المدن، مراكز الثقافة البونيقية بودنا لو نستطيع أن نضع القائمة الصحيحة للتفاعلات الفينيقية والليبيية في هذا العالم البونيقي أو الليبي الفينيقي. وسيكون في مقدور أحد المتخصصين في قرطاج في يوم من الأيام أن يقوم بحصر ما يميّز الثقافة البونيقية بالمقارنة إلى فينيقيّي المشرق وإلى الهلينيين. والأسهل هو أن نتفحص الجانب الآخر من هذه المزدوجة؛ نريد تغلغل التأثيرات المشرقية في الوسط الليبي، وهو شيء كان قد سعى إليه ر. باسي منذ نصف قرن من الزمن. ينبغي أن نتنبه في المقام الأول إلى وجود مدن بونيقية خارج إقليمقرطاج. وسوف لا نعود إلى الوضع الغامض للمدن الساحلية، فهي تكاد تكون كلها تحمل أسماء فينيقية، وبينها التي تحمل أسماء فينيقية ليبية، مثل روسوكورو، وأخرى تحمل أسماء بربرية خالصة، مثل سيجا. ويتبادر إلينا سؤال؛ هل تكون هذه المدن كلها منشآت بونيقية أو إيبيرية بونيقية، ثم ألا ينبغي لنا أن نأخذ بعين الاعتبار أنها كانت منشآت تلقائية، أي إفريقية. وأن تكون بعض البلدات الساحلية منذ بدايات إنشائها تتلقى منتجات متوسطية قرطاجية وأيونية وآثينية فذلك أمر طبيعي وشائع، ولا يمكن أن يقوم حجة علمية صحيحة على أصل هذه المدن، ولكن أن تكون مدافن سكان هذه المدن تحتوي كذلك أثاثاً محلياً أصيلاً مطابقاً للأثاث الذي تم العثور عليه في القبور القروية، وأن هذه المدافن تفصح عن طقوس مقابرية قليلة شيوع عند الفينيقيين، فهذه مؤشرات لا يستهان بها عن نوعية سكان هذه المدن. فعلى الرغم من أن سيرتا، العاصمة الفينيقية الماسيلية، تحمل اسماً قد يكون ذا أصل فينيقي وأن ثقافتها كانت بونيقية من كل الوجوه، فإنها لم تكن في يوم من الأيام تخضع للسيطرة القرطاجية، وأحرى أن تكون من إنشاء الفينيقيين. واستوقفتنا حالة عاصمة نوميدية أخرى؛ تلك هي مدينة سيجا التي يأتي ذكرها بكونها مِلْكاً للقرطاجيين. والمدينة الثالثة التي تشد انتباهنا هي مدينة وليلي التي تحتل موقعاً يغلب عليه الطابع القاري في سفح جبل زرهون في المغرب. فوجود هذه المدينة من المملكة المورية يعود إلى ما قبل يوبا الثاني بقرون عديدة. وتؤكد المسلات البونيقية المكتشفة في هذا الموضع، كما تشهد مدن إفريقية أخرى كثيرة (مثل سيرتا وتبرسق ومكثر ودقة...) على اجتماع الأسماء الفينيقية والأسماء البربرية بانتظام ضمن الأسرة الواحدة. وبالإضافة إلى هذه المدن النوميدية والمورية التي كانت تقوم بوظائف العواصم، يجدر بنا أن نذكر مدناً أخرى كانت، على الرغم من أسمائها الفينيقية، تقع في المناطق الداخلية، من قبيل ماكوماد وتيبازة في نوميديا وقالمة وزوكابار في ما سيُعرف لاحقاً بموريتانيا القيصرية. والحقيقة أن مدن المملكتين النوميدية والمورية، سواء منها الساحلية أو القارية، وسواء منها المسماة بأسماء فينيقية أو المسماة بأسماء بربرية، قد كانت مراكز أصيلة للثقافة البونيقية. تعايش ناجح ودائم كانت هذه المدن مراكز للثقافة البونيقية لا بإنتاجاتها من الخزفيات المدعاة بونيقية، وهي التي نجدها في سيرتا كما نجدها في سائر المستودعات على الساحل، ونجدها حتى في مدينة وليلي القصية، بل إن هذه المدن كانت مراكز للثقافة خاصة بمعابدها ولغتها المكتوبة، وربما بلغتها الشفاهية أيضاً. وقد كانت اللغة الرسمية للمملكتين النوميدية والمورية حتى (يقول بعض المؤلفين خاصة) بعد تدمير قرطاج، هي البونيقية. فباللغة البونيقية كانت تُكتب الإهداءات الدينية، والنصوص الإدارية النادرة التي