حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . لي قريب تنطبق عليه مقولة ( رب أخ لك لم تلده أمك ) اسمه رشدي ، وهو ابن خا ل والدي ويكبرني بحوالي سنة واحدة . ليس هذا هو المهم في علاقتنا ، حيث أننا كبرنا وتربينا معا ودرسنا المراحل الإبتدائية والإعدادية والثانوية معا ، وحتى عندما سافرت إلى المغرب للدراسة فعلت المستحيل حتى لحق بي في نفس العام ، ولازلنا كذلك رغم مرور ستين سنة على ذلك . كان الخال أبو رشدي تاجر مواشي ، يرتاد الأسواق فيشتري بضعة رؤوس من الأغنام يأتي بها إلى منزله الذي كان له حوش واسع فيقوم بتسمينها بعض الشيء ، ثم يذهب بها إلى سوق آخر ليبيعها ويربح منها قليلا من المال يعيل به أسرته الكبيرة . حيث لم تكن بنيته الجسدية تؤهله للعمل في أعمال شاقة ، وليس لديه صنعة يمكن أن يعتا ش منها . ذات يوم جاءني رشدي وقا ل لي : ستبيت عندنا الليلة ، فسألته ولماذا الليلة بالذات ؟ فقال لأنك ستذهب معي في الليل إلى نابلس . فقلت : وماذا سنفعل في نابلس ؟ فقال لي : كما يقول المثل ( دعوا الحمار إلى العرس فقال : إما لنقل الحطب أو لنقل الماء أو لنقل المدعوين ) سوف نقود غنمات خالك أبو رشدي إلى سوق المواشي الذي ينعقد صباح كل يوم جمعة جنوب مدينة نابلس. فكان من الطبيعي أن ألبّي طلبه ، وبعد منتصف الليل سقنا الأغنام وتوجهنا بها إلى السوق الذي يبعد عن مخيمنا بحوالي خمسة عشر كيلومترا . لقد كانت مهمتنا تتلخّص في السيرعلى الشارع الإسفلتي وراء الأغنام ، متنبّهين إلى خطرين : الأول خطر السيارات المارّة على الطريق ، ولم يكن هذا مزعجا في الجزء الأول من الطريق الذي يمتد بين المخيم وملتقى الطريق الرئيسي الوحيد الذي يربط بين نابلس والجسر المقام على نهر الأردن والمؤدي إلى عمان ، وبعدها يصبح من اللازم علينا تجميع الأغنام على جانب واحد من الطريق كلما مرت سيارة . وكان الخطر الثاني يتمثل في الوحوش التي تكثر في المنطقة كالثعالب والضباع . من هنا كان كل واحد منا متسلحا بعصى طويلة وقوية ، ليس للدفاع وإنما للهجوم. استغرقت الرحلة أكثر من خمس ساعات لأننا كنا نسيربسرعة مشي الأغنام ، وعلى طريق في معظمها صاعدة . ولم نتنفس الصعداء إلا بعدما بدأت خيوط الفجر بالتسلل عبر الجبال المحيطة بنا ، ووصلنا إلى سوق المواشي حوالي الخامسة صباحا . وفي حوالي الساعة السادسة وصل الخال أبو رشدي على متن الحافلة ، نزل وأشار إلينا من بعيد بإن نتجه إلى نقطة معينة . توجه نحونا عدد من الرجال الذين يبدو من هيئتهم أنهم إما تجار أو جزّارين ، وبعد فترة من الحديث بينهم وبين الخال أبو رشدي ، أشار لنا بأن نترك الغنم ونتبعه ، الامر الذي فهمنا منه بانه باع القطيع كله ، وفرحنا لاننا لن نكون مضطرين للعودة بما تبقى من القطيع بنفس الطريقة التي اتينا بها . مشينا خلف الخال دون أن ننبس ببنت شفة ، إلى أن وصلنا إلى