أوقفني في الموت فرأيت الأعمال سيئات ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء ورأيت الغنى قد صار ناراً ولحق بالنار ورأيت الفقر خصماً يحتج ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء ورأيت الملك غروراً ورأيت الملكوت خداعاً، وناديت يا علم فلم يجبني وناديت يا معرفة فلم تجبني، ورأيت كل شيء قد أسلمني ورأيت كل خليقة قد هرب مني وبقيت وحدي، وجاءني العمل فرأيت فيه الوهم الخفي والخفي الغابر فما نفعني إلا رحمة ربي مواصلة لعلاقته الغائرة بالخطاب الصوفي، الذي يرتبط به كتابة وتتبعا وسلوكا ولغة، أصدر الأستاذ الباحث خالد بلقاسم كتابا جديدا عن محمد بن عبد الجبّار النفري بعنوان « الصوفية والفراغ، الكتابة عند النفري». وهو الكتاب الذي صدر للمؤلف عن « المركز الثقافي العربي» خلال شهر ماي 2012. ويعتبر الكاتب المغربي من أبرز الوجوه الثقافية العربية المهتمة بالبحث الرصين في مجال الخطاب الصوفي القديم، حيث سبق أنْ أصدر كتاب «أدونيس والخطاب الصوفي» عن دار توبقال، و»الكتابة والتصوف عند ابن عربي «، فضْلا عن ترجمته لديوان الطاهر بن جلون « ظلال عارية « وهو الديوان الذي حاز جائزة الأركانة. ينطلق الكاتب من تصوّر مفاده انعدام الفروق في المقاربة بين القديم والحديث، فالإشكال، عندما يتعلق بنصوص قديمة، ليس زمنيا بقدر ما هو منهجيّ مرتبط أساسا بتطور المقاربات والمناهج وأدوات التحليل. يتأسس على هذا القوْل أنّ كتاب «الصوفية والفراغ» ليس إعادة استنساخ أو إنتاج لخطاب القدماء، وإنما هو سفر جديد بوعي جديد في الكتابة الصوفية باعتبارها لغة وأسلوبا وتأويلا للعالم، سفر يروم البحث عن أفق قرائي جديد. وقد اختار خالد بلقاسم خوض غمار البحث في مفهوم الفراغ عند النفري معتبرا أنّ الفراغ، عند الصوفية عموما، ليس مفهوما نظريا ولا تصورا ذهنيا، بل هو «تجربة تنشد الأقصى، مستشرقة الما وراء، ما وراء كل شيء، ما وراء الأحكام، و ماوراء الضدية المنتجة لحجب الثنائيات. إنها منطقة بعيدة، فيها يتسنى للهوية الصوفية أن تتحقق من الآخر الذي به تتغذى وتتجدد. آخر منفلت دوما، يتوقف ومض ظهوره على شسوع الفراغ «. من ثمّ، فإنّ الفراغ عند النفري لا يمكن أنْ نفهم منه ذلك التصوّر الفضائي أو التجسيد المكاني، بلْ إنه مفهوم-تجربة. الفراغ تجربة الماوراء: ما وراء كلّ شيء، ما وراء الأحكام، وما وراء الضدّية الفراغ تختبر داخله الذات أقصى ممكنها. لذلك تعتبر تجربته، صوفيّا، بحثا عن المستحيل. لذلك يعتبر الكاتب أن الوقفة، في أفق تحديد الفراغ، تتحدّد بكونها «نار الكون كما يصرّح هذا الصوفي الذي رأى الكون كله سوى. رآه ضيّقا لا يتسع، بالأحكام الحاجبة له، للرحابة التي ينشدها الفراغ». إنّ الواقف هو المنتظِر والمنتَظر داخل لحظة تكاملت في زمن الذات الإلهية وتهيأت وسكنت لتلقِّي الخطاب الإلهي المطلق. والواقف هو ذلك الذي تسلَّق قمة سلّم التجريد، والذي تجرد من التجرد ذاته؛ فهو يدور في عوالم الغيب والشهادة بدون حجب أو أستار. ويحقق الواقف أعلى مراتب الفناء في سلَّم المقامات المعنوية عند أهل الطريق. اختار النفَّري أكثر المفردات تجريداً لتسمية مقاماته المعنوية. فالوقفة/الواقف كلمة مجردة أراد النفَّري أن يؤسس عليها معانيه ومعارفه الخاصة. الوقفة عند النفري مسلوبة الإرادة، وخارجة عن كل ضدانية وسوائية وغيرية، ولا تتستَّر بأي ستر، مادياً كان أم معنوياً. في عملية تلقِّي الخطاب الإلهي من الخطاب الإلهية، فإن أول ما يفقد الواقفُ هي القدرَة على الكلام، لتحلُّ محلَّ الكلام حالات من مثل الأدب والإنصات والصمت. وبعد هذه العملية يتحقق الإلقاء، وتبدأ العبارة الإلهية تكتمل داخل النص، كما في قوله: «أوقفني في