أمكن لها البقاء، وكلمات التأبين الملكية، والكتابات على النقود، وما كان هذا الأمر بمقتصر على النوميديين في الشرق بل كان عاماً في سائر أنحاء شمال إفريقيا. وكانت دقة هي المدينة الوحيدة التي حاولت لفترة من الزمن وهي تحت حكم ماسينيسا وميسيبسا أن تستعمل اللغة الليبية في كتاباتها الرسمية، وهو أمر فريد وليس له نظير في حدود ما نعرف. ولقد بقيت اللغة البونيقية متداولة لزمن طويل من بعد قرطاج ومن بعد الممالك المحلية، فقد كان الناس لا يزالون يتكلمون البونيقية تحت حكم مارك أوريل في مدينة لبدة، ولكنهم يكتبونها بأحرف إغريقية (كما نراها في كتابة على أحد الأعمدة في قوس النصر). وفي المنطقة نفسها شواهد كثيرة تُستعمل فيها الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة البونيقية. ويقول أغسطين إن القرويين المجاورين لهيبون كانوا بعد خمسمائة سنة من تدمير قرطاج لا يزالون يتكلمون البونيقية. ونعرف بالنقاش الذي أثاره ش. كورتوا حول هذا الموضوع. ولكننا رأينا أن بعض الموريين كانوا بعد ذلك بقرن من الزمن لا يزالون، حسب بروكوبيوس، يقولون بانحدارهم من الكنعانيين، وإن هي إلا ذكرى بعيدة للثقافة التي كانوا يريدون الانتساب إليها. ولكن إذا كانت الثقافة في المدن بونيقيةً فإن الإدارة البلدية لم تكن دائماً مجرد مستنسَخ من النموذج الفينيقي. وحقاً إن نظام القضاء القرطاجي قد كان شيئاً شائعاً في المدن الإفريقية، وقد جيء بإحصاء لعشرين حالة من هذا القضاء، ناهيك عن المدن التي يأتي على نقودها ذكر لقاضيين يشتركان في الاسم الواحد ولا يبعد أن يكونا من قضاة قرطاج. لكن التماثل في الأسماء لا يعني بالضرورة تطابقاً في الوظائف. فقد كان يوجد في مكثر ثلاثة قضاة، ولم يكن في قرطاج من القضاة قط أكثر من اثنين. وفي الأخير فإن بعض الوظائف البلدية في دقة لم تكن لها من المكون الفينيقي، سواء في مفهومها أو في تسميتها، إلا النزر القليل، بحيث أُبقي على أسمائها الليبية دونما ترجمة في النصوص البونيقية. لم تكن هذه المدن الإفريقية ذات الثقافة البونيقية بالمناطق الأجنبية المنعزلة في الممالك؛ بل كانت بعكس ذلك؛ فمن خلالها ظهر وجود هذه الممالك، إذ كانت لها العواصمَ، وكانت فيها الحصون ومصدر الثراء. وإن السياسة المدينية التي انتهجها ماسينيسا وميسيبسا وبوخوس أو يوبا الأول لتثبت أن الملوك إذا كانوا يستمدون قوتهم من قبيلة الأسلاف، وهي التي مكنّت لهم السلطان والسيادة فإن في المدن قد جعلوا لسلطتهم المقار. وما كان الدين نفسه استثناء من هذا التداخل، ولا كان استثناء من هذا الامتزاج للعالمين الإفريقي والمشرقي. فالتفكير يذهب بنا عند النوميديين في المقام الأول؛ في التوسيع المعمم الذي تحقق لعبادة بعل حمون، فأصبح هو ساتورن الإفريقي في العهد الروماني، كما يذهب بنا التفكير إلى عبادة تانيت? أو بالأحرى تينيت? وهي المطبوع اسمها بتناغم بربري. وحتى في الديانة الشعبية، بلهَ الريفية، هنالك آلهة أو جن محليون سمُّوا في ما بعد بالآلهة المورية، لم يكونوا، بخلاف المتوقع لهم، يحملون دائماً أسماء ليبية. وقد ظلت إفريقيا الرومانية تسبح طوال قرون في جو ديني يغلب عليه الطابع الديني السامي والبونيقي، مختلف عن المعتقدات الإيطاليانية البالية وعن الإضافات الهلينية. وإن ما لا عد له من المسلات المكرسة لساتورن لتقوم شواهد على هذه الحقيقة، سواء أَبمحتواها الأيقوني أو بما تحمل من إهداءات موجهة إلى الإله الإفريقي