مطعم شعبي في مخيم بلاطة المجاور للسوق ، وجلسنا معه صامتين أيضا على كراسي واطئة مصنوعة من القش حول طاولة خشبية ليست على جا نب من المتانة أو النظافة ، ودون أن يستشيرنا طلب طبقين من الحمص وطبقا من الفول ، وأوصى صاحب المطعم بأن يزيد من كمية زيت الزيتون على الأطباق ، وأن يحضر كثيرا من الزيتون والفجل والفلفل وبالطبع من الخبز . كنا في حالة من الجوع لا توصف ، فأتينا على كل ما على الطاولة ، ثم طلب لكل واحد منا كأسا من الشاي . وبعد الإنتهاء من شرب الشاي وقف واتجه إلى جانب الشارع المؤدي إلى مخيمنا ، وبعد قليل وصلت الحافلة ، فناول السائق أجرة ركوبنا التي كانت على ما أظن قرشين ، وعاد أدراجه إلى السوق بحثا عن صفقة أخرى . وعدنا إلى المخيم رغم كل تعبنا ، نتباهى بأن كل واحد منا أكل وحده صحنا من الحمص ، الأمر الذي كان بالنسبة لإقراننا هدفا صعب المنال . وعلى ذكر أغنام الخال أبو رشدي ، أتذكر أن رشاد /ابن خالي كان وهو في الثالثة عشرة من عمره يرعى أغنام أبيه ذات يوم ، وقد غفل عنها فدخلت حقلا من القمح في سفح أحد الجبال القريبة من مخيمنا ، فانتبه أبناء صاحب الحقل لما حدث وهجموا وهم أربعة رجال كبارعلى الصبي رشاد يريدون ضربه . فما كان من رشاد إلا أن صعد الجبل وبدأ يقذفهم بالحجارة وأصابهم بجروح متفاوتة ، فتوجهوا إلى مخفر المخيم وقدموا شكاية لقائد المخفر الذي كان يسمى أبو هاني ( نايل المجالي ) السالف الذكر وهو بدوي من الكرك فأمربإحضارالمشتكى به ، وعندما أحضرت الشرطة رشاد وعاينه أبو هاني ، سأل الرجال الأربعة : هل هذا الولد الصغير هو الذي ضربكم ؟ فأجابوا نعم ، قال لرشاد : إرجع يا ولد إلى داركم والله يبارك فيك ، تقديرا لجرأته وشجاعته . وتلفّت للرجال الأربعة وقال لهم : لعن الله أمثالكم ممن يحطّون من قيمة الرجال ، وطردهم من المخفر . كانت المنطقة المحيطة بمخيمنا مرتعا للكثيرمن الوحوش وخاصة الضباع والثعالب وبنات آوى . فهي منطقة جبلية وعرة فيها وديان سحيقة وكثير من المغارات ، وجزء منها مكسو بما يشبه الغابات من شجيرات، أو كما يسمى عندنا ( الأحراش ) ، إضافة إلى كونها وهي منطقة واسعة نسبيا ، ليست آهلة بالسكان أو يمكن القول أنها قليلة السكان ، حيث كان مخيمنا يقع بين خمس قرى متباعدة هي طوباس وطمّون وطلوزة وياصيد وسيريس . من هنا كانت حكايات الوحوش وخاصة الضباع متداولة كثيرا بين أهالي المخيم . ظل الضبع با لنسبة لي مجرد حكاية تحتمل التصديق والتكذيب ،إلى أن أوشكت على بلوغ سن السادسة عشرة . ذات يوم من أيام العطلة الصيفية ، جاء إلى بيتنا أحد أبناء المخيم ليخبرني بأن عمي أبوغسان يريدني أن أذهب عنده إلى ( المقثاة ) والمقثاة بالتعبير الفلسطيني تعني المزرعة الصيفية التي يزرعها الفلاحون بالبطيخ والشمام بالدرجة الأولى ، إلى جانب بعض الخضروات البعلية ( البورية ) كالطماطم والخيار