في شهر ديسمبر / كانون أول من عام 1972 توصلنا في مكتب منظمة التحرير ببرقية على جهاز اللاسلكي من الأخ الرئيس ياسرعرفات يخبرنا فيها بقدوم الشاعر الكبير محمود درويش إلى المغرب للنقاهة ، وطلب منا أن نوفّر له كل أسباب الراحة . استقبلناه في المطار وأنزلناه في فندق باليما بشارع محمد الخامس ، ولم نخبر سوى عدد قليل من كبار المثقفين بقدومه من أمثال محمد برادة وأحمد المجاطي وعبد الجبار السحيمي وعبد الكريم غلاب ومحمد العربي المساري الذي كان أول صحفي مغربي يعايش الفدائيين في قواعدهم بغور الأردن عندما ذهب عام 1969 مع الأخ نبيل الرملاوي ، وأقام فترة طويلة في القواعد ، وضع بعدها كتابا بعنوان ( مع فتح في الأغوار ).. واستمرت زيارة محمود للمغرب حوالي شهر ، رافقته خلالها بشكل لصيق حيث لم أكن أفارقه إلا عند النوم . والتزمت بنص برقية الأخ ياسرعرفات بشكل حرفي ، ولكنني ونزولا عند إلحاح الإخوة المثقفين المغاربة استمزجت رأيه في إمكانية إحياء أمسية شعرية في الرباط ، فوافق وحددنا موعدا لإقامة الأمسية في قاعة وزارة الثقافة ، على أن يشاركه في الأمسية أهم شاعر مغربي في ذلك الوقت وهو الشاعر أحمد المجاطي , وآثرنا أن لا نعلن عن ذلك في الصحف والإكتفاء بالدعوات الشخصية الشفوية والتلفونية . وقد فاجأت الأخ محمود وأنا أحمله معي بالسيارة في طريقنا إلى القاعة بالقول : أنت لا تعرف بأنني شاعرومشهور في المغرب ، فتساءل وهل أنت شاعر؟ أنا لم أسمع عنك ولم أقرأ لك شيئا من قبل . فقلت له ستسمع ذلك بأذنك . ولما وصلنا إلى القاعة التي امتلأت عن آخرها ، وجدنا بالباب الأستاذ عبد الكريم غلاب رئيس إتحاد كتاب المغرب وأعضاء المكتب المركزي للإتحاد ، وعددا من الوزراء في مقدمتهم الأستاذ محمد أبّا حنيني وزير الثقافة . سألت الأخ عبد الجبار السحيمي هل القاعة جاهزة ؟ فقال أنها بانتظار دخول الأخ محمود والأخ المجاطي ، وأضاف : هل ستقدم شيئا من شعرك ؟ فالتفتّ نحو الأخ محمود وقلت له : هل سمعت ؟ وأضفت : رغم أنني لا أتواضع دائما ، إلا أنني لا أجازف بمشاركة محمود درويش ، الذي أستطيع الإستماع إليه جيدا وحفظ أشعاره لا أكثر . بعد أيام اقترح علينا الأستاذ العربي المساري زيارة الشمال المغربي ، فوافق الأخ محمود فورا حيث أعرب عن شوقه لزيارة طنجةوتطوان التي طالما أنشد قصيدة فخري البارودي التي تقول ( بلاد العرب أوطاني ، من الشام لبغدان ، ومن نجد إلى يمن ، إلى مصر فتطوان ) . وقد استضافنا في طنجة السيد عبد السلام جسوس بكرم حاتمي ، وكان بصحبتنا الشاعر الرقيق عبد الإله كنون والفنانة التشكيلية لطيفة التيجاني والدكتور محمد النشناش. وانتقلنا إلى تطوان حيث فاجأنا الأخ العربي المساري ? وهو إبن تطوان ? بأنه رتّب أمسية شعرية في قاعة البلدية بتنسيق مع محافظ المكتبة البلدية المهدي الد ليرو ، ولم يتردد الأخ محمود في إلقاء بعض قصائده . في تلك الأمسية حدث أمران مثيران ، أولهما رفض محمود إلقاء قصيدة ( سجّل أنا عربي ) قائلا أنه قالها في مواجهة المحتلين الصهاينة ولا معنى لإلقائها على مسامع الأشقاء . أما الأمر الثاني فقد وقع بعد إنتهاء الأمسية ، حيث أخذ شباب وشابات تطوان يتدافعون لأخذ صور تذكارية مع محمود ، وفجأة جاءت مجموعة من الرجال كبار السن وقال أحدهم : إفسحوا الطريق للفلسطينيين القدماء ، فالتفت محمود نحوي مستفسرا عن هؤلاء ، فأخبرته بأنهم من بقي حيا من البعثة الدراسية المغربية الأولى التي خرجت من المغرب ، وتوجهت نحو مدينة نابلس الفلسطينية حيث درست في مدرسة النجاح سنة 1926 بتنسيق بين زعيم منطقة الشمال الحاج عبد السلام بنونة وأمير البيان شكيب أرسلان . ولا بد من التوقف هنا عند حدثين لهما صلة بزيارة محمود درويش لشمال المغرب ، فبعدها بأقل من سنتين استشهد أحد أبناء مدينة تطوان وهو الشهيد الحسين الطنجاوي وهو يخوض معركة إلى جانب رفاقه في إحدى الفصائل الفلسطينية ( في شهر نوفمبر/ نشرين ثاني 1974 ) ، وبعدها بحوالي سبعة أشهر استشهد المناضل عبد الرحمن اليزيد أمزغار في يونيه / حزيران 1975 وهو يقاتل في صفوف فصيل فلسطيني ، وهو من أبناء مدينة أصيلة الشمالية . وتوجهنا بعد طنجةوتطوان إلى مدينة مراكش ، حيث استضافتنا الشاعرة الكبيرة مليكة العاصمي في حفل عشاء فاخر في بيتها حضره جمهرة من المبدعين والسياسيين . كانت هذه هي الزيارة الأولى لمحمود درويش إلى المغرب ، وتلتها زيارات لم يكن يفصلها عن بعضها أكثر من عام ، حيث تكوّنت بين محمود درويش والجمهور المغربي عموما وجمهور مسرح محمد الخامس بالرباط خاصة علاقة عشق تحدّث عنها محمود مرارا. وأذكر أنه في الثالث عشر من ديسمبر/ كانون أول من عام 1986 أقيمت أمسية شعرية لمحمود في مسرح محمد الخامس الذي يتسع لحوالي ألفي مقعد ، وقد دخله حوالي خمسة آلاف شخص ، ومثلهم وقفوا في الساحة الداخلية للمسرح ، ومثلهم تجمعوا في الشارع العام أمام المسرح . تكفّلت أنا في تلك الأمسية بتقديم محمود ، وأعددت له تقديما شعريا يليق به . وبدأت الأمسية والجمهور في حالة هستيرية ، وبلغني وأنا في كواليس المسرح بأن الجمهور في الخارج سدّ كل الطرقات المؤدية إلى المسرح ويرفض مغادرة المكان مما ينذر باشتباك بينه وبين قوات الأمن ، كما لاحظت أن الجمهور داخل القاعة الذي جلس كل شخصين على مقعد واحد وانتشروا في الممرات الأرضية وممرات الطابق العلوي ، وكانوا يجلسون وينهضون ويقفزون مع كل مقطع مما ينذر بأخطار على مبنى المسرح . فاغتنمت فرصة توقف محمود ليشرب بعد انتهاء إحدى قصائده ، وتقدمت نحوه وأخبرته بالأمر وبما أتخوّف منه ، فاكتفى بحوالي خمسين دقيقة شعرية معتذرا بحالته الصحية ، وكانت هذه أقصر أمسية شعرية أحضرها لمحمود . وقد خرجنا متسلّلين من الباب الخلفي للمسرح للإفلات من تدافع الجمهور . في صباح اليوم التالي ذهبت مبكرا جدا واصطحبت محمود إلى مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء حيث سافر إلى تونس ، وعدت إلى مقر ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية فوجدت الأخوة كلهم مجتمعين وتكسو وجوههم جدية أو كآبة ، فبادرني الأخ أبو مروان بالطلب مني أن أعود إلى بيتي ، ولما قلت له أنني لست متعبا ، اضطر إلى إخباري بأنه تلقى بالأمس خبر وفاة والدي ، وأنه لم يخبرني بالأمر لأنه يعلم بأن محمود إذا علم بالأمر فربما يعتذر عن الأمسية ، مما سيسبب لنا مشكلة مع آلاف الجماهير. عدت إلى البيت وأنا في حالة غمّ وحزن كبيرين ، ولا أدري ما الذي جعلني أعيد قراءة ما كتبته لتقديم محمود في الأمسية الشعرية ، فاكتشفت أن ما كتبته وكأنني كتبته في رثاء والدي ، حيث قلت: مع عبق التاريخ الآتي من رحم أريحا مع ترنيمات الكنعانيات على سفح الكرمل مع صلوات الكهّان ببيت الربّ في أورشليم مع