لما تدخل لمبنى الباطوار ?مجازر الدارالبيضاء سابقا، بالحي المحمدي-، ستجد عن يمينك بناية ذات مدخنة ضخمة، لا تفترض فيها أنها مخبزة أو حمام، ولا حتى مكان لإحراق النفايات، بل يتعلق الأمر بمحرقة للحيوانات؛ نعم الحيوانات المعلولة تُحرق هنا، لتعم نتيجة لذلك وفي كل مرة، سحابة دخان سوداء أكبر مركب لصناعة الثقافة في المغرب. تشويش حاستي السمع والبصر -أو أحيانا حجبهما-، قد لا يكفي؛ إذ يمكن للأمر أن يكون أسوأ، فيحتلوا عليك أذنيك بصوت النهيق، إنه نهيق الحمير الضالة، وصراخ المشرف الذي يمنعها بعصاه المُؤدِبَة من أن تتوالد أكثر. وسط كل هذا، وعلى الرغم من استمرار وجود المزالج والروابط، التي تدل على أن المكان كان في يوم من الأيام، مذبحا ضخما للبقر.. إذا دخلت للشطر الأعمق، فستجد فلما إيرانيا هنا، وإقامة إبداعية هنا، والشباب المنفلت من الجاذبية في مكان للرقص وتمارين المرونة، ستجد وجوها متعبة، لكنها فرحة بقفزة هنا، صيحة هناك، صورة التقطتها محتفية بجسدها أو بشعرها، نغمة غيتار كهربائي عزفت حتى أنزلت دمعة أو أثارت شهوة ذاكرة أو حلم في قلوب الحاضرين وعيونهم. «هنا كانت المخرجة مرية كريم والمغني الشاب معاذ الحاقد، هو كان يُعد لألبومه الموالي، وهي كانت تنجز معرضا من الأعمال الفنية المأخوذة من مواد أعادت تدويرها ذاتيا، كنت سعيدة بهما بين كل هؤلاء الشباب الذين ترى، والذين ينزلون في ضيافة الباطوار، في إقامة فنية، لكن إعادة سجنه دمر كل ذلك الأمل الجميل.» تعلق دنيا بنسليمان، منسقة الصناعة الثقافية في الباطوار، ومرافقتنا لفهم وضع الباطوار. البناء وانتهاء الصلاحية: اشتغل المبنى كمذبح منذ 1922 إلى غاية 2002 حيث أغلق، لأنه لم يعد يستجيب للمعايير المفترضة في المذابح، وحُول الجزارون والبقر إلى المجازر الجديدة التي فتحت في سيدي عثمان، وأغلق المكان لحوالي ثمان سنوات، على الرغم من المحاولات العديدة لمجموعة من الفنانين والفاعلين الجمعويين، الذين حاولوا التفكير في الطريقة التي يمكن بها الاستفادة من هذا البناء الكبير، لكن لم تتطور الأمور إلى الاستغلال الفعلي، وحدث أن ساهم حدث سنة 2003 في حفظه من الهدم، فقد سجل الباطوار في قائمة البنايات التاريخية، وأصبح يملك اعترافا عند وزارة الثقافة، وهو الاعتراف الذي لا يعني التصنيف، ولكن مادام في هذه اللائحة، فعنده القليل من الحماية، ولا يمكن أن يحدث فيه أي شيء، إلا بعد أخذ الإذن من وزارة الثقافة ومجلس المدينة النسيج الجمعوي ومجلس المدينة. للنقاش تأهب: في سنة 2008، جمع مجلس المدينة مجموعة من الجمعيات، والفنانين والفاعلين الثقافيين، للتفكير في الطريقة التي يمكن بها استغلال المبنى، واستمرت اللقاءات طيلة ست أشهر، جُمعت فيها فرق للتفكير والبحث، لتناقش بينها الطريقة المثلى لاستغلال المكان وكانت خلاصتهم هي أن يتحول المبنى إلى مصنع ثقافي، لفنون المدينة والفنون المعاصرة. الاختيار لهذا النوع من الفنون لأنه أكثر انتشارا في مدينة كالدارالبيضاء، وهو يتطور ?أكثر من بقية الأنماط- في أوساط الشباب، النمط موسيقى وكل تلك الأسماء التي ظهرت منذ عشر سنوات إلى الآن، والذين ينتجون أكبر قدر من المواد الفنية، لكن ليسوا يملكون مكان للتدرب والإبداع والعرض أمام الجمهور. ثم لأننا في الحي المحمدي، الذي يُعرف بتاريخه ، والتهميش الذي تعرض له لسنوات، و يبقى خاليا بشكل كامل من الأمكنة الثقافية، ما مكن مشروع الباطوار من أن يكون له هدف مزدوج بين إفادة صناعة الفنون المعاصرة، إلى جانب نفع الحي المحمدي. قرر مجلس مدينة الدارالبيضاء، سنة 2009، أن يختبر المكان لمدة سنة، بما يمكنه من الإجابة على سؤال إلى أي قدر يمكن تحويله من مجازر، إلى فضاء ثقافي وفني؟ الالتزام المبدئي: انخرط نسيج من الجمعيات في النقاش، وقرروا مجتمعين أن ينجزوا نشاطا ضخما، فيه كل أنواع الفنون، سموه ب»ثقافيات الباطوار»، في أبريل 2009، كان النشاط يجمع الهندسة والمسرح والغناء والرسم .. والهدف تجريب كل ذلك، وجمع الخلاصات، حتى يمكن أن يحدد هذا المكان لهذا النوع من الأنشطة، والآخر صالح للشكل الآخر في الأنشطة. وقد سجل فعليا النشاط نجاحا كبيرا، ففي اليومين فقط، حضر ما يقترب من الأربعين ألف مواطن، وإلى جانت العدد الكبير، كانت مختلف الطبقات الاجتماعية المختلفة، النخبة إلى جانب الطبقات المتوسطة والفقيرة، العائلات والشباب، حضر العمدة والسفراء، «وهذا بالنسبة لنا هدف مهم، الذي هو الاختلاط الاجتماعي بين مختلف الطبقات الاجتماعية..» تضيف دنيا. بداية المتحمس: وساهم مجلس المدينة بمليوني درهم، بعد توقيع عقد بشروط إلزامية، وعملت 15 جمعية، التي كانت تشكل النسيج، لكن كان يفترض أن تتكلف جمعية واحدة بعملية التنسيق، وهو الأمر الذي قامت به «كازاميموار»، بحكم أنها كانت تملك برنامجا لعملها، وميزانية مضبوطة، ومكتب ملتزم.. فكُلفت بتسيير عمل النسيج في ذلك النشاط، وهو الشيء الذي مازال مستمرا إلى اليوم. عرف البوطوار دراسات مستفيضة عن قدرات البناية وإمكانيات كل جزء، وتم منع الأماكن الخطرة، وإدخال الكهرباء، وصممت الإنارة لكل البناية، ليتقرر بعد ذلك أن المكان يمكن له أن يكون مكان ثقافي، ثم.. ثم أغلق السياسيون في مجلس المدينة آذانهم. الدعم المتطلب: وقد استمر الفراغ في الاتفاق والنقاش، لسنة ونصف، ابتداء من 2010، فالأمر ليس فقط يتعلق بالنقود، بل هناك عدة تفاصيل وشروط، تمكن الجمعيات التي تستغل الباطوار من ذلك، تلك الوثيقة يفترض أن تأخذ من عند مالك الباطوار، الذي هو في هذه الحالة مجلس المدينة، يلتزم فيها بأنه هي يمنح الجمعيات ليس فقط حق الاستغلال، ولكن لمدة، يفترض أن تكون طويلة، فالاتفاقية من السنة إلى السنة التي تليها لا تكفي، حتى وإن كانت جيد وتمكن الجمعيات من أخذ تمويلات ومساعدات من مؤسسات أوروبية وأمريكية أو آسيوية تريد المساعدة، تلك الهيآت تطرح سؤالين أساسيين، هما: «بأي حق أنتم في هذه البناية؟ ثم إلى أي مدة؟ تعلق دنيا بالقول: «علينا أن نعطيهم التزامات بأن تلك المساعدات المادية، التي تكون كبيرة، أنها ستستغل في الفن، ولن يسحب منا المكان في أي لحظة ممكنة.. تلك الوثيقة نحن لا نملكها، وهم لا يريدون إعطاءنا تبريرا واضحا، الأمر هو عبارة عن حالة «سكيزوفرين»، نحن هنا بدون أي وثيقة تبرر وجودنا، لكن ما نقوم به هنا، يفتخر به مجلس المدينة، يعني يفتخرون به أمام الأجانب والسفراء لما يحضرون، ويضمنون صور الأنشطة والبناية لإنجازات المجلس.. وفي نفس يعطوننا الدعم المادي، حتى وإن كانوا يفعلون ذلك في وقت متأخر، المنح نأخذنا، ولكن الوثيقة التي ستفتح لنا الأبواب، لم نستطع الحصول عليها إلى الآن، هل ذلك يعود لأنهم يرون أن الموضوع ليس أولوية، أو أن مشاكل مجلس المدينة السياسية، أم أننا لم نصل بعض للأشخاص الذين يملكون سلطة الحسم، هل وجب أن نستغل وقت الانتخابات