إعادة الأسلمة من فوق مع ذلك، عاشت تونس صدمة ثقافية مع اتساع حيز القيم الاسلامية. فأول زيارة قام بها ابن علي خارج تونس، كانت لأداء مناسك العمرة ومُضيّاً في مبالغته، ظهر على شاشة التلفزة، يقبل حائط الكعبة بكتف عار ودموع تنسكب على خديه، كما كان يحرص، قبل أن يهم بفعل أي شيء، على ترديد العبارة الدينية: «»باسم الله الرحمن الرحيم«.» يقول ابن علي أمام الملأ: »»من واجب الدولة أن تسهر على تألق الاسلام وازدهاره««. كلام تصاحبه اجراءات من طبيعتها البهرجة?: دعوات المؤذن للصلاة تتماشى مع برامج التلفزة كما تم اعادة تفعيل نشاط المجلس الاسلامي الاعلى. آراء تعبر بحرية، من خلال الصحافة، عن رفضها «للعقلانية على الطريقة الغربية» او اقتراح الجمعة كيوم عطلة. هل يتعلق الامر بامتياز خالص؟ ام بتيار زاحف قصد اسلمة المجتمع التونسي؟ يعرف النظام كيف يحافظ على هذا الوضع الغامض وكيف يوظف ببراعة التناقضات التي تخترق الشعب المنقسم على نفسه. يظهر جليا في عز تقهقر الاسلاميين، أننا ازاء توظيف برغماتي وذكي للاسلام. بعض مستشاري قصر قرطاج المنحدرون من الاجهزة الامنية لم ينسوا موجات القمع الكبيرة في عهد بورقيبة لسنتي 1981 و 1987 ويصرحون، انذاك، للصحفيين: «لم نكن نعترف باصحاب اللحي سوى لكي نحاربهم»« علاوة على ذلك. لم يتوقف التعذيب ضد النواة الصلبة للاسلاميين التي تغلغلت داخل مؤسسات عمومية من ضمنها الاكاديمية العسكرية وادارة الجمارك. ففي زخم الانتشاء ب»التغيير» تمت ابادة الجناح العسكري لحركة التوجه الاسلامي من طرف ابن علي ووزيره في الداخلية حبيب عمار. لقد مات المنصوري تحت التعذيب و هو قائد وحدة عسكرية بسبب تعاطفه مع الحركة الاسلامية. تم التستر عن هذه الوفاة باستثناء يومية ليبراسيون الفرنسية. وعلى اثر ذلك،اصبح سفير تونس بباريز موضحا ان سبب الوفاة راجع الى ازمة قلبية. فلم يكن يستسيغ، انذاك، ان يكون ابن علي موضع شك في علاقته بحقوق الإنسان. بعد السابع من نونبر 1987 بايام قليلة، اعلن عن انشاء مجلس وطني للامن دون ان يثير حفيظة احد، كما تم العمل، منذ مارس 1988، بقانون يضيق الخناق على اي نشاط داخل المساجد. عندما طلب الغنوشي تأشيرة دخول الى المغرب من أجل محاضرة، لم يرخص له الا بتأشيرة ذهاب. وقد بعث زعيم حزب النهضة رسالة استعطافية الى رئيس الدولة يقول فيها: «»انتم الذين تهتمون بالشأن الثقافي، مكنوني من هذه التأشيرة«« ان يكون الجهاز الحاكم منقسما حول تدبير الملف الاسلامي، فهذا امر لا يدعو للاستغراب مادام الامر كان دائما كذلك. ما يدعو للقلق هو تصاعد المقاومات ضد التوجهات الليبرالية. فالاصلاحات العميقة تأخرت وذهبت الوعود ادراج الرياح ويكمن السبب الاساسي في ذلك الى عكس الجزائر التي جاء انفتاحها نتيجة احداث اكتوبر 1988 والتي خلفت خمسمائة قتيل. اما الانفتاح الذي عرفته تونس فقد جاء نتيجة ثورة القصر. بخلاف نقابة الاتحاد العام للشغيلة التونسية ورابطة حقوق الانسان، لم يتحرك المجتمع المدني ضد انزلاقات بورقيبة، الاصلاحات المعلن عنها، بعد السابع من نونبر، تم الترخيص لها من طرف النظام ولم تؤخذ من طرف الشعب او ممثليه غلابا.. على هذا يعلق