الوقفة... وقال لي: إن لم تظفر بي، أليس يظفر بك سواي؟» في الفصل الأول من الكتاب، وقف بلقاسم عند تلقّي القدماء والمحدثين لخطاب النفري، وخصوصا كتاب «المواقف والمخاطبات»، مبيّنا أنّ ابن عربي كان من بين القدماء الذين دخلوا في حوار خصب ومثمر مع تجربة النفري. وهو الحوار الذي تابعه من بعد عفيف الدين التلمساني الذي أنجز شرحا تفصيليا لكتاب المواقف. أما حديثا، فإنّ المستشرقين كانوا سباقين إلى نقض غبار النسيان عن المواقف والمخاطبات تحقيقا وشرحا وترجمة، لتنفتح القراءات العربية من بعد على الأبعاد الشعرية والرمزية والخيالية للنفري. وهي في عمومها، يستنتج الكاتب، قراءات قليلة بالنظر لطول المدة الزمنية وعمق التجربة. الفصل الثاني خصصه الكاتب لتجربة الوقفة عند النفري، وذلك من خلال الإنصات لخطابه الذي تتكشّف منه صعوبة وتمنّع الوقفة على التصوّر والمفهوم والحصْر، قبل تأويل هذا التمنّع باعتباره أسّ التجربة الصوفية عند النفري ونسْغها. الوقفة عند هذا الصوفي «عبور دائم، مادامت الحدود والحجب لا ترتفع إلاّ لتعود، من غير أن يتحقق لارتفاعها وسْم الديمومة». من ثمّ فإنّ العبور هو الديمومة الممكنة. هذا هو المدخل الأوّل، أما المدخل الثاني، المتصل به بقوّة، فهو مفهوم الفراغ الذي تتكشّف به دلالة التوقيف في الوقفة، أيْ توقيف الأحكام التي تحجب الوجود بحجب الحواسّ عن مطلقها. غير أن خصوبة هذا المفهوم لا تقتصر على إضاءة علاقة الواقف بالمطلق فقط، بقدر ما تتعداّه إلى الأسئلة التي فتحها أمام الخطاب الواصف للوقفة. ففي ضوء دلالة الفراغ، كان هذا الخطاب ملزما بتأجيل الأحكام والتهيّؤ المستمر لمواجهة ذاته، استرشادا بالممكن الذي ينطوي عليه الخطاب الموصوف. هذا التصور الخلاّق للكاتب، سمح له بإيجاد طريقة لهدم وتقويض عدد من الثنائيات الميتافيزيقية، لكي تغدو الأضداد متساوية، ويمكّن التأويل من عدّ الوقفة عبورا، والحدّ لا حدّا، ومن الاهتداء إلى أنّ الفراغ ليس فراغا. أما المدخل الثالث والأخير، فهو الذي يتعلّق بالرؤية وتجربتها عند النفري. الرؤية كنمط إدراك لا يتصل بالحواس بالضرورة، بل إنها تسمح بالاتساع والتعالي. ولا بد أن تتحقق لصاحب الرؤيا المعرفةُ التي يرى بها الحقيقة، ولا يرى بديلاً عنها. وهذا هو الاختلاف بين معرفة الواقف ومعرفة العارف: فالواقف يستخدم المعرفة في الرؤيا لرؤية الحق؛ بينما العارف يرى في المعرفة المعرفة ذاتها. الفصل الثالث اهتم فيه الكاتب ببنية الكتابة وإشكالاتها. الكتابة عند النفري تتوسّل أساسا باللغة وتطويعها في شكل شذريّ لتكثّف المعاني. مع النفري تصبح الشذرة le fragment بمثابة جنْس للكتابة قائم بذاته. الشّذرة فاصلة وواصلة، فاصلة لكوْنها مستقلة بذاتها مكتفية بها، غير أنها في الوقت ذاته تصل بشكل تراكميّ بين الشذرات السابقة واللاحقة. لذلك تتقدّم اللغة، كما يبيّن الكاتب، لاستشراف أفاق خصيبة لتلامس الأقاصي الوجودية التي هي، في الآن نفسه، أقاصي اللغة. واللغة مع النفري لا تتغيّا التواصل بقدر ما هي لغة في حالة اشتغال خاص مع ذاتها، بحيث تتحوّل الكتابة فيها إلى موضوع لذاتها، كما يتّضح ذلك من الشذرات التي أفردها النفري نفسه للكتابة. وبقدر ما يعرج الصوفي في مدارج العرفان، يعرج النفري في مدارج الكتابة مرقيا نحو أقصاها، أيْ نحو مستحيلها. هو الذي يعرف حدود اللغة البشرية المشتركة التي تحول دون الإفصاح عن الرؤيا والتعبير عن التجربة. يوضّح خالد بلقاسم أن مواجهة النفري لحدود اللغة، والبحث عن أقاصيها، هيّأ له أن يمارس الفعل الكتابيّ باعتباره فعْلا تنهض هويّته على النقص والانفلات والغياب والإخفاق والخيبة والألم والتقطّع والصّمت. وهي كلها مفهومات تفضي إلى الإثراء والإخصاب.