والفقوس واللوبياء والبامية ? ويسميها المغاربة الملوخية . كان عمي أبوغسان قد استأجر أرضا على أقدام وسفح جبل طمّون على بعد حوالي ثمانية كيلومترات من المخيم وزرعها مقثاة . كان ذلك اليوم يوم أربعاء ، وفي صباح يوم الخميس أعطتني أمي بعض الأرغفة وتوجهت مبكرا مشيا على الأقدام إلى المقثاة ، حيث كان أمرا بديهيا بحسب التقاليد العائلية أن أنفّذ أوامر وطلبات أعمامي . استقبلني عمي أبوغسا ن بترحاب ، ثم أخذني وطا ف بي في أرجاء المقثاة حتى وصلنا إلى سفح الجبل . هناك وجدنا عددا وافرا من ثمار البطيخ الذي يسمى في المغرب ( دلّاح ) وفي العراق ( رقّي ) وفي الجزيرة العربية ( حبحب ) ، وكانت تلك الثمار قد كبرت ونضجت ، وقال لي : على هذه يعتمد موسمنا هذا العام ، خللي بالك منها مخافة أن تأتي الثعالب وبنات آوى لتأكلها ، وكان كلامه التحذيري يتضمن أن ذلك سيتم تحت طائلة العقوبة . وشق طريقه باتجاه المخيم ، تاركا لي عصا وفانوسا يشتغل ببطاريات صغيرة ، لأراقب المقثاة خلال الليل . قضيت النهار مرتاحا ، متمددا بعض الوقت تحت العريش الذي أقامه عمي من عيدان القصب الذي يكثرفي المنطقة وأغصان الأشجار وحزم القش ، ومستمتعا بأكل الخضار المتوفرة في المقثاة مع الأرغفة التي أحضرتها معي من المخيم . وللخضار البريّة طعم متميّز ورائحة نفّاذة لا تتوفر في الخضار المسقيّة. وظللت على هذه الحال إلى أن حل الظلام ولم يعد الناس يمرون من منطقة المقثاة . هنا ابتدأت فترة الحراسة الجديّة عندي ، فأخذت أتمشّى بين أتلام البطيخ وأنا أتغنّى بالأبيات الشعرية التي أحفظها وبالأغاني الشعبية الفلسطينية ، وأعتقد الآن أن غنائي ذلك كان من باب تسلية النفس من جهة وتشجيعا لها في الظلام الدامس الذي لابد وأن يثير في النفوس شيئا من الخوف وخاصة لمراهق في مثل سني . كنت أتمشّى بعض الوقت ، وعندما أتعب أجلس بين أتلام البطيخ ، ثم أقوم ثانية وأتابع تحركاتي ودوراني الذي كان دائما حول منطقة البطيخات الكبيرات وقريبا منها ، لأن توصيات عمي أبو غسان لم تبرح مسمعي . واستمرّيت على هذه الشاكلة إلى ما بعد منتصف الليل بكثير ، وبدأ التعب يدبّ في أوصالي والنعاس يتسرب إلى عيوني ، فقررت أن أقوم بجولة أخيرة قبل الذهاب للنوم في العريش . علّمني عمي أبو غسان قبل أن يذهب بأن عيون الوحوش عندما يصادفها ضوء المصباح أو السيارة فانها تلمع ، وبعضها مثل الأرانب إذا سلّطت عليها الضوء فإنها تصاب بحالة من الجمود ، ويمكنك أن تظل مسلّطا عليها الضوء وأنت تتقدم نحوها حتى تصلها وتمسكها بيدك . وهكذا كنت وأنا أجول في أرجاء المقثاة أطلق أضواء المصباح هنا وهناك لإخافة الوحوش المفترضة ، أو أملا في العثور على أرنب آخذه معي لتفرح أمي وأخوتي به . وفي جولتي الأخيرة وبينما كنت أقترب من سفح الجبل ، لمع ضوء المصباح في نقطة بعيدة مما ينبيء بوجود وحش ( ما ) في المقثاة . ظللت أبحث بالمصباح عن النقطة التي إلتمع بها ضوء المصباح حتى عثرت عليها ، وأخذت أتقدم منها حتى وصلت إلى أقل من عشرين مترا منها ، فإذا به ضبع رمادي اللون إمتداد جسمه وإرتفاعه لا يزيدان كثيرا عن الكلب ، يحشر فمه في جوف بطيخة ويمتصّ ما في جوفها. ظل الضبع على حاله حتى إقتربت منه وأنا أصرخ في وجهه وأرميه بالحجارة ، فرفع رأسه ببلادة ونفض شعره وتوجّه نحو الجبل وغاب بين الصخور . كان من الطبيعي أن يتبخّر النوم من عيوني وأن أنسى التعب ، وأن ازداد تيقظا خوفا من عودته وفتكه بمزيد من البطيخ ، مما يعني تعرّضي للعقوبة من عمي أبو غسان . بقيت مستيقظا حتى طلع الفجر وبدأ أهالي المنطقة بالمرور قريبا من المقثاة ، فاستسلمت للنوم حتى وقت الظهيرة . ولما صحوت توجهت نحو منطقة البطيخات الكبيرات ، وحمدت الله على أن الضبع لم يأكل سوى بطيخة واحدة هي تلك التي فاجأته وهو يأكلها . بعد العصر بقليل ? أي بعد أن صلّى عمي أبوغسان الجمعة وتغدّى ? أطلّ قادما من ناحية المخيم ومتوجها مباشرة نحو منطقة البطيخات الكبيرات ، فتوجهت نحو نفس الصوب والتقينا عند البطيخة التي أكلها الضبع ، فقال لي ممازحا ( علّمت عليك الثعالب ؟ ) وأضاف : ما دامت بطيخة واحدة فالأمر بسيط . فقلت له بشيء من السخرية : ولماذا لم تقل الضبع ؟ فرد بشيء من البرود : وهل جاءك الضبع ؟. فقلت له نعم ، وأضفت بنبرة أعلى : ولكن لماذا لم تخبرني قبل ذهابك بوجود الضبع في المنطقة ؟ فأجاب بشيء من اللا مبالاة الضاحكة : لعلمي أنك راجل ولن يخيفك لا ضبع ولا سبع ، وضحك فضحكت معه مع أنني قلت في نفسي ( لعلّه خشي أن يخبرني بوجود الضبع ، فأخاف أو أتردد بالمبيت في المقثاة) . الغريب في الأمر أن هذه الحكاية ظلت عالقة في ذهني ، وأحببت أن يعيش إبني سفيان حالة مشابهة وهو في مثل سني حينها ، لأنزع من نفسه الخوف . ولذلك عندما عرض علي إخوة من( الكشفية الحسنية المغربية ) أن يشارك معهم سفيان ، وأن يبيت في غابة المعمورة شمال الرباط هو وأحد زملائه في العراء وحدهما ، لم أتردد وأرسلته . وكم كنت سعيدا عندما عاد وأخبرني بأنه لم يشعر بأي شيء من الخوف . في الصيف الموالي أي صيف سنة 1962 كان لنا موعد مختلف عما تعوّد نا عليه في العطلات السابقة ، ذلك أننا كنا منذ بداية العطلة نبحث عن أي عمل نوفّر منه بعض النقود للمساهمة في نفقات عامنا الدراسي ، وقد يكون هذا العمل في كسّارات الحجارة أو في مشاريع التنقيب عن الآثار أو بشراء كميات من الخضاراو الفواكه ? البطيخ بالذات ? وبيعها . وللبطيخ حكاية طريفة في ذاكرتي ، ذلك أن بعض التجار كانوا يأتون الى منطقة جنين لشرا البطيخ (وكانت منطقة جنين أشهرمناطق إنتاج البطيح في فلسطين ) وتصديره إلى دول الخليج ، وكانوا يحضرون معهم خبراء في تخمين كمية البطيخ ليحددوا على أساسها سعر المقثاة ككل . وكانوا يأتون بشاحنات ضخمة