"الخارجية" تعلن استراتيجية 2025 من أجل "دبلوماسية استباقية"... 7 محاور و5 إمكانات متاحة (تقرير)    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    حرارة منخفضة وزخات مطرية في توقعات طقس الجمعة    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    عودة جاريد كوشنر إلى البيت الأبيض.. صهر كوشنير الذي قد يسعى إلى الإغلاق النهائي لملف الصحراء المغربية    الانتخابات الأمريكية.. لماذا مُنيت كامالا هاريس بهزيمة مدوية؟    بالفيديو: يوسف النصيري يهز شباك ألكمار بهدف رائع في "اليوروباليغ"    هذه لائحة 26 لاعبا الذين استدعاهم الركراكي لمباراتي الغابون وليسوتو    الكعبي يشعل المدرجات بهدف رائع أمام رينجرز في "اليوروباليغ" (فيديو)    بالأغلبية.. انتخاب المغرب لتولي منصب نائب رئيس منظمة الأنتربول    وزارة الصحة تطرق أبواب النقابات لاحتواء الاحتجاجات    خطاب المسيرة الخضراء يكشف الصورة الحقيقية لخصوم الوحدة الترابية    طقس الجمعة: أمطار وانخفاض تدريجي في درجات الحرارة    تفاصيل بلاغ جديد من القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    الشبري نائبا لرئيس الجمع العام السنوي لإيكوموس في البرازيل    ترامب حقق نصراً كبيراً، وهاريس تقرّ بخسارتها، فكيف كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    المدير العام لإدارة السجون يلوح بالاستقالة بعد "إهانته" في اجتماع بالبرلمان    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    جمعية المحامين ترحب بالوساطة للحوار‬    طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    إسبانيا ترفض السماح للسفن المتجهة إلى إسرائيل بالمرور عبر ميناء الخزيرات    المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"        إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحث الأنتروبولوجي حسن رشيق في حوار مع «الاتحاد الاشتراكي» : لا ينبغي حصْر المغاربة في إمكانية واحدة والقول إنهم متطرفون في الدين

- الحديث مع الأستاذ الباحث الأنتروبولوجي المغربي حسن رشيق حديث شيّق وذو نكهة خاصة. ففضلا عن تواضعه الإنساني الكبير الذي يعطيك ألفة غير مألوفة، يدخل معك في دروب المعرفة والثقافة الملتوية والتي تكاد لا تنتهي. وفي هذا الحوار الذي خصّ به جريدة "الاتحاد الاشتراكي" كانتْ المناسبة هي صدور كتابه القيّم " القريب والبعيد"، الصادر ضمن منشورات "بارانتيز" بباريس في بحر هذه السنة. الكتاب عبارة عن مسح علمي لقرن من الممارسة الأنتروبولوجية بالمغرب. وكعادته، فإن حسن رشيق لا يصدر أحكاما جاهزة، ولا ينطلق من أطر مرسومة مسبقا، بقدر ما يرافق المباحث والظواهر في قراءة متأنية ومتوازنة وموثّقة. وفي هذا الحور يبرز رشيق أن معظم الدراسات الأنتروبولوجية كانتْ توظّف معرفتها الانتروبولوجية لفائدة الإدارة الاستعمارية، فضلا عن كوْنها تعميمية واختزالية في نظرتها إلى الثقافة المغربية، حيث كانتْ مناهجها عبارة عن نظّارات تسمح برؤية أشياء وتغييب أخرى. ويخلص إلى أنّ المحيط السوسيوثقافي في االمغرب هو محيط مركّب وغير متجانس، ومن ثمّ فإنه لا يعتبره نسقا من السّمات والخصائص بقدر ما يعتبره بنيْة من الإمكانات، وخزّانا من الحلول المتنوعة بل والتناقضة أحيانا. كما أنّ مهمة الأنتروبولوجي، في نظره، هي أنْ يدرس هذه الإمكانيات المتاحة، سواء أكانت في السياسة أو في الدين أو في الاقتصاد،
{ الأستاذ رشيق نبدأ معك من البداية، ونطرح عليك السؤال الكلاسيكي: لماذا هذا الكتاب عن تاريخ البحث الأنتروبولوجي بالمغرب الآن؟
في الواقع إنّ مشروع هذا الكتاب ظلّ يختمر مدة خمس عشرة سنة، والكثير من فصوله سبق نشرها في شكل مقالات من قبل. وأعتقد أن الدافع الأساسي لنشره اليوم هو أنّه في وقت ما من مسار الباحث الأنتروبولوجي يجب عليه أن يتحاور ويناقش من سبقه في هذا الحقل. ويمكن للحوار أن يكون منهجيا أو نظريا حول الدين والعادات والثقافة الخ. غير أنني اخترتُ من باب أنني أنتمي إلى هذا البلد، أن أتحاور مع الأنتروبولوجيين الذين كتبوا بصفة جدية حول الثقافة المغربية. الهدف الأساسي هو الحوار والنقاش. وهو نقاش ينطلق من إطار ما أسميته في الكتاب "علم اجتماع المعرفة"، أي علم اجتماع المعرفة العلمية. وربما لاحظتَ أن المقترب هو مقترب سوسيولوجي أكثر منه أنتروبولوجي. مقترب المادة الأنتروبولوجية هو سوسيولوجيا المعرفة لأن هناك نقط التقاء بين سوسيولوجيا المعرفة وبين تقاليد الأنتروبولوجيا. هذا هو الهدف انطلاقا من كوني أنتروبولوجيا ومن كوني مغربيا.
