توطئة لقد احتل، في الآونة الأخيرة، خطاب «مكافحة الفساد» الصدارة في الخطاب السياسي المغربي. فما إن رفعت حركة 20 فبراير شعار «الشعب يريد إسقاط الفساد»، حتى أصبح مطلب محاربة الفساد يتقاسمه الجميع، رسميا وشعبيا. وقد تجاوب نص الدستور الجديد مع هذا المطلب من خلال تنصيصه على بعض المبادئ مثل فصل السلط، ربط المسؤولية بالمحاسبة، استقلالية القضاء، الخ، وكذا من خلال إقرار بعض الآليات مثل منع الترحال السياسي، وكذا من خلال الارتقاء ببعض المؤسسات الاستشارية، وذلك بدسترتها، مثل مجلس المنافسة والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة... وما كان لمطلب محاربة الفساد أن يحظى باهتمام كل الفاعلين (دولة، أحزاب، جمعيات...)، لو لم يكن هذا الفساد منتشرا بشكل واسع ويشكل خطرا على البلاد وعلى مؤسساتها (السياسية والاقتصادية) وعلى نسيجها المجتمعي. وليس عبثا ولا صدفة أن يكون شعار«الشعب يريد إسقاط الفساد» مقرونا بشعار «الشعب يريد إسقاط الاستبداد»، ذلك أنهما وجهان لعملة واحدة. فالاستبداد ينتج الفساد ويحميه؛ والفساد يكرس الاستبداد ويعمل على تأبيده. كما أنه ليس اعتباطا ولا عرضا أن تطغى المطالب الاجتماعية في احتجاجات حركة 20 فبراير؛ ذلك أن تحالف الاستبداد والفساد الذي أنتجته السياسات اللاشعبية على مدى أكثر من أربعة عقود، خلف وضعا مغربيا عنوانه الأبرز هو الفقر والحرمان. ولذلك كانت حركة 20 فبراير قوية بمطلبها هذا..لأن الاستبداد والفساد متى تحالفا كانا معيقين وعدوين للديمقراطية والحداثة والتقدم والعدالة الاجتماعية. الفساد آفة مغربية متجذرة لقد سبق أن تطرقنا إلى ظاهرة استشراء الفساد ببلادنا، لدرجة يمكن معها القول بأن الفساد أصبح مؤسساتيا، ينخر الدولة والمجتمع معا، مما يعطل عجلة نمونا الاقتصادي ويعرقل تطور نظامنا السياسي ويعمق تأخرنا الاجتماعي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآفة ليست وليدة اليوم، بل هي متجذرة في التربة المغربية بشكل أصبحت معه جزءا بنيويا في النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي. ودون البحث في جذور هذه الظاهرة، أو التطلع إلى التأريخ لها، فإننا نشير إلى أن تاريخ المغرب المستقل حافل بشتى أنواع الفساد، وعلى رأسها الفساد السياسي الذي تم الاعتماد عليه في مواجهة القوى الديمقراطية التي كانت تسعى إلى تكريس دولة الحق والقانون وتحقيق العدالة الاجتماعية. ويجد الصراع السياسي المحتدم الذي عرفته بلادنا، منذ السنوات الأولى للاستقلال، تفسيره (أو بعض تفسيره، على الأقل) في هذه المواجهة التي كانت تتم بين إرادتين متعارضتين: فبقدر ما كانت القوى الممثلة لطموحات الجماهير الشعبية تسعى إلى بناء دولة حديثة تعتمد الديمقراطية في مفهومها الشامل ليستفيد الجميع من ثمرات الكفاح الوطني ومن خيرات الوطن، بقدر ما كان الحاكمون يعملون ليس فقط على الالتفاف على مكتسبات الاستقلال، بل وأيضا على تأبيد الاستبداد والتطبيع مع الفساد كمنهج للحكم، مستعملين في ذلك شتى الوسائل (قمع.. غش.. تزوير.. خلق أحزاب ذيلية.. صنع مؤسسات صورية.. الخ)، ليصل كل ذلك بالبلاد إلى حافة الإفلاس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يستنجد بالمعارضة، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي، بسبب ما أسماه «السكتة القلبية» التي كانت تتهدد البلاد. الفساد آفة كونية لكن الفساد، ليس إنتاجا مغربيا صرفا وليس ماركة مسجلة في المغرب. فكثير من دول العالم (إن لم نقل كلها، بما فيها حتى الدول العريقة في الديمقراطية) تعاني من هذه الظاهرة الخطيرة، مما جعل المنتظم الدولي يبحث عن آلية قانونية، ذات حمولة عالمية، تسمح بمواجهة الظاهرة من رشوة وفساد مالي واقتصادي...الشيء الذي أثمر ما يعرف ب«اتفاقية الأممالمتحدة لمحاربة الفساد». ولتعزيز سبل التعاون الدولي في هذا المجال، تم إنشاء مؤتمر دول الأطراف في الاتفاقية للبحث في سبل ووسائل تحقيق الأهداف المتوخاة من هذه الاتفاقية، وكذا تبادل الخبرات في مجال مكافحة الفساد. وقد انعقدت الدورة الرابعة لهذا المؤتمر بمراكش خلال شهر أكتوبر 2011، بمشاركة 150 دولة، بالإضافة إلى المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بمحاربة الفساد. ولا شك أن لانعقاد هذه الدورة في بلادنا دلالات رمزية وسياسية هامة، ليس أقلها الاعتراف الدولي بالجهد الذي بذله المغرب منذ حكومة الأستاذ «عبد الرحمان اليوسفي» في مجال مكافحة الرشوة والفساد، وذلك عبر مجموعة من الإصلاحات المؤسساتية ومن التشريعات والإجراءات المصاحبة، رغم أن نتائجها بقيت محدودة على أرض الواقع، بسبب عوامل متعددة، منها أن الفساد أصبح ثقافة، ومنها أن الفساد أصبح مجالا يستثمر فيه البعض، اعتمادا على السلطة، لمراكمة الثروات غير المشروعة...التي تحقق له النفوذ في شتى المجالات. «العهد القديم» ومحاربة الفساد وكما أن الفساد ليس وليد اليوم، فإن الشيء نفسه يصدق على هاجس محاربته؛ وحتى يبقى اهتمامنا محصورا في الفترة التي أشرنا إليها آنفا، نورد حدثين بارزين، عرفتهما فترة حكم الملك الراحل، الحسن الثاني؛ يتعلق الأمر، بالنسبة للحدث الأول الذي اهتز له المغرب في أواخر سنة 1971، بمحاكمة ستة وزراء سابقين، إلى جانب موظفين سامين ورجال أعمال، بتهمة الفساد والرشوة واستغلال النفوذ؛ أما الحدث الثاني، فيتعلق بحملة التطهير التي عاشها المغرب سنة 1996، والتي ارتكبت فيها تجاوزات من قبل الحكومة ممثلة في وزارتي الداخلية والعدل، أبانت للجميع كم كنا بعيدين عن مفهوم دولة الحق والقانون. ومن خلال استقراء بعض الأحداث ومآل بعض القضايا، يتضح أن الدولة كانت تلجأ، أحيانا، لنفض الغبار عن بعض الملفات لمساءلة أصحابها بهدف ذر الرماد في العيون أو تصفية الحسابات مع جهات معينة أو لتحقيق الهدفين معا، وليس بهدف مكافحة ظاهرة الفساد وتحجيمها، كما قد يتبادر إلى الذهن. فإلى جانب كون محاربة هذه الظاهرة كانت تكتسي طابع الموسمية والانتقائية، فإن الهدف الحقيقي من كل تلك الحملات لم يكن دائما هو محاربة الفساد، بل غالبا ما