لتحميلها بالبطيخ ، وهم بحاجة لعمال يساعدونهم في جني البطيخ ووضعه بشكل منظم في الشاحنات ، وكانوا يرون طلبة المدارس أصلح لهذه المهمة من العمال العاديين ،وكنا ننتظر الشاحنات مع الفجر حتى نبدأ عملنا قبل إشتداد الحرارة . وذات مرة توغّلت في أرض مزروعة بالسمسم لقضاء حاجتي ، وبينما كنت عائدا إلى مكان العمل وجدت عشبة غريبة فاقتلعتها وجئت إلى المكان وأنا ألوّح بها ، وفجأة هجم عليّ صاحب المزرعة الذي كان متواجدا معنا يريد أن يضربني واختطف العشبة من يدي وهو يسبّني ويقول للتاجر بأن لا يحضرني معه للعمل في الغد . وبينما كنا راجعين بالسيارة عبر المخيم أخبرني سائق السيارة أن تلك العشبة هي حشيش يزرعه صاحب الأرض خفية بين السمسم ، وصاحب المزرعة أحد إقطاعيي المنطقة وهو محمي لكونه صهر أحد الأمراء . ولابد من التنويه أن أجرتنا كانت مرتفعة نسبية ، زيادة على أن من حق كل واحد منا أن يأخذ معه بطيخة ، شريطة أن لا تكون سليمة . فكنا نعمد إلى البطيخة الكبيرة فنكسرها كسرا صغيرا ونأخذها . في هذا الصيف تفتّقت قريحة رئيس وزراء الأردن وصفي التل ، وهو بالمناسبة رجل دولة بامتياز رغم كراهية الفلسطينيين له لكونه ولغ في الدم الفلسطيني اثناء احداث سنتي 1970 و 1971 في الأردن والتي سقط ضحيتها آلاف الفلسطينيين وانتهت بإخراج الثورة الفلسطينية من الأردن . تفتّقت قريحته عن مشروع أطلق عليه ( معسكرات الحسين للجندية والبناء ) يؤخذ إليها قسرا التلاميذ الذين سيتقدمون في العام المقبل لامتحانات الثانوية العامة / التوجيهي أو البكالوريا. وكان المقصود في حينها إشغال طلبة هذه المرحلة طيلة العطلة وإبعادهم عن العمل السياسي ، ذلك أن الساحات العربية في تلك الفترة كانت تمور بحراك خطير وصلت بعض شظاياه للأردن ، ويخشى النظام أن يغرق فيه . أقيم معسكر في منطقة جرش لتلاميذ الضفة الشرقية ، ومعسكر آخر في بلدة طوباس لطلبة الضفة الغربية . ولم يكن برنامج المعسكر يتضمن أي برنامج توعوي أو تثقيفي ، وإنما كان يشمل أمرين لا ثالث لهما : الأول عمل يدوي في فترة الصباح , يقوم خلاله التلاميذ بتجريف وترصيف طرقات جديدة أو حفر حفرات كبيرة من أجل زرعها بأشجارغابوية في بداية فصل الشتاء . والثاني تدريب عسكري في المساء ينصبّ على التدرب على المشية العسكرية والدوران إلى اليمين والشمال والخلف ، وكيفية تأدية التحية العسكرية وكيفية حمل السلاح وفكّه وتركيبه ، مع الإشارة إلى أننا لم نطلق طيلة الدورة سوى خمس رصاصات من بندقية انجليزية عاصرت ايام الحرب العالمية الأولى أو الثانية. وفي الليل يقيم التلاميذ سهرات تحتوي في غالبيتها على دبكات وتقديم أغان من التراث الشعبي ، حول نار المعسكر التي كان إنطفاؤها يعني إنتهاء السهرة والذهاب إلى النوم . كان القائمون على المعسكر، وهم بعض العسكريين وبعض المدنيين الذين كانوا على الأغلب من المخابرات ، يطبّقون علينا القوانين العسكرية بكل صرامة ، من حيث الإستيقاظ المبكر والوقوف في الطابور والزحف والهرولة والجري ... الخ . وكنا نقوم ببعض الواجبات العسكرية كالحراسة الليلية من الثامنة مساء إلى الثامنة صباحا ، حاملين بنادق انجليزية ليست محشوة بالرصاص . وكانت الحراسة تتم يوميا بحسب ترتيب أسمائنا أبجديا ، فيتم إختيار رئيس للحرس وخمسة عشر حارسا يتولى كل خمسة منهم الحراسة لمدة أربع ساعات. لم يصلني الدور إلا قبل انتهاء المعسكر بأيام بسبب أن إسمي يبتدئ بحرف الواو , وشاءت الصدفة أن أكون رئيسا للحرس . بعد تناول العشاء ، جمعنا أحد ضباط المعسكر وأعطانا تعليماته ، بحيث ذكر اسماء الخمسة الذين سيحرسون في نوبة الحراسة الأولى ثم حرّاس النوبة الثانية ثم النوبة الثالثة , وقال أن على رئيس الحرس أن يبقى مستيقظا متنقلا بين مواقع الحرّاس طيلة مدة حراستهم ، وعليه إحضارأفراد الدفعة التالية من الحراس ووضعهم إلى جوارزملائهم قبل خمس دقائق من إنتهاء فترة الحراسة. ولم ينس أن يؤكد على أنه ممنوع على أي كان دخول المعسكر طيلة الليل حتى ولو كان الملك حسين نفسه ، والذي لو حدث وجاء فعلى رئيس الحرس إخبار قيادة المعسكر لتتصرّف . وهكذا ظللت طيلة تلك الليلة مستيقظا أدورعلى المواقع ، وفي حوالي الخامسة صباحا رأيت موكبا طويلا من السيارات على الشارع العام الذي يمر من أمام المدرسة التي يقام على ساحتها وملعبها المعسكر ، فخمّنت أن الموكب لابد وأنه قادم إلى المعسكر ، فهرولت باتجاه الباب الرئيسي للمعسكر ، ووقفت إلى جانب الحارس المكلّف . وصل الموكب وفي مقدمته سيارة امريكية سوداء اللون طويلة عريضة ، يجلس فيها إلى جانب السائق ضابط ببزّته العسكرية ، وفي الخلف يجلس رئيس الوزراء وصفي التل الذي كنت أعرفه من صوره التي طالما نشرتها الصحف الأردنية . تركت باب المعسكر مقفلا وتقدمت باتجاه الموكب ، فنزل الضابط وقال بصوت عال : افتح الباب يا عسكري . فقلت بهدوء : هل معك إذن بالدخول؟ فرد عليّ بحدّة أكبر : هذه سيارة دولة رئيس الوزراء الباشا وصفي التل . فقلت وأنا أغالب إضطرابي : أعرف ذلك ، ولكنكم لن تستطيعوا دخول المعسكر لأنكم لا تتوفرون على إذن .. انتظروا هنا حتى يذهب الحارس ويخبر قائد المعسكر ليحضر. الأمر الذي أدهشني وحفظته في ذاكرتي طيلة هذه المدة ، أن وصفي التل نادى على الضابط المرافق ، وأمره بان يبقى واقفا حتى مجيء قائد المعسكر . وما هي الا لحظات حتى حضر قائد المعسكر وفتح الباب بنفسه داعيا الموكب للدخول ، وجرى إلى جوار السيارات حتى وقفت في وسط الساحة ، وبالطبع جريت معه ووقفت إلى جواره. نزل رئيس الوزراء ومرافقوه من السيارات ، فأدّينا قائد المعسكروأنا التحية لهم وتقدمنا للسلام عليهم . صافح رئيس الوزراء قائد المعسكر، ولما تقدمت منه ربّت على كتفي قائلا : بارك الله فيك ، أدّيت واجبك يا ابني .