{ ألا توجد وراء هذه العودة إلى تاريخ البحث الأنتروبولوجي بالمغرب نزعة "تصحيحية" مغربية أو "محلّية" لنظرة الآخر إلى مختلف مكوّنات الثقافة المغربية. من ثمّ ربّما مفاهيم مثل الألفة والغرابة، القرب والبعد، بل وحتى عنوان الكتاب نفسه؟
هذا السؤال يُطرح دائما، ولأنه يُطرح دائما في كل هذه الأطر التي يكون فيها ما يمكن أن نسميه بالأنتروبولوجي المحلي، يناقش أنتروبولوجيا الغرباء أو الغرب الخ. لذلك انطلقت منذ البداية بتوضيح ما هي وضعيتي وما هي هويتي بالنسبة لهذا الكتاب، وقلتُ بأنني لا يمكن أن أتخلى عن مغربيتي بكل أبعادها الدينية والمحلية واللسانية، غير أنني لا أعطي لنفسي أيّ امتياز لكوني مغربيا وبالتالي أمتلك حقيقة لا يملكها غيري من الأجانب. لذلك ركّزت على كلمة "محاورة"، بمعنى أنني فد أخطئ كما أخطأ آخرون. ومن جهة ثانية، فقد حاولتُ أن أناقشهم ليس من زاويتي كمغربيّ، وإنما كباحث أنتروبولوجي يعرف اللغة الدارجة والعديد من الأشياء في الميدان بحكم مغربيتي، لكنني في الوقت نفسه تعلّمتُ الكثير من الأشياء في الميدان كنتُ أجهلها من قبل. وأشرتُ إلى تعلّمي من باحثين ومن كتابات مثل كتابات غيرتس حول المغرب مثلا، وكتاباته حول بعض الجماعات في أندونيسيا. ويطبيعة كنتُ ألاحظ بأن هناك استئناسا عندما يتحدث عن السوق وعن النسبة. صحيح أنني أتوفّر على معرفة، ولكن هذه المعرفة جد سطحية، لذلك أتعلم مع غيرتس كيف يمكن أن تذهب إلى عمق الأشياء. فهذه النظرة التصحيحية، إذن، غير واردة بالنسبة لي. وقد أشرتُ في الكتاب إلى أن هذا الهاجس كان موجودا، في عقديْ الستينيات والسبعينيات، وهو هاجس استئصال كل ما هو استعماري، وأنا أتفهّم وجود هذا الهاجس يومها. لقد كان هناك سياق وطني لا بدّ من تفهمه. ولو عشتُ أنا في تلك المرحلة لكنتُ استعملت نفس المعجم، ولكنني أنتمي إلى جيل آخر، غبر أنني أقول بأن ذلك الهاجس لم يفْض إلى شيء، فلستُ أدري ما معنى استئصال الأنتروبولوجيا أو استئصال العلوم الاجتماعية. وإذا كانت قد أفضت إلى شيء ما، فهو وجود بلاغة متكررة لا أقلّ ولا أكثر.
