ان حاجة الإنسان للأمن ولحماية حقوقه تأتي في المرتبة الثانية بعد احتياجاته الفزيولوجية من غداء ولباس ومسكن، كما أن نمو الدخل الفردي والاستثمار الذي يعد المحرك الرئيسي للتشغيل والاقتصاد الوطني مرتبط بمصداقية الدولة في حماية النظام العام والممتلكات وتطبيق القانون وهو ما يجعل القضاء مرفقا عموميا محوريا ومؤثرا على درجة قصوى من الأهمية. ولتعميم الفائدة وتيسير المتابعة للحوار الوطني الجاري حول إصلاح منظومة العدالة على عدة مراحل، بمشاركة كل الفعاليات المهنية والحكومية والمدنية المعنية بعد أن تم تنصيب هيأته العليا وأعطيت انطلاقته يوم 8 ماي 2012، سنحاول تقديم نبذة عن الموضوع، ثم نخلص إلى تداعياته على عالم الشغل من خلال رصد التأثيرات المباشرة على الأطراف الفاعلة فيه والمقصود بهم المشغلون والأجراء ومفتشية الشغل باعتبار هذه الأخيرة الجهة الحكومية المشرفة على القطاع، وكل ذلك عبر التطرق لمناخ المال والأعمال، وموقف الأجراء من العدالة، وأداء جهاز تفتيش الشغل. وهكذا فمن خلال تشخيص الوضعية القضائية ببلادنا تبرز أهم المعوقات التي يعاني منها المجتمع المغربي بكل شرائحه وقطاعاته في مجال العدالة والمتمثلة أساسا كما هو ملموس لدى المتقاضين على الخصوص فيما يلي : 1 - صعوبة الولوج إلى العدالة والقصور في التواصل مع المتقاضين وضعف البنية التحتية للمحاكم التي يوجد جلها في وضعية غير لائقة ؛ 2 - الاكتظاظ وتراكم الملفات والبطء الشديد في إصدار الأحكام والحسم في القضايا الرائجة؛ 3 - قلة اعتماد الإدارة القضائية على المناهج الحديثة والمعلوميات لتسريع المساطر والإجراءات، ومواصلة القيام بالعمل التقليدي اليدوي من طرف كتابة الضبط ؛ 4 - تسجيل عجز كبير ومتراكم من سنة إلى أخرى بالنسبة لقضايا التنفيذ الزجري ولاسيما في مواجهة الإدارات العمومية وشركات التأمين بالإضافة إلى معضلة التبليغ الحيوي بالنسبة لكل المساطر القانونية؛ 5 - إشكالية التخليق والشفافية والمحاسبة في قطاع العدالة بكل مكوناته ومستوياته والمهن المرتبطة به . لهذه الأسباب ولغيرها يطمح إصلاح منظومة العدالة الذي وصف بالشامل والعميق في مسودة مشروعه المطروحة كأرضية للحوار الوطني والتي تسعى إلى بلوغ اهداف استراتجية تتمثل في التحديث والتأهيل وصولا إلى القضاء المستقل والنزيه والفعال، ولتحقيق هذه الاستراتيجية يقترح مشروع المخطط عددا من الخطوات حددت في 48 برنامجا عمليا و174 مشروعا وإجراء تنفيذيا للفترة ما بين (2012-2016) من أهمها : أ - تأهيل البنية التحتية عن طريق بناء 57 مقرا جديدا للمحاكم وإصلاح وتوسعة وتهيئة الباقي ، والارتقاء بتجهيزاتها وأمنها إلى المستوى الحديث المطلوب ؛ ب- تحسين ظروف الاستقبال والتواصل عبر توفير مكاتب للاستقبال بكل المحاكم مزودة بالوسائل والأطر المتخصصة في هذا المجال وبآليات لتسهيل إجراءات تظلم المتقاضين ومعالجة شكاياتهم ؛ ج - تنزيل السلطة القضائية وفقا لأحكام الدستور، وتأهيل الموارد البشرية والهياكل القضائية والإدارية من خلال سد الخصاص في هذا المجال بتوظيف 1500 قاض و2000 إطار إداري، والرفع من جودة التكوين بالمعهد العالي للقضاء ببناء مركب عصري كبير متوفر على أحدث التجهيزات والمناهج ؛ د - استخدام المكننة الشاملة للإدارة القضائية، مع وضع برامج معلوماتية خاصة بالمساطر والإجراءات القانونية وكل الخدمات المقدمة من طرف كتابة الضبط مع تبسيطها وتوحيدها وتعميمها على جميع محاكم المملكة ؛ ه - النهوض بتنفيذ الأحكام وتسريح آلياته عبر تنزيل مؤسسة قاضي التنفيذ ، وحوسبة إجراءات التنفيذ والتبليغ باستخدام التقنية الحديثة مع إيلاء أهمية خاصة للتنفيذ في مواجهة شركات التأمين والإدارات العمومية ؛ و- الرفع من مستوى