قبل أن يستبدل المجلس.. كل تلك الأسئلة نطرحها على أنفسنا.» الوثيقة المفقودة: المطالبة بالوثيقة ليست بالشيء غير مسبوق، فهذا النوع من الاستغلال وتحويل الفضاءات التاريخية لفضاءات أخرى موجود، هناك مبان قديمة استوفت تاريخ صلاحيتها في مهمتها الأصل، وحولت إلى صناعة الثقافة، في عدة دول منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا في مصر وفي افريقيا، الفضاءات الثقافية البديلة، وهي ليست بمبنى مسرح أو سينما، بل هي من نوع المباني الذي لم تكن له أي علاقة بالثقافة، ونحوله ليصير ثقافيا.. أما في المغرب فحتى وإن ليست توجد فضاءات بديلة ثقافية، لكن هناك فضاءات بديلة في مجالات أخرى، يحدث ذلك في الرياضة مثلا، كرة القدم التنس.. عندهم اتفاقيات مع مجلس الدارالبيضاء، تلك الاتفاقيات التي لا تسري لسنة أو ثلاث سنوات، بل في بعض الأحيان يصل الأمر إلى ثلاثين أو تسعين سنة، وهو نفس الأمر الذي تطلبه الجمعيات الناشطة في الباطوار لخدمة الثقافة. الهدف هو توفير فضاء لخشبة الفنانين الشباب في فنون المدينة والفنون المعاصرة، في الدارالبيضاء وفي المغرب كاملا، لكي يكون بإمكانهم ممارسة الإبداع، ثم أن يكون بإمكانهم توزيع المادة التي أنتجوا، فيمكنهم أن يحيوا حفلا، او ينظموا ندوة، وثالث مسألة تراد بالمبنى هي التكوين: ليس تكوين الأطفال والتلاميذ فقط، بل أيضا الفنانين المبتدئين، لأنه وحتى تصير فنانا، وجب أن تتعلم وتتكون.. وهذا مكان جيد لتنتظم فيه التكاوين. الحي المحمدي وما أدراك ما «الحي»: الباطوار يوجد في الحي المحمدي، قرب روش نوار.. وهي أماكن شعبية، كبيرة وتحتوي الكثير من الناس، بدون أي مباني ومؤسسات ثقافية، ما يمكن هذا الفضاء من أهمية قصوى؛ «كما ترى فهنا عائلات بأطفالها وهنا شباب من المدارس، وهنا شباب من المعامل، الفكرة هي أن تدخل كل هذه الفئات، ليصادفوا في يوم ما معرضا للوحات أو عرض للرقص، ما سيرسخ عندهم الإحساس والتربية الفنية، كما أنه سيمكننا من تحقيق هدف أساسي هو الاختلاط الاجتماعي، بين الطبقات الاجتماعية والثقافية، في مواضع أخرى في الدارالبيضاء، نجد أماكن ترتادها طبقات اجتماعية معينة، ويمتنع عنها البقية.. أما عندنا فالجميع من حقهم الارتياد والاحتكاك مع الفن.» الموارد بين البشرية والمادية: الموارد البشرية في هذه القلعة الفنية والثقافية متوفرة، إذ تنشط فيه ما مجموعه 14 جمعية، بمجالات عمل مختلفة، هناك من في الرسم، في التراث في الموسيقى، مع الأطفال أو الشباب.. هي طاقات، تعمل بمعدل ستين إلى سبعين نشاط في السنة، ليكون المجموع ما يتجاوز 200 نشاط في الثلاث سنوات، ب400.000 زائر، من كل الأعمار والاهتمامات والأنماط، كما أن هناك الكثير من الأنشطة التي أنجزت مع الأجانب، هولندة وفرنسا وسويسرا في الموسيقى والتصميم والمعارض.. ويُتوقع في المرحلة القادمة أن ينطلق العمل مع دول من أمريكا اللاتينية، الأمر الذي ستكون بدايته بوليفيا، لأنهم هم أيضا يملكون فضاء مشابها، والفكرة هي أن تنشأ شبكة عالمية من هذا النوع، لتبادل التجارب والحيل والخبرات. «ما نريده هو اتفاقية طويلة الأمد، تمكننا من طلب الدعم، لاستغلال الفضاء بشكل جيد في تلك المدة، مع مؤسسات ثقافية في الخارج، هي أصلا تعرض المساعدة، لكن تشرط علينا الاتفاقية.» سألتُ دنيا عن حاجتهم للمال، فردت بثقة: «المداخيل المادية سنحتاجها لثلاث أمور أساسية، البناية عمرها 90 