{ والباحثون الذين حلّلوا الدراسات الما بعد كولونيالية؟
الأشخاص الذين حلّلوا الدراسات الما بعد كولونيالية، إما انطلاقا من علم اجتماع المعرفة أو انطلاقا من التاريخ، فإنهم حاولوا أن يبرزوا ما هي الأشياء التي كانت نظرية أو كانت إبستيمية أو ثقافية، والتي كان من خلالها يتمّ إنتاج المعرفة الاستعمارية أو المعرفة الاستشراقية. وقد كانت كتابات إدوار سعيد فاتحة لهذا النوع من الكتابات.
{ تميّز في كتابك بين المحدّدات الاجتماعية لهؤلاء الباحثين، وبين المحدّدات النظرية. فهل كانتْ هذه الأخيرة مبرّرة للمحددات الاجتماعية أم العكس؟
أعتقد أن المفهوم المركزي في الكتاب هو ما سميته "الوضعية الإثتوغرافية"، بمعنى أنه لكيْ تدرس عملا ما للباحث الأنتروبولوجي، كيفما كان هذا العمل، فإنه يجب معرفة وضعيته الإثنوغرافية. وفي هذه الوضعية هناك عدة عناصر، من بينها في المحددات النظرية والمحددات الاجتماعية، وهناك محددات أخرى لها علاقة بالميدان مثل مدة الإقامة، وهي من بين العناصر الهامة جدا. هناك الرحلة وهي أبسط بحث ميداني إذا صح القول، والسؤال المعرفي المطروح هنا هو ماذا يمكن أن توفّره الرّحلة من معرفة حول المغرب كإطار خارج الوصف الذي تقوم به؟ ما الفرق مثلا بين شارل دو فوكو الذي كان يجول في بعض المناطق المغربية لمدة 11 شهرا، وإدمونْ دوتي أيضا الذي كان جوّالا وعالما رحالة، وبين فيسترماكْ الذي كان يستقر سنتين في عدة مناطق، أي أن مدة إقامته كانت طويلة. السؤال المطروح هو: ما هي آثار مدّة الإقامة حول معرفة المغاربة. هذه من بين الأسئلة التي طرحتها وحاولت الإجابة عليها.
الآن ما هو متعامل معه في الأنتروبولوجيا الحديثة هو أن الباحث يبقى على الأقلّ مدة سنة في الميدان، ثم يقوم فيما بعد بخرجات بين الفينة والأخرى. العنصر الآخر في الوضعية هو هل يحسن الباحث التخاطب باللغة المحلية أم لا، سواء أكان الأمر يتعلق بالأمازيغية أم بالعربية الدارجة أم الفصيحة. في المحددات الاجتماعية نتساءل: هل يقطن الباحث في المنطقة أم لا؟ وقد بينتُ أنه ظهر خلال الفترة الاستعمارية ما يسمى بالباحث القاطن أو المقيم. ويجب أن نأخذ بالاعتبار حين نقارن بين هذه الكتابات نلاحظ وجود تفاوت، فواحد مثل روني برونو عاش ما يربو على 20 سنة في المغرب، والشيء نفسه يصدق على جاك بيرك الخ. هذه كلها عناصر ينبغي أخذها بعين الاعتبار في تقييم أو نقد المعرفة حول المغرب. أما المحددات النظرية فهي جدّ مهمة لأنّ كلّ الأنتروبولوجيين الذين اخترتهم، باستثناء دوفوكو، فإن كانوا يحاولون أن يكونوا باحثين وفق المعرفة النظرية والأنتروبولوجية المتعارف عليها ذلك الوقت. بمعنى أنهم لم يكونوا إثنوغرافيين هواة. فيسترمارك ودوتي كانا معروفيْن على الصعيد الدولي، بل إن دوتي حاول أكثر من مرة التقرّب من دوركايم ومارسيل موس الخ. نفس الشيء مع روبير مونطان الذي كان معروفا في الجامعات الفرنسية، وكتابه عن "البرابرة والمخزن" هو أطروحة علمية وليس تقريرا على شاكلة ما كان يقوم به موظفو الإقامة الأهلية بالمغرب. صحيح أن لهذه التقارير أهميتها، ولا أقلل من شأنها، وإنما اخترتُ الكتابات العالمة لكي أبرز إلى أيّ حد يوثر الإطار النظري على معرفة المغرب، أو الثقافة المغربية، أو الروح المغربية. إلى أي حدّ يوجّه الإطار النظري هذه المعرفة. يوجهها بفرضيتها وبمعجمها الخ.