كان ذلك يتم بهدف تلهية الناس وتغليطهم، وذلك باعتماد أسلوب المكر السياسي المتخفي في ثوب الصرامة في مواجهة الفساد، الشيء الذي جعل، مع الوقت، بفعل إدراك هذه الحقيقة، مصداقية المؤسسات تتآكل وشرعيتها تهتز بسبب انعدام الثقة، من جهة، وبسبب تفاقم الظاهرة، من جهة أخرى، حتى وصل الأمر إلى السكتة القلبية، كما أسلفنا. «العهد الجديد» ومحاربة الفساد يبتدئ العهد الجديد، في ما يتعلق بمحاربة الفساد، مع حكومة «عبد الرحمان اليوسفي»، التي تعتبر بحق علامة فارقة في هذا المجال، لكونها تمثل منعطفا غير مسبوق، على الأقل من حيث المفاهيم المستعملة ومن حيث بعض الآليات المستحدثة من أجل الحد من الظاهرة. ومن المفاهيم الجديدة نذكر: ترشيد النفقات، الحكامة الجيدة، تخليق الحياة العامة، الشفافية، النزاهة، المساواة أمام القانون، عدم الإفلات من العقاب، الخ. ومن الآليات المعتمدة، سواء تلك التي تم إحداثها أو تلك التي تم تأهيلها للاستجابة لمتطلبات المرحلة، نشير، من بينها، إلى قانون الصفقات العمومية وقانون الأسعار والمنافسة، وكذا إلى المؤسسات ذات العلاقة، مثل مجلس المنافسة ومثل الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، والتي تم الارتقاء بها إلى مؤسسات دستورية في وثيقة فاتح يلويوز 2011 . هذا، دون أن ننسى أن كثيرا من ملفات الفساد قد تم تحريكها منذ حكومة الأستاذ «عبد الرحمان اليوسفي»؛ نذكر من بينها قضايا القرض العقاري والسياحي، البنك الشعبي، الضمان الاجتماعي، المطاحن... ويمكن القول بأن حكومة «جطو» وحكومة «الفاسي»، سارتا على نهج حكومة التناوب التوافقي، وإن بوتيرة وبحماس أقل. كما أن فترة حكومة «عباس الفاسي» المنبثقة عن انتخابات 2007، تميزت بنوع من الاحتقان السياسي الذي لن يوضع له حد إلا مع ظهور حركة 20 فبراير. حركة 20 فبراير ومطلب الرحيل بعد انتخابات 2007 التي حصلت فيها لائحة «فؤاد عالي الهمة» (صديق الملك والوزير المنتدب السابق في الداخلية) على كل مقاعد دائرة «الرحامنة»، وما تلاها من محطات (* تأسيس حزب «البام» سنة 2008 ليتوفر على أكبر فريق برلماني، جل أعضائه من الرحل القادمين من هيئات سياسية أخرى، في تحد سافر لقانون الأحزاب. * حصول «الوافد الجديد»، في الانتخابات الجماعية لسنة 2009، على المرتبة الأولى، مكنته من تسيير أو المشاركة في تسيير أهم المدن المغربية. * رئاسته لمجلس المستشارين...)، تبين أن هناك نزعة تسعى إلى احتكار العمل السياسي والتحكم فيه بالاعتماد على الفساد (الترحال السياسي، استغلال النفوذ، الإغراء، حماية المتورطين في ملفات الفساد...) . وقد خلقت هذه النزعة وضعا غير صحي، يطبعه الاحتقان السياسي. لكن المعادلة ستتغير مع خروج شباب حركة 20 فبراير إلى الشارع في أكثر من 50 مدينة مغربية، مرددين شعارات من قبيل «الشعب يريد إسقاط الفساد» و«الشعب يريد إسقاط الاستبداد»» رافعين صور بعض رموز الفساد في تلك المرحلة ومطالبين إياهم بالرحيل، ما جعل البلاد تدخل في مسلسل من محاولات الالتفاف على الحركة