بعد سماع الرسول كلام عائشة المعاتب له جرّاء زيادته البالغة في الاهتمام بزينب بنت جحش وما قالته له، خرج من عندها غاضبا واقسمَ لاّ يرى زوجاته طيلة شهر كامل. وهكذا اعتزلهنّ في مكان خاصّ به يُسمىّ «مشربة»، مع قليل من الطعام والماء، لا ينزل إلاّ للصلاة فقط، ولا يدخل على زوجاته، حتى قال الناس: طلّق النبي نساءه. وقد قلق صحابته من هذا الاعتزال وكثر التساؤل عن أسبابه، ولمْ يجرؤ أحد على تكليمه أو مفاتحته في الموضوع. قال: - ما أنا بداخل عليهن شهرًا. فلما انتشر الخبر في المدينة، أشاع الناس بأنّ محمّدا قد طلّق زوجاته. ولمْ يغامر أحد بزيارته في عزلته، ومعرفة سبب غضبته إلاّ أبو عمر بن الخطاب. ذلك أنه استأذن غلام الرسول في الدخول عليه، غيْر أنه لمْ يُؤذَنْ له. ثم انصرف وتوجّه نحو بيت عائشة قائلا لها: - يا بنت أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله؟ فأجابته عائشة قائلة: - مالي ومالك يا بن الخطاب، اهتمّ بشأنك ودعني. ثمّ خرج ودخلت على ابنته حفصة، فقال لها : - يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله، والله لقد علمت أن رسول الله لا يحبك ، ولولا أنا لطلقك رسول الله. فبكت حفصة أشد البكاء. ثمّ توعّدها وانصرف عائدا مرّة أخرى إلى المشربة. ثمّ ذهب ودخل على أمّ سلمة وكلمها في الموضوع أيضاً، فقالت: - عجباً لك يا ابن الخطاب، قد دخلتَ فى كلّ شئ حتى تبتغي أنْ تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. فخرج من عندها دون كلام، وعاد إلى معْزل محمد، فإذا برباح غلام الرسول قاعدا على مصطبة المشربة يدلي رجليه على قطعة من خشب وهو جذع يرقى عليه وينحدر، فناداه ثانية: - يا رباح، استأذنْ لي عندك على رسول الله. فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إليه فلم يقل شيئا. ثم رفع صوته فقال: - يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله فإني أظن أنه ظن أني جئت من أجل حفصة والله لئن أمرني رسول الله بضرب عنقها لأضربنّ عنقها ورفع صوته فأومأ إليه أن يدخل. فدخل عليه وهو مضطجع على حصير، فجلس فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه فنظر ببصره في خزانة رسول فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظا في ناحية الغرفة. وإذا فابتدرت عيناه وقال: - ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ فردّ عليه قائلا بحزْن: - يا نبيّ الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته وهذه خزانتك. فقال: - يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قال: - بلى. فقال له: - يا رسول الله، ما يشقّ عليك من شأن النساء، فإن كنت طلقتهنّ فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول. ونزلت هذه الآية آية التخيير عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير1، على سائر نساء النبي. فقال: - يا رسول الله هلْ طلقتهن؟ قال: - لا. وتابع ابن الخطاب قائلا: - يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون طلق رسول الله نساءه، أفأنزلُ فأخبرهم أنك لم تطلقهنّ؟ قال: - نعم إن شئت. فلم يزل يحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى فضحك، ثم نزل محمد ونزل عمر بعده، فقال له: - يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين؟ قال إن الشهر يكون تسعا وعشرين، فقام على باب المسجد فنادى بأعلى صوته: - لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية «وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم». وما كان من أمْر محمّد إلا أنْ دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشةُ: - يا رسول الله، إنّك كنت قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة، أُعدّها عدًا! فقال: الشهرُ تسعُ وعشرون ليلةً، فكان ذلك الشهرُ تسعًا وعشرين ليلة ً2. غدا: الرسول يعود إلى حياته الزوجية بعد العزْلة 1 - تقصد الكاتبة هنا الآيات الأولى من سورة التحريم :» يَأَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذَ أَسَرّ النّبِيّ إِلَىَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمّا نَبّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هََذَا قَالَ نَبّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِن تَتُوبَآ إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَىَ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مّنكُنّ مُسْلِمَاتٍ مّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً» (المترجم). 2 - انظر التفاصيل عند كل من البلاذري في «أنساب الأشراف»، وابن سعد في «الطبقات الكبرى». (المترجم).