في هذا الخضمّ المتوتّر داخل البيت النبوي، سوف تبلغ الأزمة أوْجها حين دخلتْ المدينة، ذات ظهيرة من شتاء السنة السابعة للهجرة، قافلة قادمة من مصر، موجَّهة من طرف المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية1. وصلت القافلة ومعها رسالة إلى محمّد يجيبه فيها قائلا - :»لولا المَلك، يعني ملك الروم، لأسْلمتُ». وأهدى إلى الرسول أشياء كثيرة: مارية وأختها سيرين، وغلاماً خصياً أسود اسمه مأبور، وبغلة شهباء، وأهدي إليه حماراً أشهب يقال له يعفور، وفرساً وهو اللزاز، وأهدى إليه عسلاً من عسل نبها (وهي قرية من قرى مصر). وقبِل الرسول الهدايا، وسرعان ما أثاره الجمال الخارق لمارية، فاختاره له ووهب أختها الى شاعره حسان بن ثابت. ثمّ وضعها في بيت حارثة الذي غادرته صفيّة، متّخذا إياها جارية له في انتظار أنْ تعتنق الإسلام. وطار النبأ الى بيوتات الرسول أنه قد اختار مارية المصرية لنفسه، وكانت شابة حلوة جذابة، وقد مكثت في هذا البيت عاما واحدا، طلبت بعدها من الرسول أنْ ينقلها إلى مكان آخر، فما كان منه إلاّ أن استجاب لها ونقلها إلى مكان صغير به نخيل كان من ممتلكاته الخاصة التي كانت حصته من غنائم غزوة بني نضير وتعرف اليوم بمشربة أمّ إبراهيم. بين عشيّة وضُحاها، إذنْ، لم تعد صفيّة اليهودية هي المرغوب فيها، بقدْر ما باتتْ المسيحية مارية هي المطلوبة، والتي كثّف من زياراته لها في الليل كما في النهار. الأمر الذي زاد من حدّة التوتّر داخل الحريم النبوي، وبالخصوص من طرف عائشة. وبينما كانتْ حفصة ذات يوم تقوم بزيارة لإحدى صديقاتها، عادتْ إلى البيت على حين غرّة، خلافا للوقت المعروف، فإذا بها تدخل وتجد مارية القبطية معه على سريرها. فقالت مستغربة ومتوتّرة: - يا رسول الله، أفي بيتي وعلى فراشي؟ يا نبي الله لقد جئت إليّ شيئاً ما جئت إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري. غير أن الرسول أجابها قائلا: - كنّا نتجوّل بالقرب من هنا، فدخلنا إلى البيت للاستراحة والاستمتاع، فأيْن يوجد المشكل؟ ألستُ في بيتي؟ غبر أن الغضب زادتْ حدّته عند حفصة، فحلف لها بالله ألا يصيبها في بيتها وفي يومها وعلى فراشهت. فقال النبي هي على حرام فأمسكي عني.2. ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها. فقالت: - بلى?. فحرمها محمد، وقال لها »لا تذكري ذلك لأحد«، غير أن حفصة ذكرتْ هذه الحادثة لعائشة صديقتها، فأظهره الله عليه، لكن السماء أجابتْ بالقوْل: «يَأَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذَ أَسَرّ النّبِيّ إِلَىَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمّا نَبّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هََذَا قَالَ نَبّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِن تَتُوبَآ إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَىَ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مّنكُنّ مُسْلِمَاتٍ مّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً» (سورة التحريم). غدا: الرسول لعائشة: أنت الوحيدة التي تزوّجْتك بكرا 1 - يورد الطبري في «تاريخه» أن الرسول استثمر الرسول هدنة صلح الحديبية، فأخذ يبعث رسائل إلى ملوك الأرض وأمرائها يدعوهم للإسلام، فكلفّ بذلك كُتّاباَ من الصحابة يملي عليهم ما يكتبون، واتخذ خاتماً نقش عليه عبارة (( محمد رسول الله )) ليختم به في أسفل الرسائل. أرسل عليه الصلاة والسلام رسائل إلى قيصر الروم ، وإلى حاكم دمشق الحارث بن أبي شمر الغساني، وإلى المقوقس حاكم مصر، وإلى ملك بصرى وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس ، وإلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وإلى جيفر وعبد ابني الجُلندى ملكي عمان، وإلى هَوذة بن علي ملك اليمامة. واختلفت ردود الأفعال التي واجه بها هؤلاء الملوك والأمراء سفراء النبي صلى الله عليه وسلم الذين حملوا الرسائل؛ فدخل الإسلام وآمن بالرسول كل من النجاشي، وملكي عُمان، والمنذر بن ساوى، ومع هذا الأخير آمن جميع العرب الذين كانوا تحت إمرته. وتلطف بعض هؤلاء، فردّ قيصر الروم بأدب، واستقبل المقوقس رسول النبي صلى الله عليه وسلم بحفاوة، وقرأ كتابه باهتمام، وحمّله إلى النبي رسالة وهدايا، وأرسل معه بغلة وثياباً وجاريتين إحداهما مارية القبطية التي تسرى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فولدت له ابنه إبراهيم الذي مات صغيراً. 2 - جاء في تفسير القرآن للطبري أنه «حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) قال : إنه وجدت امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جاريته في بيتها ، فقالت : يا رسول الله أنى كان هذا الأمر ، وكنت أهونهن عليك؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسكتي ، لا تذكري هذا لأحد ، هي علي حرام إن قربتها بعد هذا أبدا» فقالت : يا رسول الله ، وكيف تحرم عليك ما أحل الله لك حين تقول : هي علي حرام أبدا؟ فقال : والله لا آتيها أبدا ، فقال الله : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) . . . الآية ، قد غفرت هذا لك ، وقولك : والله ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم )». [ ص: 477 ]