«ليستْ جونفييفْ شوفيل غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية وتاريخها. ففضلا عن قضائها جزءا من طفولتها في كل من الجزائر وسوريا، فقد سبق لها أن نالت الجائزة العالمية «الأمير فخر الدين» عن كتابها «صلاح الدين موحّد الإسلام». وفي كتابها «عائشة، محبوبة النبيّ»، اختارتْ أسلوبا آخر للحديث عن علاقة عائشة بالرسول، هو أسلوب التخييل التاريخي الذي يمزج بين الحدث التاريخي والمتخيّل. غير أنّ نسبة الواقع هنا تتجاوز التخييل. لقد حياة عائشة مع الرسول حياة ملحمية، بل إنها تنطوي على الكثير من الرومانيسك بالمعنى الإنساني العام. وقد خلّفت عائشة الكثير من المرويات والمحكيات والأحاديث عن حبّ الرسول لها وتعلّقه بها، بل حتى عن بعض حميمياتهما. في هذا الكتاب، تتبع شوفيل المسار التاريخي، السير ذاتي، لشخصية عائشة كما يرويها كبار الأخباريين: ابن إسحاق، الطبري، البخاري، الواقدي وغيرهم، كما تعمد إلى إعادة وضع عدد من الآيات القرأنية في سياق هذا المسار. إنه كتاب يتعيّن قراءته بمتعة العيْن الروائية وليْس بعين المرجعية التاريخية المبثوثة في كتب المؤرخين ونصوص السيرة.» عندما ضبطت حفصة محمّدا زوجها مع مارية القبطية في بيتها، لم تستطع إمساك لسانها، وبالتالي أسرعتْ دون تفكير إلى إخبار صديقتها وزوجة النبيّ المفضّلة عائشة من أجل إفراغ ما في قلبها والتنفيس عليْها. لذلك صاحتْ حفصة قائلة: - هل تعلمين ياعائشة أنّه كان يومي، كنتُ أنتظر ذلك بفارغ الصّبْر، غير أنه فضّل ملاعبة الغريبة القبطيّة، في الوقت الذي كان يتعيّن عليه أنْ يكون معي على سريري؟ أليْس هذا ظلما؟. كان هذا الكلام بمثابة تفجير جديد للغضب، وخصوصا من طرف الزوجة الصغيرة المفضّلة عائشة التي شعرتْ بالإهانة والمذلّة مما يفعله زوجها. لقد كشفت حفصة، الصديقة المتواطئة، السّرَّ. فقدت حفصة السيطرة على انفعالها، وانتابها غضب شديد إلى درجة إصدارها عبارات اللوم والاستنكار في وجْه الرسول الذي ظل ينصت مذهولا ولا يلوي على شيء، دون أن يحرّك ساكنا. بقي ينتظر بصبْر وأناة انتهاءَ العاصفة. ثمّ إنه لا يحبّذ تعنيف النساء، خلافا لصحابته الذين لمْ يكونوا يترددون في تعنيف زوجاتهمْ من أجل إعادة الأمور إلى نصابها داخل بيوتهم. وبكل رقّة وهدوء أجاب محمّد عائشة قائلا: - اهدئي يا غزالتي، فأنا الآن أخبرك أنت أيضا بأنني لنْ أعود لرؤية مارية ثانية، بما أن ذلك أثار غضبك وحزنك. ولا تكوني ظالمة لها، فهي ليستْ سوى مجرّد جارية وأمَة. أما أنا وأنت وسائر العرب، فإننا وُلدنا من سلالة إبراهيم وهاجر زوجته. ثمّ إنني أطبّق القرآن وما جاءت به التعاليم الإسلامية عبْر إقامة العدل والمساواة والقسمة بين زوجاتي. وأنت بالذات يا عائشة تحصلين على النصيب الأوْفر، وتذكرين ما أحصل عليه من راحة ومتعة بين أحضانك. مرّة أخرى تستسلمُ عائشة وتترك نفسها منقاذة بالعناق والقُبل. في هذه اللحظة نسيت كل شيء ولمْ تبق تذكر سوى العلاقة العاطفية القويّة التي تربطها به منذ اليوم الأوّل. وفجأة، وبينما هما معا، بدأ جسم محمد يرتعد بين يديْ عائشة، وعرفت بأنها علامات نزول الوحي عليه، فدثّرته بغطاء، وما هي إلا لحظات حتى عاد إليْها وقرأ عليها رسالة جبريل: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» (سورة التحريم، الآيات 1/3). ثمّ تناول يد عائشة بكلّ حنوّ وحدب، وواصل وهو ينظر في عيْنيْها: « إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ، عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (التحريم4/5). سرعان ما فهمتْ عائشة مضمون التهديد الذي يتوجّه إليها هي وحفصة، لكنها تظاهرت بعدم الاكتراث به، وفهمت أنه سوف يرى الجارية مارية القبْطية مرّة أخرى. ذلك أن عائشة تملك منذ نعومة أظافرها أسرار الحيل النسائية. استندتْ على كتف زوجها، وقالت بصوْت هامس ورقيق: - يا رسول الله، مَن تحبّ أكثر؟ أجابها وهو يخضنها: - أنت تعرفين ذلك. غير أن هذا الجواب لم يكفها. إنها ترغب في التأكّد أكثر من هذا الجواب العامّ. فضْلا عن أنّ المداعبة التي رافق بها شعْرها الأحمر ليست حاسمة. لذلك أضافتْ قائلة: - يا رسول الله، إذا نَزَلْتَ بِعَدْوَتَيْنِ1 ، إِحْدَاهُمَا: عَافِيَةٌ2 لَمْ تُرْعَ ، وَالأُخْرَى قَدْ رُعِيَتْ، فِي أَيِّهِمَا كُنْتَ تَرْعَى ؟ - أجابها قائلا: - فِي الَّتِي لَمْ تُرْعَ. وَتَبَسَّمَ. - هذا كلام صحيح، أيْ أنني لستُ كباقي نسائك، كلّ واحدة منهنّ كان لها زوج سابق إلاّ أنا. - لهذا السبب سأعود إليْك أنت بالذات دائما يا عائشة. فأنت جزء مني، أدخلتُ في قالب لحمي، وصاحبتُ روحك وعقلك. أنا وأنت شيء واحد. وأضاف قائلا: - غزالتي، أعرف متى تغضبين ومتى تفرحين. - بأبي أنت وأمي كيف تعرف ذلك؟ - إِذَا غَضِبْتِ قُلْتِ : لا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ، وَإِذَا رَضِيتِ قُلْتِ : لا ، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ. فَقَالَتْ: - إِنَّمَا أَهْجُرُ اسْمَكَ . غدا: صراع زوجات الرسول حول الهدايا هوامش: 1 - العدوة، جانب الوادي. (المترجم). 2 - العافية: الأرض التي غطّاها النبات، لسان العرب، مادة «عفو». (المترجم).