعف الإمكانيات فكرت بالاستعانة بأصدقائها ومعارفها وأفراد عائلتها على سد النقص الذي يعانيه المركز ومد يد المساعدة لهذه الفئة من صغار الجانحين الذين رمت بهم ظروفهم الى السقوط في شرك الانحراف، إدراكا منها بأن مسألة إصلاحهم وهم في هذه السن، أمر ممكن ومن هنا جاءت فكرة إنشاء جمعية تعنى بأوضاعهم، وتهتم أساسا بالدعم والتعاون كأسلوب للتعاطي مع الموضوع. وبعد سنة من النضال اليومي المستميت، جاءت الزيارة الملكية داعمة ومساندة لهذا النهج ومباركة لهذا التوجه، وتم تتويجها بإحداث جلالته لمؤسسة تحمل اسمه الكريم تهدف الى أنسنة السجون عبر دعم برامج إعادة إدماج ومساعدة المخطئين على التوبة والاصلاح والرجوع الى المجتمع مواطنين صالحين ومتصالحين مع أنفسهم ومجتمعهم. توجه لم يفهمه الموظفون في بداية الأمر، ورفض البعض منهم التعاون، خاصة وأن وضعية آسية لم تكن واضحة، لأنهم وهذا ما أكدوه لها في ما بعد، اعتبروا أن جهودها لتحسين أوضاع السجناء كانت تفسر بأنها تقف ضدهم والحال أن أوضاعهم كانت بدورها تشغلها، فقد كانت تلمس عن قرب جسامة مهامهم وشظف عيشهم وهزالة أجورهم، وحاولت قدر الإمكان التدخل لحل بعض مشاكلهم.