ومطالبها، خاصة وأن «الربيع العربي»، يومها، كان في أوج عنفوانه؛ ولذلك ستعرف الإصلاحات الدستورية والسياسية التي يا ما نادت بها الأحزاب الديمقراطية، دون أن تجد لذلك آذتنا، تسريعا في الاستجابة، وسيفضي الأمر إلى تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، سيحتل فيها شعار «محاربة الفساد» الصدارة، لدرجة أنه حتى الهيئات التي بنت مشروعها السياسي على الفساد والإفساد، قد تبنته هي الأخرى في عملية تغليط لم تكن لتخفى على أحد. الحكومة الحالية وخطاب محاربة الفساد أسفرت انتخابات 25 نونبر 2011 عن أغلبية جديدة يقودها حزب العدالة والتنمية؛ وستجعل هذه الأغلبية من محاربة الفساد إحدى أولويات برنامجها الحكومي، مما جعل الناس يستبشرون خيرا، خصوصا وأن الحكومة الحالية تعتبر أول حكومة منبثقة من صناديق الاقتراع (بالرغم من تدني نسبة المشاركة) ويؤطر عملها دستور جديد يمنح لها صلاحيات واسعة. لكن ما إن تم تنصيب الحكومة الجديدة وبدأت عملها حتى تبين أن هناك من يريد استعجال المكاسب السياسية الضيقة من وراء خطاب شعبوي في مكافحة الفساد. ولا نجد تفسيرا آخر غير هذا في ما يخص نشر لائحة المستفيدين من «مأذونيات» النقل (مع العلم أن اللائحة كانت معدة من قبل) ، دون أن يتم ذلك في إطار برنامج واضح يهدف، من جهة إلى القطع مع اقتصاد الريع، ومن جهة أخرى إلى جعل القطاع يستجيب لمتطلبات العصر. فالسؤال الذي طرح بعد نشر اللائحة هو: وما ذا بعد؟ صحيح أننا عرفنا أن الشيخ الذي يدعي الورع، قد حصل على رخصة نقل طنجة/خنيفرة، وعرفنا أيضا أن قتلة سالمهدي بنبركة» قد استفادوا من «المأذونيات»؛ كما عرفنا أن هناك جهات غير معلومة استفادت من هذا الريع، من أمثال من تستر على قتلة «عمر بنجلون» وآواهم. ثم إننا لا نفهم أن تعطى لذلك كل تلك الهالة، في حين تم السكوت عن المستفيدين من رخص الصيد في أعالي البحار والمستفيدين من مقالع الرمال...الخ. وما يعزز وجهة نظرنا بأن الأمر فيه تهافت واستعجال المكاسب السياسية هو، من جهة، اعتماد التسويق الإعلامي لقضية ليس لها تأثير يذكر في مجال المحاربة الفعلية للفساد، ما دامت لم توضع ضمن خطة تهدف إلى القطع مع اقتصاد الريع؛ ومن جهة أخرى، الاستفراد بالقرارات التي يفترض فيها أنها تعني الحكومة ككل. وهذا ما يفسر رد الفعل القوي، أحيانا، لأطراف من الأغلبية الحكومية ليس فقط على نشر لائحة المستفيدين من رخص النقل، ولكن أيضا على ما سمي بدفاتر التحملات المتعلقة بقطاع السمعي البصري العمومي. ونذكر، هنا، بموقف السيد «نبيل بن عبد الله». ما هو ملاحظ هو أن الحكومة الحالية أفرطت في الحديث عن محاربة الفساد، لكن دون أن تقدم تصورا واضحا، يعتمد، بالإضافة إلى المقاربة الزجرية، المقاربة الوقائية، الكفيلة بتحصين البلاد من هذه الآفة؛ وشتان، بالطبع، بين محاربة الفساد قولا وفعلا، وبين الاكتفاء بالحديث عنه وادعاء محاربته. صحيح أنه ليس هناك أفضل من الأسلوب الشعبوي لمن يريد دغدغة العواطف لاستمالة الجماهير لضمان أصواتها