العظيم. ويطالعنا التفاعل نفسه بين ممارسات مشرقية وإفريقية في الديانة الجنائزية. وقد عرفت الدلمنات الكثيرة في البلدان النوميدية الشرقية (شرق الجزائر ووسط تونس) تحولاً معلوماً صارت به قريبة إلى الكهوف ذات الطراز البونيقي الجديد؛ فإن فيها مشاكي جانبية أو تقوم مقام رأس السرير، قد حُفرت في الجدران كما في القبور البونيقية، وجُعلت فيها مزاليق على جانبيّ الباب لأجل الحاجز الوقائي. وبين الحوانيت، وهي مدافن باطنية محفورة في جوانب الجرف الصخرية، التي أخذ بها الإفريقيون بمعزل عن أي تأثير قرطاجي، توجد في القبور الأقرب عهداً مقاعد وأسرة جنائزية محفورة في الصخر. ولا ينبغي لنا أن نفسر التحولات التي طرأت على القبر البونيقي، من الغرفة ذات البئر المنطمرة عميقاً وحتى القبو المفتوح نصفه، بسيرورة داخلية فحسبُ، بل ينبغي أن نردها كذلك إلى الحرص على توفير مدخل ميسّر للغرفة المقابرية، وهو شيء نرى ما يؤكده في جميع الآثار قبيْل التاريخية لقدامى البربر، وهذا الاختيار الجوهري المتعارض مع الاهتمامات الأقدم للقرطاجيين، والمرتبط بكل تأكيد ببعض المعتقدات الدينية، نراه جلياً في الممرات الكثيرة وفي الأروقة، الرمزي بعضها، وفي المشاكي والمصليات المرافقة للقبر. وعملية حرْق الأموات، التي كانت تجري بصورة غير منظمة في قرطاج، خاصة منذ القرن الخامس، كانت شيئاً مجهولاً لدى نوميديّي الشرق، وقد أُدخل حرق الأموات إلى المدن الساحلية وصارت تأخذ به الأسر الأميرية. وليس يبعد أن يكون القبر الذي في الخروب، وهو جثوة كبيرة بالقرب من المدراسن، كما لا يبعد أن تكون مقبرة المدراسن نفسها، يحتويان على مدافن للحرق. لم يتبق من تذكارات الآثار المعمارية البونيقية إلا النزر القليل، وإن كانت أعمال التنقيب في كركوان تسمح لنا بتصور كيف كانت المدينة الإفريقية في ما قبل العهد الروماني. وقد شاءت غرابات التاريخ أن تكون أهم المآثر تقع خارج إقليمقرطاج، في تلك المملكة النوميدية التي كانت عاملاً في زوال قرطاج وكانت في الوقت نفسه محْفَظاً أميناً للثقافة البونيقية. ويمكن أن نذكر كذلك الأضرحة المربعة في دقة وفي مكثر وفي الخروب، وهي التي ظلت نماذج تُحتذى لزمن طويل، لكن تصميمها يجتمع فيه المكونات الهليني والفينيقي سواء بسواء. ويجدر بنا كذلك أن نذكر الأضرحة البديعة التي في صبراته وفي بني رينان، فهي منشآت هلينية ذات قاعدة أصلية في شكل مثلَّثي منحني الأضلاع. وقد سبق لنا أن توقفنا عند المدراسن، وهو ضريح فسيح، لاشك أنه كان مدفناً ملكياً، يقوم في نوميديا. إنه ضريح دائري يبلغ قطره 59 متراً، ويتألف من رواق أسطواني تعلوه درجات تضفي عليه شكلاً شبه مخروطي، ويصل الارتفاع الكلي لهذا الضريح إلى 19 متراً. والنتوءات والخرجة التي على الأبواب الوهمية وعلى باب المدفن والإفريز ذو الحلق المصري وسقف الرواق من خشب الأرز والتيجان الدورية كلها عناصر إغريقية مشرقية نلاقيها كذلك في مآثر قرطاجية أخرى، ولكن المدراسن بشكله العام، الشبيه بشكل بازينة ذات قاعدة أسطوانية ودرجات، وهي القبر البربري القديم الأكثر شيوعاً بنظام مدخل للسرداب يبتدئ من أعلى البناء، يعتبر عبارة عن ضريح بربري. والمدراسن، كمثل الأسرة النوميدية التي شيدته في أواخر القرن الرابع أو بداية القرن الثالث قبل الميلاد، نتاج بديع لالتقاء التأثيرات الإغريقية المشرقية التي أدخلتها قرطاج والتقاليد البربرية قبيْل التاريخية. فيستحق لذلك أن يوصف بالبونيقي.