أغرودات صبايا مرج بني عامر يأتينا صوتك يأتينا ممزوجا بهتاف طفل يقذف حجرا في وجه الغاصب بعرق الفلاح الممزوج بطين الأرض ينزّ عروبة بدم الطلاب المتحدّين المحتل لحدّ الموت برصاص فدائيّ يتوحّد بالرشاّش ويمضي نحو النصر يأتينا صوتك ناعما كنسمة صيف ماض كحد سيف ... الخ ولمحمود حكاية طريفة مع ولدي سفيان ، فقبل عودتي من إحدى رحلاتي إلى لبنان حصلت على شريط بصوت محمود يتضمن نص الكلمة التي ألقاها بصفته رئيسا للإتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين في مهرجان الشقيف الشعري الذي أقامه الإتحاد أمام قلعة الشقيف التاريخية بجنوب لبنان ، وكانت كلمة قوية مؤثرة جميلة اللغة والأخيلة إلى حد أن كثيرا من أنصار قصيدة النثر اعتبروها إحدى قصائد هذا اللون الأدبي . كان عمر سفيان عشر أو أحدى عشرة سنة عندما كنت عائدا به مع زوجتي من الدارالبيضاء ليلا ، وكان الجو باردا وماطرا ، فمدّت زوجتي يدها إلى محفظة السيارة الأمامية وتناولت شريطا ? دون تحديد ? ووضعته في مسجّل السيارة ، فكان هذا الشريط كلمة الأخ محمود في مهرجان قلعة الشقيف . ولما انتهى الشريط فاجأني سفيان بقوله : يا بابا ، وأنا استمع للشريط شعرت بارتفاع حرارتي . بعد مدة جاء محمود إلى الرباط ، فذكرت له ما حدث مع سفيان ، فقال لي : إن إبنك وفي هذا السن يفهم أكثر من معظم مدّعي النقد .. فإذا لم يرفع الشعر حرارة المتلقّي ، فإنه شعر تافه وبلا رسالة . لقد سمّيت ولدي ( سفيان) إنطلاقا من إعتزازي بالدولة الأموية التي امتدت حدود امبراطوريتها من شرق آسيا إلى وسط أوروبا ووسط افريقيا ، رغم أن أحد أصدقائي كان يناكفني قائلا بأنني سمّيته سفيان ليقال لي ( أبو سفيان ) ، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. وكنت أودّ تسمية إبنتي الكبرى ( قدس ) ولكنني رأيته إسما أكبر من أن يحمله إنسان، فسمّيتها دلال على إسم الشهيدة دلال المغربي التي قادت عملية سافوي الفدائية واستشهدت فيها . أما إبنتي الصغرى سارة فقد حاول بعض أفراد العائلة أن يمنع هذه التسمية فقام بتحريض جدّها الحاج الطيب الناصري بأن الإسم ( يهودي ) فذهبت عنده وحكيت له بعضا من قصص السيدة سارة كزوجة للنبي إبراهيم وأم النبي إسحق وجدة النبي يعقوب ، فلم يعترض على التسمية. بعد زيارة محمود درويش تقاطر على المغر ب الكثير من الشعراء والروائيين والفنانين التشكيليين الفلسطينيين . فقد جاء الشاعر خالد أبو خالد وأحيا أمسيات شعرية في العديد من المدن المغربية ، تميّزت منها أمسية مدينة تطوان التي حضرها عدد كبير من كبار شعراء المغرب الذين كان جلّهم من منطقة الشمال ، أمثال عبدالكريم الطبال ومحمد الميموني وأحمد بنميمون وعبد الواحد أخريف . وبعد الأمسية أقام لنا الشاعر محمد الميموني مأدبة عشاء في بيته ، وبعد العشاء اتفق الحضورعلى أن يلقي كل واحد منهم بعضا من أشعاره . كان من بين الحضور أديب فنان متميز اسمه حسن المفتي ، سبق له وأن عمل مساعدا للمخرج السينمائي المصري يوسف شاهين في عدة أفلام عام 1956 ، وهو شاعر زجّال كتب أشهر أغاني المطربين المغاربة الكبار كعبد الوهاب الدكالي . وقد ألقى قصيدة زجلية رائعة ، دفعت الشاعر خالد أبو خالد لأن يقف إحتراما له ويقبل رأسه قائلا : لقد قلت زجلا ما عجزنا عن قوله جميعنا نحن شعراء الفصحى . وجاء الشاعر أحمد دحبور أكثر من مرة وأحيا