الانتخابية. لكن مستقبل البلاد لن يبنى لا بالشعارات ولا بالتصريحات الرنانة، بل بالبرامج الطموحة المبنية على معطيات دقيقة وعلى أهداف واضحة. والبداية يجب أن تكون من تفعيل الدستور الجديد وممارسة السلطات الواسعة التي يعطيها لرئيس الحكومة، والتي لم تتح لأي وزير أول سابق، على الإطلاق. فالحديث عن مكافحة الفساد يجب أن يجد صداه في الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وليس فقط في الخرجات الإعلامية. لكن ما هو مقلق حقا، هو تنازل رئيس الحكومة على اختصاصاته، كما أبان عن ذلك بوضوح في القانون التنظيمي المتعلق بالتعيينات في المناصب السامية، وكذا تذبذب مواقفه وقدرته على قول الشيء وضده، دون الشعور بالحرج؛ فهو يرفع شعار محاربة الفساد، ثم يقول عفا الله عما سلف؛ وهو يبتز الدولة سياسيا بتهديدها بالنزول إلى الشارع، ثم يسعى لنيل رضا وثقة الجهات التي يريد أن يبتزها...؛ وهذا، بالطبع، لا يبعث على الاطمئنان، مطلقا. ثم إن التراجع عن المواقف يكاد يكون السمة المميزة لهذه الحكومة؛ وحتى نحصر كلامنا في ما هو مرتبط بالحديث عن الفساد، نشير إلى أن السيد «نبيل بن عبد الله» كان وراء فضيحة اهتزت لها أركان وزارته. فقد أصدر في اليوم الواحد مذكرة، يسحب بموجبها من الولاة والعمال صلاحيات التراخيص الاستثنائية، ومذكرة أخرى يلغي بها المذكرة السابقة التي لم يكن حبرها قد جف بعد. وبدل أن يكشف السيد الوزير عن الجهات النافذة التي دفعته إلى التراجع عن قراراته، فتح تحقيقا لمعرفة من سرب الخبر إلى جريدة «الاتحاد الاشتراكي». وهذا ليس غريبا عن هذه الحكومة التي، بدل أن تفعل المبدأ الدستوري الذي يعطي الحق إلى المواطن في الوصول إلى المعلومة، راحت تحاكم الموظف الذي اعتبرته مسؤولا عن تسريب المعلومة المتعلقة بتعويضات «مزوار» و«بنسودة»، بدل البحث في ما إن كان المعنيان يستحقان تلك التعويضات أم لا، قانونيا. ففي الوقت الذي لا تكف فيه الحكومة ومسؤولي الحزب الحاكم عن صم آذاننا بشعار محاربة الفساد، نجد أنها تحاكم من يساهم في فضح الفساد بوضع المعلومة رهن إشارة المواطن. فهل هناك تناقض أكبر من هذا؟ وهل تعتبر الحكومة أن التعويضات التي استفاد منها المسؤولان المذكوران، هي من أسرار الدولة التي لا يجب أن تصل إلى العموم؟ وهل سيحذو السيد «نبيل بن عبد الله» حذو زميله في المالية، فيعمل على معاقبة من سرب مذكرته إلى الصحافة، وذلك بتقديمه إلى العدالة؟ هذا ما يبدو من خلال خرجته على مواقع التواصل الاجتماعي، مدعيا أن سحب مضمون المذكرة خرافة وأنها ستعرف طريقها إلى التنفيذ لاحقا. وقد يكون الموظف المعني، في نظر الوزير، مستحقا للعقاب لأنه «سرب» مذكرة وضعت يدها على سر من الأسرار التي يريدها سيادته أن لا تنكشف، خصوصا وأن التراخيص الاستثنائية، كما هو معلوم، دجاجة تبيض ذهبا، ولا بأس، بعد ذلك، من التشوه العمراني الذي تعاني منه كل المدن المغربية. وهل نحتاج أن نذكر، في هذا الصدد، أن الإدارة الترابية، مثلها مثل باقي الإدارات، ينخرها الفساد، من رشوة ومحسوبية واستغلال النفوذ... والذي لم يسلم منه، حسب ما يبدو، حتى الوزير نفسه الذي اضطر إلى التراجع عن قراراته؟ شيء مخيف حقا أن ترى أعضاء في الحكومة، يبحثون عن أكباش فداء للتغطية عن عجزهم في مواجهة «الحيتان الكبيرة». على سبيل الختم يهمني، كمواطن وكفاعل سياسي، أن تنجح الحكومة في رهان محاربة الفساد، وفي باقي الأوراش؛ لأن نجاحها هو نجاح للبلاد، وفشلها، هو أيضا فشل للبلاد. ولا أعتقد أن هناك شخصا له غيرة على هذا الوطن لا يتمنى للتجربة الحالية أن تنجح، ليس فقط في مواجهة المفسدين، بل وأيضا في إعادة الثقة إلى المواطن في مؤسسات الدولة وفي العمل السياسي، تلك الثقة التي اهتزت بفعل ما عرفه الحقل السياسي من تجاوزات ومن تشوهات. وفشل التجربة الحالية سيعمق أسباب الإحباط وسيزيد من دواعي العزوف عن السياسة. ولن يستفيد من هذا العزوف سوى من له مصلحة في أن لا تعرف البلاد أي إصلاح وأي تقدم في مجال البناء الديمقراطي. لكن الإصلاح، ومحاربة الفساد جزء منه، لا يتم بالنية فقط، بل بأفعال ملموسة، يرى المواطن آثارها في ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. فلا يكفي أن نصف الحكومة الحالية بكونها«حكومة الإصلاح»، كما يحلو لأنصارها أن يصفوها، لكي تنطلق عملية الإصلاح، ذلك أن الإصلاح ليس بالسهولة الذي يتصوره البعض؛ وما يزيد من تعقيد هذه العملية هو تفشي الفساد. ومن السذاجة أن نعتقد أن أصحاب المصالح سيستسلمون بسهولة، خصوصا إن كانوا متغلغلين في مختلف مرافق الدولة. و«طبيعي» أن يكونوا قوى مضادة تتصدى لكل عملية إصلاح، تتضرر منه مصالحهم التي يتشابك فيها السياسي مع الاقتصادي. وسواء سميناهم «تماسيح» أو «عفاريت»، فلن يغير ذلك شيئا من وضعهم. ما يهم هو كيفية مواجهتهم على أرضية الصراع بصفتهم يمثلون القوى الفاسدة التي راكمت، في غياب المراقبة والمحاسبة، ثروات ومصالح وأصبحوا جزءا من الأزمة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية التي أصابت الكثير من مؤسساتنا بأعطاب خطيرة. لكن، بالمقابل، يجب الاعتراف، حتى نكون منصفين، وحتى لا نتهم بالسوداوية، بوجود العديد من المسؤولين الذين يخدمون وطنهم بإخلاص ونزاهة ونكران الذات، وإن كان العديد منهم يعاني، في صمت، حين يجدون أنفسهم في وسط موبوء لا يشجع على الاجتهاد والعطاء. لذلك فإن خطاب محاربة الفساد ينبغي أن يستحضر وجود هؤلاء الذين بإمكانهم المساعدة على تشديد الخناق على الفساد والمفسدين، في حال توفر ليس فقط إرادة سياسية وكفى، بل وأيضا إستراتيجية حقيقية لمحاربة الفساد. 1 انظر «في الفساد السياسي»، جريدة «الاتحاد الاشتراكي» ، 14 سبتمبر 2011 و«في الفساد والمفسدين»، جريدة «المساء»، 22 أكتوبر 2011 2 انظر مقالنا بعنوان «البام» بدون الهمة: عودة إلى وضع «طبيعي»، جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، 8 يونيو 2011، وكذا مقالنا «ملاحظات حول المشهد السياسي المغربي»، جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، 18 سبتمبر 2012 .