التخليق بمزيد من الشفافية وتحسين الوضعية المادية وتقوية آليات المراقبة والتنافسية والمحاسبة وعدم الإفلات من المساءلة والعقاب. من خلال استقراء وتقييم مشروع المخطط يتبين أنه يسعى إلى إقامة ورش كبير يمتد لأربع سنوات ويتضمن إجراءات ومشاريع محددة تستهدف مواجهة المعوقات المرتبطة أساسا بالبنية التحتية والموارد البشرية واستخدام المناهج والتقنية الحديثة، إلا أن تنفيذه يتطلب اعتمادات مالية مهمة يبقى السؤال عن القدرة على توفيرها، كما أن نجاحه يظل رهينا بانخراط العنصر البشري المهني المعني بالأمر بالإضافة إلى ضرورة المساهمة الإيجابية لمختلف الفعاليات المشاركة في الحوار، المطالبة بالابتعاد عن التجادبات والمصالح الخاصة والجدل الفلسفي العقيم على اعتبار أن الانعكاسات الإيجابية لإصلاح العدالة تتجاوز قطاع العدل لتطال المجتمع بكل مكوناته ومنها عالم الشغل بالمحاور الثلاثة التي حددنا سابقا وذلك كما يلي : 1 - مناخ المال والأعمال يتصف رأس المال عادة حسب الخبراء بالحذر والجبن الذي يدفعه للانكماش والابتعاد عن المغامرة في الأجواء الغير المضمونة العواقب، وهو ما يفرض توفير الظروف المواتية لتحسين مناخ الأعمال بهدف إنعاش الاستثمار والتشغيل وخلق المزيد من فرص العمل لكل الوافدين لسوق الشغل الذين أصبحت الدولة عاجزة عن استيعابهم في إطار الوظيفة العمومية،إلا أن الاستبيانات تفيد أن أهم العوامل المعرقلة للتنمية الاقتصادية والقدرة التنافسية لبلادنا في مجال تدفق الاستثمارات الخارجية وتنمية الشركات الوطنية تتمثل في البيروقراطية والفساد وعدم تطبيق القانون، إذ يحتل المغرب المرتبة 70 من بين 144 بلدا من التصنيف العالمي للتنافسية والجاذبية للاستثمار برسم سنة 2012 وهو ما لا يليق بالأهمية الاستراتيجية والمؤهلات الطبيعية والبشرية والاستقرار السياسي الذي تنعم به بلادنا ، وما يبرز الحاجة الملحة للمزيد من الشفافية والتخليق من الإدارة العمومية ويتطلب فعلا الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة ووضع حد لجميع معوقاتها، إلى جانب بعض الخصوصيات مثل ضرورة إيجاد إطار قانوني جديد للسجل التجاري للإسراع بخلق المقاولات وإحداث التغييرات اللازمة في قانون المسطرة المدنية ومدونة التجارة لضمان الممارسة السليمة لمساطر الأمر بالأداء ومعالجة صعوبات المقاولة بالإضافة إلى إصلاح نظام التوثيق وتقوية القدرة التواصلية لقطاع العدل . 2 - موقف الأجراء من العدالة يفضل الأجراء عادة اللجوء إلى مفتشية الشغل لإيجاد حل ودي للنزاع الذي يمكن أن ينشب بينهم وبين مشغليهم، وذلك حتى قبل أن يقرر المشرع تقنين عملية التصالح لدى مفتش الشغل والتي تسبق الإحالة على المحكمة في المادة 532 من مدونة الشغل، ويساهم هذا الإجراء -الذي يعد من الوسائل البديلة الواجبة الدعم في المخطط - بقسط وافر في التخفيف من الضغط الذي يمكن أن تسببه كثافة القضايا الاجتماعية للمحاكم ،إلا أنه عند فشل محاولة الصلح لدى مفتش الشغل يظل القضاء طبقا لأحكام المسطرة المدنية وحده مختصا للبث ابتدائيا واستئنافيا ونقضا في النزاعات الفردية المتعلقة بعقود الشغل أو التدريب المهني ، والخلافات الفردية التي لها علاقة بالشغل أو التدريب المهني إلى جانب قضايا حوادث الشغل والأمراض المهنية، وهو ما يجعل الأجراء يعانون كغيرهم من المتقاضين من كل المعوقات التي سبق ان أوردناها عند تشخيص الوضعية القضائية، والمتمثلة في الولوج والتواصل مع العدالة والبطء في إصدار الأحكام وتنفيذها ومشكل التخليق وغيره مما يدفع العديد منهم وفي الكثير من الأحيان إما إلى صرف النظر نهائيا عن استيفاء حقوقهم، أو إلى القبول بتسويات لا تتضمن إلا النزر اليسير من هذه الحقوق ، وكل ذلك لتفادي الدخول في متاهات التقاضي بالمحاكم، ولأجل ذلك فإن إصلاح منظومة العدالة وتخليصها من مجمل المعوقات المحيطة بها وإيجاد محاكم خاصة بالشغل مستقلة على غرار المحاكم الإدارية والتجارية، وتعميم التجربة التي تمت بمدينة الدارالبيضاء من شأنه إعادة الثقة وتشجيع الأجراء على اللجوء الى التقاضي للحصول على حقوقهم المهضومة ووضع حد للوضعية الراهنة التي فيها كثير من الحيف لهاته الفئة التي تمثل الطرف الضعيف في علاقة الشغل. 