وإذا أخذنا "الطّبْع" كمفهوم، فإن الباحث إذا استعمل مفهوم الطبع، فإنه منذ البداية يستعمل عيونه النظرية التي توجهه نحو القيام بنوعيْن من جرد المعلومات: المساوئ والمحاسن، والرذائل والفضائل. تخيّل معي أنه عندما يكون شخص ما يدرس الثقافة المغربية، فهو لا يدرسها بصورة مباشرة بقدر ما تكون هناك وسائط ثقافية ونظرية، غير أنّ الذي يهمني الآن هي الوسائظ النظرية. ما هو المعجم؟ ما هي المفاهيم والنظريات التي يطبقها كي يعرف المغرب؟. إذا أخذنا مثال المنهج التطوري، وخصوصا عند إدمون دوتي، وإلى حدّ ما عند إميل لاووست، فإن السؤال الأوّل المطروح هو" كيف تتطور الأديان أو الثقافات؟ مفهوم التطور وكلمة التطور ومفهوم الأصل، ما هو أصل الأديان؟ جد مهم. فأنت عندما تطرح مثل هذا السؤال، فإن وصف ما يفعله المغاربة اليوم يصبح ثانويا، حيث يبقى الهدف هو الوصول إلى الديانات الأولى لما قبل الإسلام. فعندما يكون عندك مثل هذا الهاجس، وهو بطبيعة الحال يدخل في إطار المنهج التطوري، فهذا يفضي بك إلى ما يجب وصفه، هذا أوّلا، ثم إلى تأويل هذا الذي يجب وصفه انطلاقا من المنهج. لذلك حاولت في الكتاب ككل أن أبرز إلى أيّ حدّ يكون المنهج النظري عبارة عن نظّارات تسمح لك برؤية شيء وتغييب أشياء أخرى.
{ ما الذي يجعلك تقول إنه من باب الاختزال، بل والخطأ، اعتبار الأنتروبولوجيا الكولونيالية مجرد انعكاس للإيديولوجيا الاستعمارية، وتابعا رديئا للسياسة الاستعمارية، مع أن معظمهم كانوا موظفين استعماريين (بيرك، هاردي، برونو، مونطان الخ)؟
عندما تحدثتُ عن الإطار النظري، وقلتُ إن هذه هي أهميته، لم أغفل كل ما له علاقة بالإيديولوجيا الاستعمارية. غير أنني أميّز بين الوقت الذي يكون فيه الباحث، مثل دوتي، يتحدث كباحث وبين أن يكون موظفا يقدّم نصيحة ذات بعد إيديولوجي. فدوتي، على سبيل المثال، له قبّعتان اثنتان: قبعة الرحالة، الباحث، العالم، الذي له مرجعية جورج فريزر وروبير تايلور والمدرسة الأنتروبولوجية عموما، وكذلك المدرسة الاجتماعية الفرنسية. في هذا السياق يندرج كتابه "السحر والدين في أفريقيا الشمالية"، الذي هو مبحث أتروبولوجي بامتياز. ولكن هناك كتابات أخرى له يتحدث فيها انطلاقا مما سمّيته "المعرفة المحلّية"، محلي معناه كل معجم ليس له بعد كوني ودولي، وكل معجم متعارف عليه بين الباحثين في البلدان المغاربية فقط. من هنا مفهوم البرَكة ومفهوم المخزن ومفهوم السيبة إلخ. في هذه الحال الأخيرة بطبيعة الحال تكون الإيديولوجيا حاضرة. لذلك فإن النصائح التي يقدّم للإدارة الاستعمارية هي نصائح انطلاقا من إيديولوجيا أوّلا، وانطلاقا كذلك من معرفته الأنتروبولوجية. فهو يزاوج بين الاثنين. فعندما كان إدمون دوتي يقول للإدارة الاستعمارية: يجب عليكم ألاّ تعتمدوا على القيّاد، وإنما اعتمدوا على الزوايا، وحين كان يقول إنّ كل ما له علاقة بالدين وبالزوايا هو علاقة دائمة لا تمّحي، في حين أن العلاقات السياسية هي علاقات عابرة، وبالتالي يجب الاعتماد على رؤساء الزوايا أو على مريديها، وليس على القيّاد، فإنه كان ينطلق من القبعة الثانية التي تجعله يوظّف المعرفة لخدمة الإيديولوجيا الاستعمارية. ومن هنا فإنّ للتبريرات علاقة بالمعرفة الأنتروبولوجية. ولا يهمّ هنا أن تكون خاطئة أم صائبة. المسألة ليستْ أنه إيديولوجي ويحاول أن يعبّر عن إيديولوجيا كولونيالية، إنه يحاول أن يوظّف معرفته الأنتروبولوجية لصالح الإدارة