سنة، وحتى وان كان عموما مازال قويا، لكن تلزم رعايته بشكل مستمر.. يضاف إلى ذلك أنه تراثي، وليس بناية اعتيادية. البرنامج الثقافي والفني ذو الرؤية البعيدة: نحن لحد الآن نستضيف أنشطة، ولا ننظم أنشطة من ذواتنا، ببرنامج ذو رؤية بعيدة، السبب يعود لضعف الامكانيات المادية أساسا. كل فضاء من الباطوار، وجب إعادة إصلاحه، ليتلاءم مع نمط فني معين، يطابقه في التجهيزات والديكور والمستلزمات التقنية. بالإضافة إلى أجور الموظفين: المدير الفني، المدير التقني، المساعدين، مسؤول التواصل، مسؤول البحث عن الدعم ودراسة الاتفاقيات..» الباطوار كمجال ثقافي، هو جزء من معركة إعادة تشكيل الأماكن التراثية لتصير فضاءات ثقافية، لأن معظم الأماكن الموجودة أصلا، مسيرة من طرف موظفين، بدون حماس، بينما هذا الفضاء، فهو مسير من فاعلين في الحقل، شغوفين به، يحبون المسرح والموسيقى.. المدينة كلها وجب أن تتبنى هذا النموذج من السياسة الثقافية. لقد صار البوطوار معروفا في العالم كاملا، سبق أن نشرت مئات المقالات عنه، آخرها تلك التي نشرتها مجلة «جون أفريك» قبل شهر، هو فضاء مفتوح، وتكفي الزيارة البسيطة ليتمكن الزائر من الوقوف على أن الأنشطة تنظم فيه بشكل يومي أو شبه يومي، تلك الأنشطة التي تتراوح من تلك الصغيرة المتمثلة في حفلات الأطفال، وصولا إلى الحفلات الفنية الضخمة، ما يؤشر على أن هناك حالة من الإقبال الكبير على المكان، ولكن المتابعين والفاعلين في حقل الثقافة، يرون أن المرحلة الأولى التي كان الهدف منها هو التجريب، انتهت فترتها المفترضة، وأن الجمعيات المكلفة قد برهنت فعليا على قدراتها واستحقاقها، وأنه وجب أن نمر الآن من مرحلة قد يوصفها البعض بالفوضى، إلى مكان ثقافي منظم، وله برنامج تفصيلي، وله رؤية، وأن يكون إلى جانب ذلك مكانا للتفكير في الثقافة، ولمناقشة السياسة الثقافية للمغرب الذي نريد، هذا هو الدور المفترض في ملتقى بديل، هو لا يسير في القواعد التقليدية، لأن الثقافة وصناعتها تتغير في كل زمان، وهي ليست شيئا جامدا ثابتا، وللتفكير في ذلك تلزم أماكن مختلفة عن المؤسسات والأماكن التقليدية، ومثل هذا المكان يسمح بالإبداع والمشاركة والفهم المختلف. بين الوجود الحقيقي والوجود الرمزي: مرافقتنا ختمت متأثرة بالقول: «بماذا تشتهر مدينة الدارالبيضاء في العالم، بعيدا عن فلم «كازابلانكا»، الذي لم يمثل أساسا في المدينة، لا شيء، الناس الذي تأتي للدار البيضاء ربما تزور ساحة الحمام أو حتى مسجد الحسن الثاني، لكن البيضاء الثقافة، ماذا يجدون فيها؟ لاشيء.. بينما هذا الفضاء يمكنه أن يشكل مكان يعطي إشعاع عن المدينة للعالم بأكمله.. ويكون نموذجا عما يمكن أن ينجزه الشباب المغاربة من ابداع وفن.» «أقُلتَ فنا نظيفا؟» بعد يومين من الأنشطة التي حضرتها في الباطوار، خرجتُ من قاعة عرض فلم، عبر معرض للوحات، ثم دست صورا لمزبلة مديونة ?مشروع شارك فيه عدة فنانين يحتج على الوصاية القيمية التي تحاول بعض الأطراف فرضها عليهم-، تطلعتُ جهة مدخنة الحرق فكانت نشطة، فكرتُ ف»لا طهارة» سياسينا ?والذين يؤخرون الوثيقة التي يفترض أن تفتح آفاق شاسعة للشباب- وكسلهم، ووسط كل تلك الممارسات الفنية تذكرتُ تصريحات أحد وزرائنا عن «الفن النظيف»، وفكرتُ مع نفسي؛ أتراه لو كان زار هنا، كما عشرات الآلاف من شباب المدينة، ولمس الفن وأنتج الفن ورأى الفن، هل كان ليجرأ على قوله ذلك؟ !