منذ اعتلائه السلطة سنة 1987 ، حول ابن علي تونس الهادئة إلى ثكنة كبيرة، فقد بررت الحرب ضد الاسلاميين كل أشكال العنف الممنهج الذي مورس على المجتمع المدني برمته، حتى المعارضون الأقل اصطداما بالنظام كان مصيرهم الاعتقال والتعذيب والسجون بعد محاكمات صورية تفتقر لأدنى شروط النزاهة. لماذا تدير فرنسا ظهرها لفظاعات الجنرال بنعلي ؟ لماذا تتم محاباة هذا النظام من طرف الصحافة الدولية ومراكز المال والأعمال؟ يحاول كتاب «صديقنا بنعلي» أن يكسر الصمت ويظهر الوجه الآخر « للمعجزة التونسية « حسب جاك شيراك. في هذا الكتاب أيضا نتتبع مسار بنعلي منذ أن انتخب سنة 1989 و 1994 بنسبة تصويت بلغت 99%، سيظهر هذا المسار غارقا في دماء ضحايا كثيرين ذنبهم الوحيد أنهم عاشوا فترة حكم واحد من أكبر المجرمين الذي يقتلون بدم بارد ويقضي، بعد ذلك ساعات، أمام المرآة كي يظهر بمظهر رجل لا يشيخ، وذلك باعتماده على الماكياج وصباغة الشعر . بكل تيقظ، كان الرئيس الجديد يشاور، ينصت ويخربش على ورق صقيل»»انظروا، لقد دونت ملاحظات»« كما يشير ابن علي إلى ذلك بدون انقطاع وهو الخبير في الاستعلامات. اتصل منصف الرويسي بجامعيين بارزين في الخارج من بينهم ريمي ليفو، أستاذ فرنسي اشتغل داخل الأوساط المقربة من الحسن II بين 1958 و1960 وقال له» »لقد قابلت الرئيس، إنه على العهد. لقد ساهمت في وضع نظام للأحزاب بالمغرب وعليك مساعدتنا على فعل الشيء نفسه بتونس»«. بالفعل، لقد ساعد ليفو النظام المغربي على إعطاء جرعة من التعددية وتنظيم انتخابات بعد الاستقلال. وعلى إثر ذلك، بدأ مستشارو الملك بقراءة طوكفيل في نصه الأصلي والثناء على التصويت الرجعي كما عايشته فرنسا سنة 1848. بهذا علق هذا الجامعي. أما النظام التونسي، فلم يكن يطلب أكثر من ذلك في تلك الفترة، كان السؤال الذي طرحه مستشارو ابن علي بسيطا وأزليا: كيف يستطيع النظام إشراك مجموعة من الاسلاميين داخل اللعبة السياسية دون الخوف من تطور المسألة إلى إعادة إنتاج التجربة الايرانية؟ كيف السبيل كي يتبوأ التيار الأصولي مكانته دون المساس بالحريات؟ حينذاك، كان للنظام أحقية طرح الأسئلة المفيدة. قابل ريمي ليفو رئيس الدولة بقصر قرطاج وقال له ناصحا:» »اعتمدوا انتخابات تطبعها التعددية، فأنتم تتمتعون بشعبية وسيتم انتخابكم بدون مشاكل»«. بعد الشرعية التاريخية لبورقيبة، سيكون للجنيرال فرصة نحت شخصية ديمقراطي. كان على ليفو أن يدبج ملاحظات موجهة لديوان ابن علي تتعلق بصيغة الاقتراع المطلوب: لوائح الأغلبية بالمدن الكبرى وانتخاب فردي بالبلدات الصغيرة، وبهذا يكون وضع حزب الرئيس مريحا على رأس أغلبية الدوائر دون حرمان المعارضة من التواجد في البرلمان. على إثر ذلك، تمت الاتصالات بباريز مع المعهد IFOP الفرنسي من أجل تنظيم استطلاعات للرأي وجس نبض المواطنين بشكل بوليسي. الله أكبر والدين رسوله إلى حدود الانتخابات المرتقبة شهر أبريل 1989 كانت دولة الحق والقانون تبحث عن موطئ قدم. خمسة عشر يوما بعد مجيء ابن علي، أرسل راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الاسلامي، رسالة مطولة إلى سيد تونس الجديد:» »إذ ا جئتم لتكملوا سياسة القمع التي اتبعها بورقيبة، فلا بديل إلا الحرب، أما إذا جئتم لإنقاذ البلد وإرساء المصالحة الشاملة، فستجدونني جنديا إلى جانبكم.».« امتدت حبال التواصل بين «»الجندي»« وقصر قرطاج عن طريق مدير السجن. أطلق سراح الغنوشي يوم 14 ماي 1988، ليلة عيد الفطر. وبهذه المناسبة صرح هذا الأخير: «»لدي الثقة في الله وفي ابن علي».