الاستعمارية، كما يفعل اليوم أيّ خبير يوظف معرفته العلمية لصالح دولة أو لصالح مقاولة أو منظمة عالمية. غير أن الإيديولوجيا الاستعمارية سوف تأخذ فيما بعد شحنة سلبية، لكن في ذلك الوقت لم يكن الأمر كذلك، وكان الباحثون لا يخجلون من القيام بذلك بصورة صريحة لا غبار عليها. ما يهمّني أنا هو هذا التزاوج بين الاثنين. لذلك إذا قلنا الإيديولوجيا الاستعمارية فإننا لن نفرّق بين لماذا يستعمل دوتي المنهج التطوري، في وقت لم يحلّ الاستعمار الفرنسي بالمغرب بعد، فقد اشتغل على المغرب قبل 1912، وبين لوي برونو وجورج هاردي اللذيْن كانا في الإدارة الاستعمارية، وبين جاك بيرك الذي كان بدوره في الإدارة الاستعمارية. فإذا خلطنا بين هؤلاء جميعا، بدعوى أنهم كانوا موظّفين استعماريين، يدافعون عن إيديولوجيا، فإننا لم نفهم الأطر النظرية لكل واحد منهم. جاك بيرك كان مؤرخا وسوسيولوجيا وأنتروبولوجيا، في حين كان برونو وهاردي يهتمان بما كان يسمى وقتها بعلم النفس الجماعي. أظن أنه حين نقول بأن هؤلاء يوظفون علم النفس الجماعي، سيكولوجيا التقابلات، وعندما أبيّن بأن جاك بيرك كان مهتما أكثر بتاريخ البنيات الاجتماعة أو الفقه القانوني، فأنا لا أغفل الجانب الإيديولوجي الذي ليست له أهمية إلاّ بمقارنته بالجانب المعرفي. وباختصار، فإن الذي يهمّ أكثر ليس كونهم كولونياليين، وإنما بالأحرى الإطار النظري الذي اشتغلوا وفقه.
{ في كتابك تحلل أعمال باحثين وفق تقسيم ثلاثي: مرحلة ما قبل الاستعمار (شارل دو فوكو، مولييراس، سالمون، ميشو بيلير، إدمون دوتي، فيسترماك)، ومرحلة الاستعمار (إميل لاووستْ، روبير مونطان، بلرونو، هاردي، جاك بيرك)، ومرحلة ما بعد الاستعمار (غيلنر، هارتْ، واتربوري، غيرتزْ). فهل هذه الحدود الزمانية فاصلة إلى هذا الحدّ بين هذه الأعمال من حيث المحتوى والمنهج؟ أم أنّ هذا التقسيم هو مجرّد إجراء منهجيّ؟
المهم في هذا التقسيم هو أنه كانت هناك مرحلة استعمارية، من سنة 1912 إلى سنة 1956؛ وهذه المرحلة تفاوتتْ بحسب المناطق. وعندما أتحدث عن الإطار النظري، وعن الوضعية الإثنوغرافية، وعن موظّفي الدولة، فإنه كان من الضروريّ أنْ آخذ بعين الاعتبار الحقبة الاستعمارية. وقد اخترتُ خمسة نماذج بدتْ لي هي الأهمّ، وذلك لأنّ هناك فرضية تقول بأن هناك عدة نظريات لا بمكن أنْ تُفعّل إلا إذا كان ثمّة استقرار استعماري. فإدمون دوتي كان رحّالة وكذلك شارل دو فوكو. فهما معا يعطيانك مسْحا عاما، لكن مع باحث مثل جاك بيركْ كان هناك قضاء وكانت هناك إدارة الخ، أيْ أن العديد من الشروط التي سمحت له بالقيام بما قام. من بين الأشياء التي ساعدت على نجاح الوظيفية هو الاستقرار الاستعماري. فقبل الاستعمار كان المسح المستند إلى المنهج التطوريّ. مع مالينوفسكي أوّل واحد سيبقى في نفس المنطقة مدة سنتيْن. وضعية مالينوفسكي تجعلنا لأنّ نقول أنه بالإمكان دراسة جماعة معينة، وأن أدرس العلاقات بين كل الظواهر الاجتماعية، وأن أدرس التكامل بين كل الظواهر سواء دينا أو اقتصادا الخ. هذا جانب جدّ مهمّ لأن الفترة الاستعمارية كان فيها استقرار وأمن، واستقرار لموظفين استطاعوا البقاء في منطقة محددة لمدة 20 سنة. الاستثناء الوحيد كان هو فيسترماك، فقد كان هذا الأخير فنلنديا، وكانت فنلندا مستعمرة من طرف روسيا، بالتالي حاول دراسة مجتمعات مماثلة، غير أنه حين جاء إلى المغرب بدا له المجتمع معقّدا ويحتاج إلى مدة أطول.