أمسيات في العديد من المدن المغربية ، ولكن أبرز أمسياته كانت في المسرح البلدي بمدينة الدارالبيضاء . فقد نشرت الصحف المغربية خبرا مغلوطا يشير إلى أن أمسية شعرية سيحييها الشاعران الكبيران محمود درويش وأحمد دحبور في المسرح البلدي . لم يكن المسرح يتسع لأكثر من ألف شخص ، ومع ذلك دخله أكثر من ثلاثة آلاف ، وتجمع أمامه قرابة عشرة آلاف آخرين . ونظرا لكون المسرح يقع في منتصف الدارالبيضاء تقريبا ، فقد أدى تجمع الجمهور إلى قطع كل طرق المواصلات ، وبدأ الجمهور بالإشتباك مع قوات الأمن التي حاولت فتح الطرق . وقد اضطررت للصعود إلى خشبة المسرح والهمس بأذن الأخ دحبور بضرورة إختصارالأمسية لأن الأمور تتجه بعكس ما نريده ويريده الجمهور ، فاكتفى بحوالي أربعين دقيقة فقط . وأتذكّر جيدا كيف أن أحد الصحفيين سأل الأخ دحبور في اليوم التالي عن تفسيره لما حدث ، فقال بتواضع شديد : لقد جاء الناس أولا من أجل فلسطين ، وثانيا من أجل محمود درويش ، وثالثا من أجلي . وجاء عدد كبير من الفنانين التشكيليين مثل إسماعيل شموط ومصطفى الحلاج وعبد الرحمن المزين ومحمد المزين وناصر السومي وكمال بلاّطة وجمانة الحسيني ولطيفة يوسف وجواد إبراهيم . وتجدر الإشارة إلى أن الفنانين المغاربة أقاموا لأول مرة في تاريخهم معرضا جماعيا خصص لفائدة الثورة الفلسطينية تم تنظيمه في قاعة باب الرواح بالرباط ، على هامش أول ندوة كبرى ننظمها في المغرب ، شارك فيها معظم قادة السياسة والفكر المغاربة في صيف عام 1971 بكلية العلوم بالرباط ، وقد أشرف على تنظيمه معنا الفنانون كريم بناني ومحمد القاسمي ومحمد المليحي والعربي بلقاضي ومحمد حميدي . ومن هذا المعرض الجماعي جاءت فكرة تأسيس الجمعية المغربية للفنون التشكيلية عام 1972 بحضور رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين العرب ورئيس إتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين اسماعيل شموط ، وانتخب الأخ كريم بناني رئيسا للجمعية ومن طرائف زيارات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين للمغرب أنه أثناء وجود الفنان مصطفى الحلاج في معرضه بقاعة باب الرواح ، جاء مسيّرو جمعية ثقافية بمدينة سلا واتفقوا معه على إلقاء محاضرة عن الفن التشكيلي في فلسطين . ولأسباب عائلية اضطر الأخ الحلاج للعودة إلى دمشق قبل إنتهاء المعرض ، وقبل موعد المحاضرة بيوم واحد جاءني مسؤولو الجمعية يسألون عن الأخ الحلاج ، فلما أخبرتهم بسفره الإضطراري قالوا لي : بما أنك أنت المسؤول عن الإعلام والثقافة الفلسطينية في المغرب ، فعليك أن تنوب عن الأخ الحلاج وتقدم المحاضرة . حاولت الإعتذار بكوني بالكاد أفهم خطوط الفن التشكيلي ولا أعرف حتى أسماء مدارس الفن التشكيلي ، إلا أنهم أصّروا على ذلك فقد وزعوا الدعوات وألصقوا الإعلانات في المقاهي والمدارس والشوارع . إضطررت أمام ذلك إلى البحث عن كل ما كتب عن الفن التشكيلي في مجلات شؤون فلسطينية وفلسطين الثورة والحرية والطليعة وغيرها ، وبت ساهرا طوال الليل حتى أعددت بحثا لا بأس به في الموضوع وألقيته في الغد . ولسوء الحظ أنني أعطيت مسؤولي الجمعية نص المحاضرة بخط اليد ودون أن آخذ عنه صورة ، ذلك أنهم قالوا أنهم سينشرون النص . ولغاية يومنا هذا لم أر هذا البحث مخطوطا ولا منشورا ، وكلما سألتهم عنه يقولون بأنه ضاع ولا يدرون كيف ضاع .