«. مئات الزوار يحجون إلى حديقة بيته ببناروس في الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس. خلال شهر شتنبر من نفس السنة، عاد حمادي جبالي، أحد الزعماء المرموقين لحزب النهضة الاسلامي، من المنفى.. بعد أن صدر في حقه حكم بالإعدام كما أطلق سراح 2400 معتقل سياسي، كان الجنيرال الطيب هو من وضعهم وراء القضبان بأوامر بورقيبة. بدت تونس كمختبر لعملية إدماج ممكنة للأصوليين الذين يشجبون العنف. الكثيرون من محيط ابن علي آمنوا فعلا بهذا الخطاب الوحدوي »»خطأ جسيم أن نشبههم بالمتعصبين الايرانيين»«. هكذا علق حمودة بنسالم وزير الشبيبة والرياضة والذي انتزع اعترافا بالنقابة الاسلامية، لكن آخرين يعبرون بسخرية قائلين: »»وحده الشرطي الذي وضع المتشددين في الزنازن، يستطيع تحرير النظام«. بدأ الاسلاميون يتعاطفون قلباً وقالَباً مع الوضع. ها هو رشيد الغنوشي يعترف بتحفظ بمدونة الأحوال الشخصية المفرطة في طابعها الليبرالي بحيث يمنح التونسيين نفس الحقوق التي يتمتع بها الغريبون، كما لا يمكن اعتبار ذلك مشكلا يصعب حله، لأنه في استطاعة «الاسلاميين التعايش مع هذا الوضع»«. وبهذا استبدل الغنوشي لقب الأمير بآخر أكثر لائكية وهو الرَّيْسْ وبالتالي أطلق على حزبه اسم »النهضة« في استبعاد تام لكل مرجعية دينية. في السادس من نونبر سنة 1988، استُقبل الرَّيْس من طرف رئيس الدولة. كانت رسالة الرئيس الجديد واضحة. «»لقد تم اتخاذ قرار الترخيص لحزبكم». فالمسألة تتعلق بالوقت فقط من أجل تهييء الرأي العام««. في ذلك اليوم، صاحبت الغنوشي سيارتا شرطة: واحدة رسمية والأخرى عادية. على إثر ذلك، طلب الغنوشي من ابن علي قائلا: «»إن مصالحكم الأمنية تخنقني، أنا في حاجة لتنفس الهواء»«. بعد عودته من قصر قرطاج، وحدها السيارة العادية التي سُمح لها بتقفي أثره، الشيء الذي طمأن الزعيم الاسلامي. بتأكُّده من النوايا الحسنة لابن علي، الذي أنقذ حياته رسميا، استدعى الغنوشي على عجل، حبيب مُقْني المخلص وممثل الحركة الاسلامية بباريز، إذ بقي هذا الأخير مُشككاً في نوايا تغيير السابع من نونبر. »»إن ابن علي صادق يا حبيب، يجب أن نخوض التجربة»«. يقول الغنوشي مخاطباً حبيب مُقني. »»لن يتغير شيء حتى ولو أراد ابن علي ذلك. إنه نتاج نظام««. يجيب ملازمُهُ. انتفض الغنوشي قائلا: »»قطعاً لا. لقد وعدني بتسوية وضعية الحضور الاسلامي في الساحة التونسية«.» »»إن شاء الله«.» بهذا رد حبيب مُقني. في العاصمة تونس، كان الاتفاق الذي تم بين الرئيس والغنوشي قد أُخِذَ على محمل الجد. »»ميثاق وطني»« اتُّخِذَ كأرضية تراض لجميع الفاعلين السياسيين. في السابع من نونبر 1988، أي اليوم الموالي للقاء الغنوشي بابن علي، وقَّعت جميع الأحزاب على الميثاق بقصر قرطاج وكانت حركة النهضة ممثلة من طرف نور الدين بحيري، المثقف المعتدل، في حين كان محمد شرفي هو من حرر ميثاق التراضي باعتباره واحداً من مسؤولي رابطة حقوق الإنسان. من بين ما نصَّ عليه الميثاق هو منع أي نشاط سياسي في المساجد، الشيء الذي فرض على الاسلاميين تقديم تنازلات كبرى، في حين كسَّر شوكة اللائكيين العنيدين بتأكيده على دور الاسلام »»كمصدر إلهام وفخر»«. كان نص الميثاق الذي يتضمن بين ثناياه نوايا حسنة، يمثل مدونة سلوك حسن إلى حد ما في انتظار تطبيقه. في تلك الفترة، قليلة هي العقول المُكتئبة التي جاهرت بتشككها فيما يجري. هشام جعيط، أستاذ التاريخ في جامعة تونس في العاصمة وواحد من ألمع المفكرين التونسيين ينتقد تعايش النظام وحزب النهضة بقوله: »»تحول الاسلاميون إلى سياسيين مسلوبي الإرادة أمام عقدة الحداثة، وبالتالي مُستعدين للتنازل من أجل الوصول الى الحكم««.