هذا هو المعنى الذي يمكن أن يُعطى لهذا التحقيب. بعد الاستعمار سوف يصادف دخول أنتروبولوجيين أنجلوساكسونييّن بالخصوص الذين سوف يعملون في الإطار المتعارف عليه. لا علاقة لهم بالاستعمار، يأتون، بين الفينة والأخرى، إلى المغرب لقضاء العطل ويبقون سنة بكاملها للبحث مع زوجاتهم وطلبتهم بمنح. هؤلاء لهم مسار آخر، وتجربة أخرى مخالفة، ذلك أنّ مغرب ما بعد الاستعمار سيسمح بهذا النوع من الدراسات. ما أريد قوْله هو أن التحقيب في حدّ ذاته جاء في الكتاب كعنصر من العناصر التي تبرز بعض القطائع في أساليب البحث وفي طبيعة المعرفة، لكنها ليستْ عنصرا محدّدا.
{ يبدو من خلال تحليل ونقد المراحل الأنتروبولوجية الثلاث، أنّ ما تؤاخذه على المقاربات الأنتروبولوجية هو منهجها الاختزالي، ورؤيتها التعميمية، أي اعتمادها على ما أسميته "الصيغة-المصفوفة". من هنا ربّما مفهوم الطبع باعتباره مجموعة من المزايا والسلبيات، من الفضائل والرذائل التي تسم المغاربة.
أظنّ أن الأهمّ بخصوص هذا النوع من الدراسات، التي تحاول أن تقارب وتصف ثقافة شعب ما، وأمّة ما، هو أنّ التعميم لم يكن شيئا بديهيا في البداية. ذلك أنّ الأنتروبولوجيا كانتْ حبيسة توجّهيْن اثنيْن: توجّه تطوّري كان يتّخذ من الإنسانية إطارا للبحث، هذا هو أصل الأنتروبولوجيا التي تهتم بعلم الإنسان. ما كان يهمّ الأنتروبولوجي آنذاك هو أنْ يدرس جماعة ما أو جماعات ما، ويستخرج كلّ ما هو إنسانيّ في هذه الجماعات، ما هو مشترك، وكلّ ما محلّي لم يكن يهمّه: قوانين السحر أينما ذهبت، عند الهنود كما عند الإغريق والمغاربة، وهذا يتعلق كذلك بالأخلاق وبالدين. المرحلة الثانية هي المرحلة الوظيفية التي كان فيها الأنتروبوجيون يهتمّون فيها بدراسة جماعة ما وعشيرة ما. ويبقى المستوى المتوسط ثقافة الأمم كان غائبا، إلى حدود عقد الأربعينيات حيث بدأ الشروع في الحديث عن الثقافة الروسية مثلا أو الثقافة اليابانية، أيْ بدأت دراسة ما يسمى "الطبع الوطني" لأمّة ما. هذا لأقول بأنّ الحديث عن شعب بكامله لم يكن واردا من قبل. والشذرات التي كنا نجدها عن كلّ من دوتي وفيسترماك أو عند دو فوكو، الذين تحدثوا عن الطبع عند المغاربة، كانت جدّ ضعيفة. أما أندري برونو وجورج هاردي فأنا أعتبرهما، اللّهمّ إلا إذا كانت هناك أسماء أخرى لم أدرسها، هما أوّل من تحدّث بصفة منتظمة، وهذا لا يعني أن الآخرين لم يتكلموا عن المغاربة، وإنما المقصود هو أن شغلهما الشاغل كان هو كلّ مظاهر الحياة وليس فقط دراسة التديّن عند المغاربة كما هو الشأن مع فيسترماك. لهذا عندما درسا الذهنية المغربية لم يقتصرا على الدين فقط، بل كذلك العادات والسلوك وقواعد الضيافة والعيْن والسحر، أي عدد كبير من الجوانب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.