3 - أداء جهاز تفتيش الشغل يتكفل القضاء بإتمام العمل الذي تقوم به مفتشية الشغل وإضفاء الصبغة التنفيذية عليه كما هو الحال بالنسبة لسائر الأجهزة القانونية المماثلة، وهو ما يجعل بالتالي أداءها يتأثر سلبا وإيجابا بسوء أو بحسن سير العدالة، إذ على الرغم من ان مفتشي الشغل هم المكلفين بمراقبة تطبيق النصوص القانونية والتنظيمية المتعلقة بالشغل،وهم أيضا من يتوجب عليهم معاينة المخالفات المتعلقة بهذه القوانين وتحرير محاضر بشأنها، إلا أن تحريك المتابعة وإصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات يظل من اختصاص السلطة القضائية حيث تحال محاضر المخالفات بعد تحريرها من طرف مفتش الشغل على المحكمة الابتدائية من قبل مندوب الشغل ثم على النيابة العامة التي تقرر تحريك المتابعة أو حفظها، او إعادتها للشرطة القضائية لاستكمال البحث، وهذه الأخيرة غالبا ما تتعامل مع مفتش الشغل كأي طرف عادي في القضية إن لم نقل كمتهم. وعند تحريك المتابعة من قبل النيابة العامة يتم إدراج الملف فيما يسمى داخل المحكمة بجلسة الجنحي العادي، حيث يروج إلى جانب الملفات الأخرى المتعلقة بتبادل الضرب والجرح، والسب والقذف وغيره ....ليصل لمرحلة الحسم إذا نجح في تجاوز كل العقبات التي سبق الحديث عنها وعلى وجه الخصوص معضلة التبليغ، وكل ذلك دون تتبع أو اهتمام من الجهة المعنية لعدم وجود تنسيق أو تعاون في هذا المجال. كما ان الحكم الصادر في الملف ليس بالضرورة إيجابيا نظرا للحجية الضعيفة للمحضر المحرر من طرف مفتش الشغل حيث يجوز الطعن فيه بجميع الوسائل وفي غياب محرره، ويبقى الأكثر مدعاة للقلق هو أن هناك أسئلة تظل عالقة بشأن مدى تنفيذ العقوبات والغرامات حتى في حالة الحكم بها. وهو ما يمس في الصميم إلزامية القوانين الاجتماعية ويطرح الجدوى من العقوبات المنصوص عليها في المدونة من دون تنفيذها، ويفسر- بالإضافة إلى عزوف أعوان التفتيش عن تحرير المحاضر بسبب ما سبق ذكره - الواقع الحالي الذي يشجع على التمادي في خرق هذه القوانين، كما يساهم أيضا في الطعن في مصداقية وذمة مفتش الشغل من طرف المتضررين المعنيين مباشرة الذين لا يلاحظون أي تغيير في وضعيتهم، رغم قيام مفتش الشغل بكل ما يتوجب عليه القيام به قانونا. وهناك مسألة لا تقل أهمية من حيث تأثيرها على أداء مفتش الشغل وتحتاج للإصلاح وتتمثل في توفير الحماية القبلية لمفتش الشغل،إذ أن الحماية القانونية الحالية تعتبر بعدية أي بعد التعرض للعرقلة أو الإهانة أو الاعتداء المادي أو المعنوي، وتتسم بعدم نجاعتها وفعاليتها لاسيما أن مفتش الشغل يعمل في الغالب في ظل أجراء مكهربة ومصالح متناقضة ويضطر للدخول إلى مقرات العمل او المنازل في بعض الأحيان لضبط المخالفات،و التدخل في النزاعات والإضرابات المتعددة ويحتاج لتوفير آلية مستمرة للحماية تحت إشراف السلطة القضائية. وختاما نعتقد أن التنفيذ الفعلي والعملي لإصلاح منظومة العدالة سيكون له الأثر العميق على عالم الشغل بما في ذلك مناخ المال والأعمال والاقتصاد الوطني ، وسيحسن كثيرا من أداء جهاز تفتيش الشغل ومسعاه لفرض تطبيق القوانين الاجتماعية،وسيساهم في تخفيف المعاناة على الأجراء الذين يشكلون شريحة عريضة من المجتمع .