نائب رئيس رابطة حقوق الانسان سابقا، يعيش في منفاه بباريز وواحد من المسؤولين الرئيسيين لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين قائلا: «كل هذا كان ورطة جميلة، لقد تنفست معارضة بورقيبة الصعداء بفعل انقلاب السابع من نونبر، لكنها لم تفاضل. كان يجب النزول الى الشارة والمناداة ب: نعم للتغيير، لا للحزب الوحيد«.» كان الشارع بالعاصمة تونس يعلق بسخرية حين يعتبر ان قصر قرطاج اصبح الخلية الاكثر نشاطا داخل رابطة حقوق الانسان، لكن وحده ابن علي من يفرض ايقاع ومنعرجات التغييرات المنتظرة. والواقع ان رئيس الدولة البرجماتي هذا، كان مترددا الى أبعد الحدود فيما يخص درجة الانفتاح المتوقع. في هذا الصدد يقول الجامعي الامريكي ويليام زرغان بلباقة:» »الى حدود انتخابات 1989، عرف محيط ابن علي عراكا قويا حول تحديد طبيعة خطوات الرئيس المقبلة«.» خلال شهر يوليوز 1988، كان مؤتمر حزب التجمع الدستوري الديمقراطي مسرحا لصراعات عنيفة بين »»المتصلبين»« و»»الليبراليين»« حينها، حل ريمي ليفو للمرة الثانية ضيفا على تونس رفقة زميله الامريكي ويليام زرتمان وما كان يثير الانتباه هو أن الجو العام قد تغير. انتظر الجامعيان ساعات طويلة دون أن يتم استقبالهما. عادا فورا الى باريز بعد أن رفضا بدورهما مقابلة ابن علي، وقد صرح ريمي ليفو قائلا »»عند الحسن II كان الشاي على الأقل ممتازا والاستقبال لائقا مما ساعد على الانتظار. أما الأجواء داخل قصر قرطاج، فقد كانت أقل حفاوة». «عرس الديمقراطية» بعد عودته، نشر الجامعي (ريمي ليفو) مقالا تشاؤميا عن «»ثورة الياسمين»«. يقول :» »ارتد ابن علي الى موقع متصلب، مدعوما مباشرة، بجهاز بوليسي وبالأطر الشابة لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي والذين ساعدوا على الاستيلاء على الحزب»«. يضيف «أول مؤشر على ردود فعل الجهاز السياسي، ظهر خلال الانتخابات الجزئية لشهر يناير من سنة 1988، حيث لم تختلف ممارسات الحزب، الموسومة بالغش، عن العهد السابق«. كما مدد هذا الجامعي استراتيجية جهاز الحكم التونسي خلال سنوات التسعينيات. »لقد «حاول النظام أن يوظف تخوف الاسلاميين من بعض الآراء الليبرالية من أجل إضفاء الشرعية على إحكام قبضته على دواليب الحكم وتحفظه في قبول قواعد لعبة سياسية أكثر انفتاحا«« لقد اقتنع المركز الفرنسي لاستطلاع الرأي IFOP بالتعامل مع النظام دون أن ننسى أنه تعاون مع المغاربة بشكل مستمر. ثلاثة شهور بعد مغادرة ريمي لوفو تونس، نشر المثقف هشام جُعَيط بيومية Realites مقالا مُدويا تحت عنوان» »نقط الظل»« جاء فيه: «إن التغيير الذي شهدته تونس كان تدبيرا حكوميا ومنذ عامين لم يظهر أي مشروع سياسي حقيقي كما اعتُبرت أية معارضة عملا لاشرعيا. لقد تولد الانطباع بأن القانون، هنا قمعي ومتصلب ويفتقد لليونة ووحدها إرادة الرئيس تستطيع الاحتيال عليه وتجاوزه. هذا الواقع غير سوي لأنه يفتح المجال لحجاج دايالكتيكي لا يمثل فأل خير على الوضوح الديمقراطي. ليس على المواطن أن يحس أن سيف ديمقريطس مُسلّط على رقبته وجاهز للضرب أو التهديد عند اللزوم. إن الديمقراطية آداب والسياسة لا تعني التصرف ببراعة»«.