ضمن حوار فلسفي سياسي وقانوني من المستوى الرفيع بين هابرماس وجون راولز، حرص هذا الأخير على تضمينه الفصل الأخير من كتابه «المعلمة »الليبرالية السياسية««، يميز راولز بين صنفين من دعاة المشروعية الديمقراطية. صنف الأغلبيين majoritarians وصنف الدستوريين constitutionnalists ومع توالي فقرات التحليل في هذا الفصل من كتاب راولز، الذي يبحر فيه بعيداً في أصول وأساسيات الفكر الديمقراطي في مستنبتاته الكبرى، منذ لوك وروسو، يتبين للقارىء بوضوح أن الفرق بين المشروعيتين هو فرق في الجوهر والطبيعة، أي في نوعية ضمانات السلوك الديمقراطي وليس مجرد فرق في الدرجة أو في زاوية النظر الى محاسن أو فضائل الديمقراطية. راولز، في سياق نفس الحوار، يرد على منتقديه، وعلى رأسهم هابرماس نفسه، والذين أخذوا عليه كون البناء النظري الذي يستند إليه في تفسير البنية العميقة للديمقراطية يظهره ميالا الى التركيز على جانب القواعد والمساطر المؤسسة أكثر من إبراز جانب النواة الفكرية والقيمية الجوهرية فيها. والرد الذي يقدمه راولز على هذا الاعتراض النقدي أن القواعد والمساطر الجيدة تضمن بكل تأكيد النتائج الجيدة على صعيد الحكم، وأنه لا يمكن فصل نتائج الحكم الجيد outcome عن المساطر والقواعد الجيدة، والمثال أو النموذج التقريبي يعطيه بالمحاكمة العادلة، حيث التوازي قائماً بالكامل بين سلامة القواعد والنوعية الجيدة لمنطوق الحكم. وحيث تضمن القواعد والمساطر الجيدة، حصر مجال الخطأ في نسبة معقولة لا تؤثر على السير العام للعدالة. إن المسطري Procedural يدعم الجوهري Substantive بتعبير راولز في عملية أخذ وعطاء جدلية، ذلك هو المضمون العميق لفكرة راولز حول الديمقراطية، وذلك هو السبب الذي يجعله أميل إلى صف الدستوريين منه إلى صف الأغلبيين. استحضرت هذا النقاش وتفاصيله بمناسبة الوقوف على بعض ردات الفعل من داخل الأغلبية الحكومية الحالية، وبعض أصوات حزب العدالة والتنمية ممن تتذرع بالكسب الأغلبي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، كمسوغ واحد ووحيد للدفاع عما يعتبرونه المشروعية الديمقراطية، والاستناد إلى ذلك عند مقارعة منتقديهم في الساحة السياسية العامة. وبدا لي أنهم يرددون بوعي أو بدون وعي، مدى أطروحات الأغلبيين بالشكل الذي فسره راولز وحذر من تبعاته على البنية العميقة للفكر الديمقراطي وللممارسة الديمقراطية. وحينما نشيح البصر من حولنا في الرقعة الواسعة للعالم العربي، نرى أن الأغلبيين يسعون اليوم إلى تسييد فهم عام للديمقراطية يبعدها تدريجيا وشيئاً فشيئاً عن منطوقاتها الدستورية، أي تلك المنطوقات التي تجعلها تقعيداً وتأسيساً لقواعد وآليات ومساطر وضمانات لممارسة الحقوق والحريات وحماية رأي المعارضة والأقليات، وحماية التعدد والحق في الاختلاف، وتثمين الدور الرائد لمؤسسات المجتمع المدني، وقبول كل تعبيرات وأشكال الديمقراطية التشاركية. الحركات السياسية ذات التوجه الإسلاموي، أكانت في المسؤولية الحكومية، كما هو الشأن في المغرب ومصر وتونس، أم كانت في مواقع المعارضة، تمتلىء بصنف الأغلبيين الذي يحددون أفق المشروعية الديمقراطية تحديداً أحادي الجانب يبعدها عن هويتها الدائمة، باعتبارها مجموعة قواعد ومساطر وآليات عمل ومنظومات حقوق، وضمانات لممارستها لا تغيرها أغلبيات لمجرد كونها أغلبيات. وبشكل ما، فإن الأغلبيين والدستوريين يعكسون مستويات متباينة في فهم الديمقراطية، مستوى الفهم العميق، البنيوي، الفلسفي حتى، للديمقراطية ومستوى الفهم الأداتي، السياسوي الضيق، فهم يختلط فيه رفع شعار الديمقراطية بنشوة الفوز الانتخابي الظرفي. قد يكون تنصيص الدستور على تخصيص رئاسة لجنة التشريع للمعارضة تعبيراً عن وعي ناضج للمشرع الدستوري بأهمية لجم جموح الأغلبيين، أيا كانوا، كضمانة أو كمساهمة في تقعيد المساطر والقواعد التي تحدث عنها راولز في حواره مع هابرماس واعتبرها، عماد الممارسة الديمقراطية في سجاله مع الأغلبيين. وقد يكون ما تناقلته الأخبار من إقدام السيد الرميد وزير العدل على تشكيل لجنة تكلف بتحديد مفهوم المعتقل السياسي، نوعاً من الفهم البعدي لأهمية الابتعاد عن الفهم الأغلبي الحكومي الحالي لهذا المفهوم، ونوعاً من الاقتراب للدستوريين في هذا الباب. وإذا صح هذا التخمين فلربما يكون الأغلبيون عندنا قد خطوا الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل باتجاه الدستوريين. وسيكون ذلك بكل تأكيد شيئاً إيجابياً.